أجمل المشاهد التي تراها في مصر وتعبر عن الروح المصرية اثنان.. صلاة العيد في الخلاء.. وموائد الرحمن في رمضان. وموائد الرحمن منذ عهد أحمد بن طولون وحتي الآن أحد مظاهر التكافل الاجتماعي وإحساس الغني بالفقير وعابر السبيل والمجندين وأفراد الحراسات الخاصة والمنشآت الحكومية في صورة تقديم الطعام للصائمين منهم، ولكن هذا لا يمنع وجود فئة أخري تزاحم الفقراء لقمة العيش.. ندعوك لتناول طعام الإفطار علي إحدي موائد الرحمن ولكن يجب أولاً أن تحدد نوع الوجبة التي تفضلها. عاوز تاكل رومي ولحم مدخن يبقي مائدة فيفي عبده في جامعة الدول، عاوز تاكل وتاخد فلوس يبقي عند شريهان في الزمالك والمنصورية، عاوز سمك علي أعلي مستوي يبقي دينا في المهندسين، عاوز تاكل مشاوي فايف ستارز من عند أحسن الفنادق في مصر تبقي خيم أصحاب السياسة. عاوز تاخد الأكل معاك وتفطر مع الأولاد في البيت يبقي جامع مصطفي محمود، عاوز تاكل حسب التساهيل وسط الناس الغلابة يبقي باقي الموائد في مختلف أحياء القاهرة.. الجمالية وشبرا والحدايق والزيتون.. مش عاوز تاكل خالص.. اتفرج معانا علي بعض هذه الموائد. في حي بولاق أحد الأحياء الشعبية في القاهرة امتدت موائد يفوق عددها السبعين تكفي لإطعام ثلاثمائة شخص تقريباً، ورغم نظافة الموائد إلا أن الإقبال عليها لم يتعد النصف!! حتي هذا النصف جاء في اللحظات الأخيرة، جاءوا فرادي، بعضهم عمال أو عاملو نظافة أو عابرو سبيل- يعني مضطرين- ولم تكن هناك عائلات كما في باقي الموائد أسرة واحدة هي التي تطوعت بالمجيء.. سيدة سمينة في الخمسينيات معها ابنها وزوجته وأحفادها الثلاثة.. كان واضحا من جرأتهم في الدخول أنها ليست المرة الأولي وما أن وضع الطعام أمامهم حتي صرخت: بيض- حد يفطر الصايمين بيض- ثم نظرت إلي ابنها وأكملت: ما أنا قلت لك يا مايل تعالي نروح خيمة بوسي سمير في الميدان عملت لي فيها شيخ-! وفي دقائق انتهوا من أكل المكرونة وانتظروا حتي بدأ الناس في الرحيل فنظرت لزوجة ابنها وقالت: "قومي يابت لمي البيض الباقي وحطيه في الكيس ولما نروح ندحرجه في حتة سمنة للسحور"!! فقامت زوجة الابن وعادت بكيس مليء بالبيض والعيش والمخلل وانصرفوا!! الغريب أنها ليست وحدها فلقد لمحت سيدات غيرها يفعلن ما تفعل حيث يقمن ببيع البيض للمطاعم والخبز لتجار الطيور!! الأجانب لازم ترحل في ميدان رمسيس واحدة من أكبر الموائد في مصر وتستوعب 0071 صائم يومياً، كنت محظوظة بأن وجدت لي مكاناً قبل المدفع بدقائق علي المائدة التي كانت تشبه "مجلس الأمن"، حيث تضم العديد من الأجانب من مختلف الجنسيات وعرب وأفارقة وصينيين وفلبينيين وهنود.. جاءوا قبل الإفطار بنصف ساعة، ورغم أن وجودهم كان ملفتاً للنظر والدهشة، إلا أنهم ظلوا صامتين وحين نطق الأذان أخذوا يحركون شفاههم وكأنهم ينطقون الشهادة أو يدعون الله!! وهذه الحيلة قد تنطلي علي البعض ولكن ليس علي المعلم "حسونة" تاجر الغلال الذي وصل تواً من الصعيد لشراء بعض الأغراض، والذي انتابته موجة غضب مؤكداً أن موائد الرحمن للمسلمين فقط "والأجانب لازم ترحل"، وهم أن يطردهم أكثر من مرة إلا أن بعض الصائمين حاولوا تهدئته متعللين بأنهم مسلمون أفارقة أو من بلدان أخري.. ولكنه ظل متمسكا برأيه وصمم أن يكشفهم بعد الإفطار وقت الصلاة.. وظل يتابعهم بنظراته حتي انتهوا من الأكل، وعندما جاء وقت الصلاة تتبعهم حيث توجه الجميع نحو المسجد بينما توجهوا نحو الميدان "فانكشف الملعوب" فجري ناحيتهم واستوقفهم وعلا صوتهم بالشجار "وكل بلغته". وفي النهاية اتضح أنهم طلبة بإحدي الجامعات المصرية اعتادوا الذهاب لموائد الرحمن ليس لأنها مجانية فقط، ولكن للشعور بجو روح الأسرة وسط المصريين حيث تعوضهم عن الأهل والأحباب. فطار فيجيتيريان هذه المائدة للمحظوظين حيث إن مستوي الأكل والخدمة فيها "سبع نجوم"، فهي مائدة أحد "أبناء الذوات" أو بمعني أدق "أبناء السياسة"، فالأكل تم إحضاره من أكبر الفنادق ويتكون من "لحم ستيك وخضار سوتيه وأرز بالخلطة وسلطات وعصائر ومياه معدنية وزبادي وحلويات شرقية وكل ما يخطر لك ببال تجده هنا.. أما الخدمة فهي ممتازة حيث تم إحضار جرسونات شياكة، لابسين بدل فخمة شكلهم ولا حسين فهمي في مهرجان السينما!! وبالطبع كان رواد المائدة علي مستوي الأكل، وكأن الفقراء وعابري السبيل خجلوا من الدخول إلي هذا المكان الفخم وحل محلهم مجموعة من الأجانب ستيف هيدمان.. مهندس بإحدي الشركات الأجنبية بمصر.. جاء مع صديقته "جوانا" وبمجرد اقترابه من المكان قام عدد من الأفراد للترحيب به وأحضروا له الأكل الذي طلبه والذي يتكون من خضروات فقط لأنه "فيجيتيريان"- أي نباتي- لا يأكل اللحوم. خواجات صايمين في "الحسين" وجود السياح والأجانب علي موائد الرحمن عادي جداً، ماري- فرنسية- جاءت مع زوجها وصديقتها وجلسوا علي إحدي الموائد رافضين البدء في الطعام إلا بعد الأذان!! كنت أحسب ذلك حسن أدب منهم ومراعاة مشاعر المصريين ولكنها صدمتني بقولها: إحنا كمان صايمين!!.. كنت أقوم بعمل ريجيم قاس، فلا أتناول سوي السوائل وطبق سلطة طوال النهار، ومع ذلك أتعب كثيراً في البحث عن مطعم مفتوح قبل المساء، حتي إن وجدت فكل العاملين به صائمون، وكنا نجد حرجاً في الأكل أمامهم، ولذلك كنا ننتظر المساء حتي نتناول الطعام فقمنا بالصوم علي طريقة المصريين كي نشاركهم إحساسهم بهذه المناسبة، ولم نجد مكاناً أفضل من هذه المطاعم المفتوحة لتناول الطعام. مهرجان.. شيرتي فرانشسكا- ألمانية- تقول: قبل أن أحضر إلي مصر كنت أعتقد أن الصوم نوع من الطقوس المقصود به تعذيب النفس، ولكن صديقتي المصرية شرحت لي معني الصيام والهدف منه ثم رأيت "موائد الطعام" في الشوارع ووجدتها شبيهة بفكرة "الشيرتي"- أي المساعدة- الموجودة في أوروبا إلا أنني تعجبت من كمية الطعام خاصة وأنه "فورفري" فعزمت نفسي ولم يمانع أحد بل رحبوا بي وصارت الموائد جزءاً من نزهتي اليومية في القاهرة، ففي كل مساء أذهب لتناول الطعام في حي "الأزهر" مع بعض الأصدقاء المصريين أو الأجانب ثم نذهب إلي "الحفلات الليلية" تقصد الخيام الرمضانية- حيث نقضي وقتاً ممتعاً. شباب فانكي في شارع جامعة الدول حيث امتدت مائدة الراقصة "...." أكثر من مائتي متر وانتشر السفرجية الذين جاءوا من أفخم الفنادق حول الموائد يوزعون وجبات "المكس جريل"- أي المشاوي- والسلطات مما جعل الأمر يبدو وكأنه "باربيكيو" وعلي رائحة المشاوي جاء الزبائن.. لابسين هدوم العيد.. كاجوال وجينز.. وكوتشيهات من اللي بتنور معظمهم من طلبة الجامعة "الروشين" من بين هؤلاء شريف وشلته- أولاد وبنات- والذين جاءوا من الفيوم بسيارة فخمة واحتلوا إحدي الموائد ثم استدعوا أحد الجرسونات وسألوه: لو سمحت معندكش أكل لبناني أو سوري-! سألته: لماذا لا يذهب لأحد المطاعم ويترك الوجبات المجانية للفقراء فقال: الحكاية مش أكل مجاني وبس.. احنا بنعتبرها جزء من رحلتنا السنوية للقاهرة حيث تعودنا علي المجيء لهذه الخيمة كل عام حيث رمضان له طعم يختلف تماماً عن باقي المحافظات.. وحتي لو ذهبنا إلي مطعم فلن نجد لنا مكاناً وربما نضطر للأكل في الشارع، أما هنا فالمكان لطيف والأكل ممتاز، وكمان بيوزعوا شنط بعد الإفطار.. أحياناً تكون فيها لحوم وبقالة وأحياناً ياميش رمضان.. كل واحد وحظه.. أما أنا فأحضر كل عام علي أمل أن أري الفنانة "...." وأسلم عليها. حسب الدراسة الميدانية التي أجرتها جامعة الأزهر، فإن موائد الرحمن يستفيد منها 5,3 مليون مواطن يمثلون 5٪ من سكان مصر، وينفق عليها 01٪ من السكان أي 7 ملايين مواطن.. منهم من يجعلها خالصة لوجه الله.. ومنهم من له فيها مآرب أخري.