لم يكن يتوقع مؤلف كتب التاريخ المقررة على التلاميذ أن تتسبب الثورة فى إجراء تعديلات جوهرية على دروسه، التى كانت مقدسة عن إنجازات الرئيس السابق وحزبه الحاكم وسنوات حكمه. بل واضطرار وزارة التربية والتعليم إلى إضافة فصول جديدة تحاول أن تلاحق الأحداث التى يعيشها التلاميذ والمعلمون يوما بيوم منذ أكثر من عام منذ ثورة يناير2011 . لكن تعديلات الإضافة والحذف بقيت عاجزة عن إقناع المعلمين أن يدرسوا لتلاميذهم هذه المناهج التى تبدو متناقضة، ولايزال الكثيرون منهم يسألون: هل ندرس للتلاميذ المكتوب فى الكتاب أم ما عشناه واقعا لسنوات طويلة فى حكم فاسد؟ المأزق الذى يعيشه المدرسون الآن ليس الأول، فعلاقة هذه الكتب بالسياسة لم تنقطع .. ولايزال الطلاب والمعلمون والخبراء يطالبون بطريقة أخرى لكتابة التاريخ بعيدا عن تدخلات السياسة «مش عارف إزاى المدرس يدرس حاجة مش مقتنع بيها للطلبة وكمان متناقضة»، بهذه العبارة عبّر ممدوح المراجى - مشرف عام توجيه الدراسات الاجتماعية بإدارة الهرم التعليمية - عن حيرته وحيرة زملائه المعلمين، فى كيفية تدريس المنهج الجديد للتاريخ المقرر على طلاب الصفين السادس الابتدائى والثالث الإعدادى فى الفصل الدراسى الثانى، والذى يحتوى لأول مرة على أجزاء تخص ثورة يناير، وأسباب اندلاعها وأهدافها ونتائجها. المنهج أيضا يحتوى على درس كامل عن إنجازات الرئيس السابق المخلوع محمد حسنى مبارك فى ثلاث صفحات، وهو ما يعتبره ممدوح متناقضا مع درس الثورة، «إزاى ندرس للطلاب الحاجة وعكسها، نقولهم إن مبارك حقق عدالة اجتماعية ثم قامت الثورة لغياب هذه العدالة»، ويضيف: منهج الصف الثالث الإعدادى يشتمل على معلومات أصبحت قديمة و«منتهية الصلاحية»، مثل درس الحياة النيابية. ∎ لسنا ملقنين «كثيرا ما شعرت بالتناقض بين المكتوب فى كتاب المدرسة الذى يجب أن أعلمه للطلاب حسب تعليمات وزارة التربية والتعليم، وبين ما تفرضه حيادية العلم وصدق المعلومة وما أعرفه وما أراه فى الواقع، لكنى فى كل مرة كنت أقرر أن أقول للطلاب ما يمليه علىّ ضميرى، وكان الثمن فى الكثير من الأحيان تحويلى للشئون القانونية». بهذه العبارة وصف أيمن البيلى - مدرس أول التاريخ بمدرسة منية سمنود الإعدادية بالدقهلية - حال أغلب المعلمين، الذين يعتقد المسئولون عن التعليم قبل الجامعى وواضعو أنظمة التدريس والامتحانات أنهم آلة تنقل دون تفكير المقرر الموجود فى كتاب المدرسة إلى التلاميذ واضعو المناهج والمسئولون فاكرين إن المدرس ملقن بيقول اللى فى المقرر من غير مايكون ليه أى رأى، فاكرين إن طريقة الامتحان اللى بتعتمد على أن الإجابة الصحيحة هى اللى موجودة فى كتاب المدرسة، هاتجبرنا نكون بس ملقنين ملناش رأى». «صحيح فيه مدرسين كتير بيقولوا اللى فى الكتاب وخلاص عشان أكل العيش، لكن برضه بيمارسوا السياسة بطريقتهم، لما يتقفل باب الفصل، ويكون ضمير المدرس بس هو اللى بينه وبين الطلبة». تعرض الأستاذ أيمن الذى انتخب فيما بعد وكيلا لنقابة المعلمين المستقلة،للتحويل للشئون القانونية بسبب اعتراضه على الخرائط التى وزعتها الوزارة على المعلمين فى عام 1998 لاستخدامها كوسيلة تعليمية، وكتب فيها على خريطة فلسطين، «إسرائيل»، واتضح فيما بعد أنها جاءت منحة للوزارة من إحدى المؤسسات الأجنبية، وعندما تضامن الكثير من المعلمين مع أيمن سحبت الوزارة الخرائط فى العام التالى. «إذا سئلت عن المعلومة اذكر ما فى كتاب المدرسة، لكن إن سئلت عن رأيك، فاكتب ما اقتنعت به»، بهذه الإجابة ينصح البيلى طلابه بطريقة الإجابة فى الامتحانات، ليخرجوا من الحيرة بين الرأى المكتوب فى كتاب المدرسة، وبين ما اقتنعوا به من الآراء التى طرحوها خلال نقاشهم حول موضوع ما داخل الفصل. ∎ مناهج التاريخ فى خدمة السياسة ويرى أيمن أن ادعاء المسئولين بأنهم يسعون لتطوير التعليم ليعتمد على التفكير وحل المشكلات والنقد والتحليل، ليست حقيقية، بدليل بقاء نفس أنظمة التدريس والامتحان المعتمدة على التذكر والتلقين لسنوات طويلة، مما يعنى أن الرغبة فى تطوير التعليم ليست صادقة، لأن تطويره يعنى إرساء قواعد الديمقراطية، وهو ما لم يكن يريده المسئولون فى النظام السابق، وما لم يغيره المسئولون فى النظام الحالى حتى الآن. الأمر لم يقتصر على الخوف من الديمقراطية فقط كما يقول أيمن بل إن «مناهج التاريخ كانت تصاغ بطريقة تخدم الأهداف السياسية للحزب الحاكم السابق، والمفروض أن تساهم الثورة فى تغيير الطريقة التى تصاغ بها المناهج لتكون أكثر ديمقراطية، ويشارك فى وضعها التلميذ والمعلم، ويشرف على وضع المناهج مجلس وطنى للتعليم، وليس فقط خبراء وزارة التربية والتعليم». وتضع د. عايدة أبوغريب - أستاذ مناهج الدراسات الاجتماعية بالمركز القومى للبحوث التربوية - يدها على مشكلة أخرى فى طريقة صياغة كتب الدراسات الاجتماعية المدرسية، وهى تخص مرحلة التأليف، بسبب خلل أو عدم وضوح فى معايير التأليف (وثيقة تصميم المنهج)، الذى يوضع فى كراسة شروط الاشترك فى مسابقة التأليف، مما يصيب المؤلف بالارتباك بين أن يضع تصميما جديدا للمنهج وفق وجهة نظر علمية وقد لا يفوز كتابه بسبب ذلك، وبين أن يؤلف على أساس المعايير المعتمدة. وتوضح عايدة أن تأليف كتب التاريخ فى الدول المتقدمة يتم من خلال فريق عمل من مؤرخين ومتخصصين فى مجالات مختلفة بالطب والصيدلة والآثار والهندسة وغيرها، بخلال كتب الكيمياء والأحياء وغيرها التى يقتصر تأليفها على المتخصصين فى المجال فقط، لأن كتب التاريخ تتضمن التاريخ الحضارى للشعوب بكل ما فيه من مجالات مختلفة، ليتأمل الطلاب هذه الإنجازات والمواقف ويكونوا آراء حولها. وطالبت عايدة الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد بإدراج فلسفة ثورة 25 يناير ضمن معايير تأليف المناهج الدراسية بشكل عام بما فى ذلك مناهج اللغات والأنشطة المدرسية، وضمن معايير تقييم المدارس ومنحها شهادات الاعتماد والجودة، من خلال إدراجها ضمن معايير تقييم المبنى المدرسى، وإمكانيات المدرسة، وأيضا ضمن معايير تقييم أداء المعلم، موضحة أن إدراج هذه الفلسفة ضمن هذه المعايير سيلزم وزارة التربية والتعليم بالأخذ بها، من أجل أن يتعرف التلاميذ على قضايا الوطن ويشاركوا فيها ويتفاعلوا لتصحيح مسارها لحل مشكلات المجتمع . ∎ تاريخ الشعب هو الأبقى (تاريخ هزوء) بهذا الوصف الشعبى وصف أستاذ أصول التربية وعالم التاريخ بتربية عين شمس سعيد إسماعيل على، طريقة كتابة كتب التاريخ المدرسية بالاعتماد على الشخصيات الحاكمة، على اعتبار أن هذه الطريقة تكرس للفرعنة، لأن 99 ٪ من حكامنا طغاة، ولا يرى التلاميذ فى التاريخ بهذه الطريقة سوى أسماء وأرقام، ولا يرى فيها أى جدوى ويقول الكثيرون منهم (إيه لازمة الكلام ده)؟ ودعا إلى كتابة تاريخ الشعوب بطوائفها وطبقاتها، وما أنتجته من حضارة وثقافة وزراعة وصناعة وتعليم وعقائد وغيرها، حتى إن اهتز بعض هذا الإنتاج خلال بعض الفترات، وحياة العمال والفلاحين وأصحاب المهن وعلماء الدين الاجتماعية، وما الذى يدفع هؤلاء إلى الثورة. ويؤكد سعيد أن طريقة صياغة التاريخ من خلال تاريخ الشعوب ستحبب التلاميذ فى التاريخ، وتنمى إحساسهم بالوطنية، وبالتالى ستجعل الثوار منهم مستندين إلى وعى تاريخى واجتماعى، فتكون ثورتهم مخططة، والأمر نفسه يمكن أن ينطبق على طريقة تدريس اللغة العربية أيضا، التى يكرهها التلاميذ لأن طريقة تدريسها تركز على قواعد النحو والصرف، وليس على القراءة والاستماع والتحدث. ∎ جهد ثورى قبل الثورة صياغة كتب التاريخ المدرسية بطريقة التركيز على مسيرة وكفاح الشعوب وليس الحكام، كان النتيجة التى سبق أن اتفق عليها خبراء لجنة من وزارتى التربية والتعليم والأسرة والسكان قبل أيام قليلة جدا من اندلاع ثورة يناير، وطبقت اللجنة الطريقة على درس سعد زغلول وثورة 1919 التى سميت فى الطريقة الجديدة (ثورة شعب). لكن هذا الجهد لم يعرف مصيره بعد اندلاع الثورة وتغير الأحوال، رغم أن نتائجه كانت أقرب إلى روح الثورة وأهدافها ونتائجها. اللجنة ضمت وقتها خبراء من مستشارى مادة الدراسات الاجتماعية بوزارة التربية والتعليم وخبراء من مركزى تطوير المناهج، والقومى للبحوث التربوية والتنمية، إلى جانب أكاديميين من كلية الآداب بجامعة القاهرة ولجنة القيم بوزارة الأسرة والسكان قبل أن تلغى، والأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة وقتها الدكتور عماد أبوغازى، بهدف مراجعة (معايير قيم المواطنة والتعددية فى مناهج المرحلة الابتدائية فى اللغة العربية والدراسات الاجتماعية). وقال د. محمد عفيفى رئيس قسم التاريخ بآداب القاهرة، وقتها أن تقديم التاريخ من خلال الشخصيات فكرة انتهت منذ 50 عاما، وتناوله من خلال التركيز على مسيرة الشعوب تعفى المؤرخين من الوقوع فى مأزق تغير الآراء حول القيادات، وقال صلاح عرفة مدير مركز تطوير المناهج وقتها، إنه ينبغى أن نغير فلسفتنا فى تدريس التاريخ، لنركز على دراسة الأحداث وليس الأشخاص.