رغم أننى كنت أخطط لزيارة تونس منذ سنوات بعيدة ولم تسنح لى الظروف للقيام بهذه الزيارة.. إلا أننى ما إن جاءتنى دعوى المنتدى الأخير للصحافة العربية الحرة ، تصورت أن الأمر سيتعقد كالعادة نظرا للظروف الراهنة.. ولكن ما شجعنى على خوض هذه التجربة المحببة إلى نفسى التعبير الشائع والنكات الساخرة التى كانت دائما تنتهى بجملة أصبحت مأثورة وهى « الإجابة دائما.. تونس»! فعلى المستوى السياسى أنجزت ثورة الياسمين وخطت خطوات عملية نحو جمهورية جديدة وهذا ما انعكس بطبيعة الحال على المواطن التونسى الذى بدا أكثر تفاؤلا بمستقبل يخلو من نقائص الماضى القريب.. ولذلك فإن اهتمامى هنا كان على هؤلاء البشر وحياتهم.. لذا فإنها ملاحظات زائر بعقل صحفى.. فماذا كانت حصيلة الزيارة ؟! لعل أول ما يلفت نظرى دائما فى كل زياراتى لأى بلد فى العالم هو التاكسى.. ربما بداعى المقارنة أو لأنها الوسيلة الأسرع فى التنقل كما أنها تتيح لى التعرف من السائقين عن رؤيتهم للحال لاحتكاكهم بفئات متنوعة من المجتمع ، وإذا أخذنا فى الاعتبار بعد مكان إقامتنا عن وسط العاصمة بحوالى نصف ساعة بالسيارة وعدم وجود مواصلات عامة فإن ذلك يدعم موقفى المنحاز لهذه الوسيلة ، فالتاكسى فى تونس له تسعيرة محددة تبدأ من 400مليم «الدينار = 1000مليم» وهى مسجلة على زجاج السيارة الخلفى مع وجود رقم تليفون مخصص للعميل للاستفسار والشكاوى ، وتزيد هذه التعريفة بعد التاسعة مساء إلى 006 مليم كبداية عداد، والتاكسى تابع لهيئة النقل وبالتالى فمن الصعب التحايل على العدد أو تسريع وتيرته وغيرها من وسائل التحايل والنصب المعروفة لنا !! ومن التاكسى إلى الترام الذى يربط وسط المدينة وصولا لمدن الشمال.. المرسى ، سيدى بوسعيد وغيرها.. فقد تعمدنا استقلال الترام رغم تحذيرات غالبية التوانسة من ركوبه مساءً، حيث تزداد المخاطر ، إلا أننا قررنا خوض التجربة وأخذناه من وسط العاصمة إلى سيدى بوسعيد فى رحلة حوالى 14محطة، وبالفعل حدث ما تم تحذيرنا منه فقد انشغلنا بأحد الشباب فاقدى الوعى وظللنا منتبهين له ولتصرفاته حتى أننا لم نلحظ أننا نسينا النزول فى محطتنا واضطررنا للنزول المحطة التالية التى كانت بمثابة ظلام دامس ثم ظهر لنا شاب بعصا يأتى نحونا لكن لحسن الحظ وصل الترام عائدا فكان المنقذ هو الله. ∎ صقر بوسعيد وهذه الظروف تتشابه إلى حد ما مع حال مصر ، إلا أنها تختلف فى درجة الأمان والرغبة فى الحياة ، ولكنها انعكست بطبيعة الحال على السياحة أحد أهم مصادر الدخل القومى التونسى منذ ستينيات القرن الماضى والتى ظهر جليا تراجعها ، فعندما ذهبنا لزيارة مدينة سيدى بوسعيد.. تلك المدينة السياحية الأبرز فى شمال تونس وتجولنا فى المدينة القديمة ، كان واضحا جدا أن المدينة خلت من السياح اللهم إلا فوج يابانى.. حتى أن معظم البازارات خاوية من زبائنها وهو ما أكده لى أحد أصحاب محلات التذكارات من أن الثورة أثرت بلاشك على المردود الاقتصادى ، بل إن أحدهم وضع على كتفى «صقر» دون أن أطلب ذلك لكى تكون الصورة جذابة ، ثم قال : 5 دنانير !فقلت له ولكنى لم أطلب ، فضحك وقال : مصرى.. تصدق أن السائح كان يدفع لى حتى 10 دنانير لقاء التصوير ، ولكن الآن الوضع كما ترى !.. فأعطيته ديناراً ونصف وانصرفت ! ومن سيدى بوسعيد إلى مدينة قرطاج الأثرية وهى المعروفة عندنا بمصر بمطارها الدولى وقصرها الجمهورى ، ولكنها تضم آثارا رومانية وفينيقية وقد اخترنا أن نزور أولا حمام أنطونينوس وكان الطريف فى هذه الزيارة استثناء الصحفيين التوانسة من رسم الدخول البالغ 9 دنانير ويضاف دينار للكاميرا وهو ما ينطبق على بعض الفئات الأخرى فى المجتمع ، وعندما سألنا عما إذا كان الصحفيون المصريون يخضعون لهذا الاستثناء.. طلب موظف التذاكر البطاقة الصحفية فأعطيته البطاقة الدولية التى لم يتوقف عندها ، أما زميلى فأعطاه بطاقة نقابة الصحفيين المصريين فقال له إنها بطاقة محلية مبديا اعتراضا ضاحكا فعاجلته بأنه نسى بطاقته الدولية فى القاهرة لكن وظيفته مثبتة على جواز سفره ، فوافق مرحبا ونفس الحال تكرر فى زيارتنا للمسرح الرومانى والذى يقام عليه مهرجان قرطاج الغنائى وأيضا المتحف الوطنى وكنيسة سان لويس الأثرية وكلها أماكن فى مربع واحد. أما القصر الرئاسى بقرطاج فهو مقام خلف حمام أنطونينوس وهو مقر رئيس الجمهورية وقد لاحظنا اصطفاف طوابير من البشر أمام بوابة القصر الرئيسية وعندما سألنا سائق التاكسى عن السر وراء ذلك أجاب: إنه بإمكان المواطن الآن أن يدخل القصر ويقابل الرئيس المنصف المرزوقى شخصيا لتقديم شكوى وهو ما لم يكن متاحا من قبل وحتى المرور من أمامه كان محفوفا بالمخاطر ! ∎ سينما وصحافة أتاح لنا المنتدى دخول إحدى دور العرض السينمائية وهى قاعة هانيبال بوسط تونس العاصمة وكان الملاحظ قلة عدد مرتاديها رغم أن يوم الأحد هو الإجازة الأسبوعية وعندما سألت الأختين عربية وزينب الجبالى عن نظرة المجتمع التونسى للسينما قالت إن ذهاب البنات للسينما لا يزال من الأمور غير المحببة ، وعندما اندهشت نظرا لوجود مخرجين مثل مفيدة التلاتلى وفريد بوغدير وغيرهما حققوا سمعة عالمية للسينما التونسية.. أكدن أن هذا ليس معياراً ولم يؤثر ذلك على ارتياد الأسر لدور العرض رغم أن سعر التذكرة 4 دنانير أى حوالى 16 جنيها. والصحافة كما أكدت لى الصحفية الدءوبة وفاء بن حسين.. مشغولة هذه الأيام بقضايا الفساد ومحاكمات رموز النظام السابق.. والمثير أيضا أن الفنانين لم يسلموا من التقسيم ما بين مع أو ضد الثورة ، وقد اشتريت جريدة «الأسبوعى».. إحدى الصحف المستقلة وكان بها انتقاد حاد لتمثيل الفنانة لطيفة العرفاوى لتونس فى إحدى الحفلات حيث إنها - وفقا للجريدة - لا تمثل ثورة الياسمين باعتبارها من مناصرى النظام السابق بعكس الحال بالنسبة لليبى حميد الشاعرى واليمنى أحمد فتحى والمصرى على الحجار والذين اعتبرتهم الجريدة خير ممثل لبلدانهم فى الحفلة الغنائية!! ولا يفوتنى بالطبع أن أسجل ملاحظتى عن أهم شوارع وسط المدينة.. أو شارع الحبيب بورقيبة وللأمانة هو نسخة جيدة من شارع الشانزليزيه بباريس ، وهنا أتذكر أننى كنت أسخر من الأشقاء التوانسة المقيمين بفرنسا عن استحالة هذا التشابه إلا أننى وجدت تشابها فعلا فالمقاهى والمطاعم على جانبى الشارع تعج بالبشر من كل الأعمار ، وبالمناسبة فإن وزارة الداخلية فى أول الشارع محاطة بأسلاك شائكة ولا زال يوجد بعض مدرعات الجيش فى ميدان الاستقلال.. وقد نصحنى زملاؤنا التوانسة بزيارة « القصبة» حيث كانت الاعتصامات إلا أن الظروف لم تسمح بذلك ، ولكن فى اعتقادى أن كل شوارع تونس شاهد خالد على ثورة الياسمين. وأخيرا قبل أن أغادر مطار قرطاج الدولى عائدا للقاهرة ، كان لابد أن يكون هناك حدث لتكتمل أمامى المنظومة وإن كان حدثا غير مؤثر ولكنه ذو مغزى ، فقد كان بحوزتى 15 دينارا تونسيا أى حوالى 60 جنيها مصرى وذهبت لتغييرها من أحد البنوك بالمطار إلا أن الموظف تحجج بعدم وجود فئات صغيرة وبنك آخر رفض بيع دولارات أو يورو لعدم وجود إيصال للعملة التونسية!! ورغم أنى لم أهتم بذلك مقررا الاحتفاظ بالدنانير كتذكار ، إلا أننى فوجئت بأحد الضباط بعد عبورى الجوازات يسالنى: هل أنت مصرى ؟.. هل معك فلوس تونسى أو دولارات أو يوروهات.. فضحكت وقلت له معى دنانير رفضوا تغييرها بالبنك فاحتفظت بها .. فنظر لى وسلمنى جواز سفرى محبطا !! هذا يدل أن تونس تمر بما كانت مصر عليه فى منتصف التسعينيات من عدم وجود عملات أجنبية بحيث لا يتم تغيير إلا 200 دولار فقط فى حالة السفر خارج مصر ! أيا كانت فإن الناس فى تونس كانوا دائمى السؤال عن مصر.. فكل من عرف جنسيتنا من اللهجة المصرية المحببة يرحب بنا ويسألك عن الثورة وميدان التحرير وحال أهل مصر، حتى أن المصور التونسى أيمن عمرانى الذى صاحبنا طوال أيام المنتدى .داعبنى قائلاً:كنت أتمنى أن اكون فى مصر أيام الثورة للحصول على لقطات تاريخية من «التحرير» بل إن بعضهم يدعو لها بالاستقرار ولن أنسى ذلك البائع فى السوق العربى بالعاصمة الذى قال لى إن التوانسة الآن مشغولون بلقمة العيش والاستقرار الاقتصادى فهذا هو الشاغل ويا ليت المصريون يسيرون فى هذا الاتجاه بدلا من التناحر والاختلاف حتى فى ملاعب كرة القدم !!