هذه هي المرة الثانية التي تخسر فيها النخبة المصرية والمثقفة التي تقود الرأي العام بالضربة القاضية أمام إرادة الشعب المصري العظيم وإصراره علي المضي في التحول الديمقراطي، وإتمام العملية الديمقراطية رغم كل الأخطار والمصاعب والانفلات الأمني وغليان ميدان التحرير، بل رغم كل الصراعات والصدامات والصراخ والعويل والضجيج الذي افتعلته هذه النخبة علي صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات حول مصير الديمقراطية.. ومصير الانتخابات وحكم العسكر الذي لا يريد أن يعود لثكناته.. وغيره وغيره من القضايا التي تكشف فقط عن أن الشعب في واد.. ونخبته في واد آخر. لقد قال الشعب كلمته هذه المرة عالية ومجلجلة عندما أصر علي النزول إلي اللجان والمقار الانتخابية في زحام وطوابير لم تشهدها مصر طوال تاريخها الديمقراطي، لا أيام قبل الثورة ولا أيام عبدالناصر والسادات وحسني مبارك.. نزل الشعب ليقول كلمته ويعطي صوته لمن يراه يستطيع أن ينوب عنه في المسيرة الديمقراطية وكانت نسبة المشاركة مذهلة في المرحلة الأولي وفي الإعادة، حيث تجاوزت ال 62% برقم أكثر من ثمانية ملايين ناخب في تسع محافظات وهو ضعف الرقم الذي كان يشارك في انتخابات مجلس الشعب والرئاسة أيام مبارك الذي حصل في آخر دورة انتخابية رئاسية له علي أصوات 5 ملايين ناخب فقط. وليس صحيحا أن الناس التي ذهبت إلي اللجان والمقار الانتخابية كانت خائفة من الغرامة وال 500 جنيه.. لا، هذا ليس صحيحا، بدليل أن ال 38% الذين لم يذهبوا إلي الانتخابات معظمهم من الناس البسطاء وليسوا من علية القوم.. ولكن الناس تريد الأمن والاستقرار.. ولقمة العيش.. وتريد أن تنهي فترة التحول لتتفرغ لبناء الدولة من جديد.. وتبحث عن مستقبل أبنائها في هذا البلد.. وأيا كان الاختيار الذي طرحه الناس فهو في النهاية اختيار الديمقراطية حتي ولو لم يعجبنا. المرة الأولي التي فاز فيها الشعب.. وخسرت النخبة كانت استفتاء 19 مارس الشهير الذي تلاه الإعلان الدستوري.. وقال الشعب كلمته في الاستفتاء «بنعم» بنسبة 78%.. والنخبة.. ومن وراءها من تيارات وفصائل سياسية ودينية وغيرها حصلوا فقط علي 22%.. ورغم تحفظنا الشديد علي ما جاء في التعديلات الدستورية ورغم أنني كنت شخصيا من أنصار «لا» لأن الدستور القديم سقط بسقوط النظام في 11 فبراير وكان الأجدر والأحق لشعب مصر هو دستور جديد إلا أن الشعب عندما قال «نعم».. كان بذلك ينحاز بشدة للاستقرار والأمن وللعمل ودعم البحث عن لقمة العيش وأيضا البحث عن مستقبل أفضل. الشعب قال «نعم» علي أمل أن يجني ثمارها.. لكن للأسف كل هذا لم يتحقق بسبب صراع الفصائل والقوي السياسية والدينية علي الفوز بغنائم الثورة وهي كل القوي التي ركبت الثورة وسرقتها من أصحابها الحقيقيين، وكشفت عن وجهها القبيح من أنها كانت تساند الثورة فقط لا من أجل الثورة ولا من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.. ولكن فقط من أجل الوصول إلي السلطة.. وكراسي الحكم.. ولذا لا مانع من عقد الصفقات وعمل الصفقات والتحالفات.. وعمل المليونيات من أجل الوصول إلي الحلم الضائع الذي بات مستحيلا فوق ال 60 عاما ولكن ها هي الفرصة جاءت لهم علي طبق من ذهب.. وعلي الرغم من أن الإعلان الدستوري الذي وضعه المجلس الأعلي للقوات المسلحة كان ينص صراحة علي عدم قيام أحزاب سياسية علي مرجعية دينية.. إلا أن هذه الأحزاب ظهرت وانتشرت وأخذت شرعية.. واستخدمت أساليب وشعارات ممنوعة ومحظورة دون أن يقول لها أحد إنها تخالف الإعلان الدستوري وتخالف مدنية الدولة التي أصبحت محل شك بعد وصول التيار الديني إلي الحكم.. وسيطرته علي مقاعد البرلمان. وعموماً أياً كان ما نبتغيه ونريده وأيا كانت التخوفات من صعود هذا التيار الديني الذي يعبر عنه الإخوان والسلفيون والجماعة الإسلامية.. ومع ذلك فلست قلقا من النتائج لأن الشعب المصري المتدين بطبعه لا يقبل أي تجاوز من أي تيار حتي لو كان التيار الديني.. وهو ضد أي شخص يحاول أن يكبت حريته ويصادر حقه في حرية الفكر والعقيدة وأيضا حرية الإبداع والفكر والثقافة التي هي حق أصيل.. ومثلما قفز التيار الديني علي معظم مقاعد البرلمان هذه المرة فإن الشعب قادر علي إعادتهم مرة أخري لحجمهم الطبيعي.. فما حدث من قبل في الجزائر يؤكد أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح. - مصر جمهورية رئاسية ما إن ظهرت بوادر الانتخابات البرلمانية في مرحلتها الأولي حتي لاح في الأفق الصدام القادم ومعركة الصراع علي السلطة بعد أن أعلن الإخوان والسلفيون أن من حق حزب الأغلبية أن يشكل الحكومة القادمة.. وهو كلام إما أنه يدل علي جهل أو عدم فهم حقيقي للنظم السياسية أو هي في النهاية محاولة جس نبض.. وإظهار «العين الحمرا» للمجلس الأعلي للقوات المسلحة.. والحقيقة أنني أدرك تماما أن هذه التصريحات لا تنم عن جهل أو عدم فهم.. لأن «ألف باء» النظم السياسية يؤكد أننا جمهورية رئاسية وبات ذلك واضحا في الإعلان الدستوري.. كما أن كل القوي السياسية الليبرالية وغير الليبرالية وكذلك مرشحو الرئاسة أكدوا أنهم يرفضون النظام البرلماني لأن رئيس الجمهورية في النظام البرلماني رجل علاقات عامة لا أكثر.. أي يملك ولا يحكم.. والسلطة كلها في أيدي الحكومة والبرلمان مثل إنجلترا.. ولذا.. فليس من حق البرلمان القادم أن يشكل الحكومة لأنه حق أصيل فقط لرئيس الجمهورية.. والذي يقوم بمهام رئيس الجمهورية حاليا هو المجلس الأعلي للقوات المسلحة.. ودور مجلس الشعب أو البرلمان هنا دور تشريعي أولا.. ورقابي علي الحكومة ثانيا.. ورئيس الجمهورية مسئول سياسيا وتنفيذيا أمام مجلس الشعب.. والجماهير.. لذا الكلام عن أن البرلمان القادم هو الذي سيشكل الحكومة القادمة بعد الانتهاء من الانتخابات هو من قبيل السفسطة السياسية.. بل والتهريج السياسي.. لكن المشكلة أنهم يريدون الاستئثار بكل السلطات في مصر. - الوضع الاقتصادي المنهار شاركت يوم الخميس الماضي في الندوة البحثية حول «مستقبل الاقتصاد المصري.. التحديات والفرص» بدعوة من اللواء محمود نصر مساعد وزير الدفاع للشئون المالية وعضو المجلس الأعلي للقوات المسلحة واللواء محمد أمين إبراهيم نصر رئيس هيئة الشئون المالية عضو المجلس الأعلي أيضا.. وهذه المرة الثانية أشارك فيها في مثل هذه الندوات، وكانت المرة الأولي منذ سبعة أشهر تقريبا.. والحقيقة أنه في المؤتمر السابق كانت الصورة والوضع الاقتصادي في مصر قاتما.. ومهدداً بالانهيار بعد توقف الموارد والاستثمارات وعوائد السياحة والتحويلات وتوقف المصانع.. وتصاعد المطالب الفئوية.. وللأسف بعد سبعة أشهر زاد الوضع سوءا وانهياراً مما يهدد بكارثة اقتصادية مفزعة، ولعل ما يهمنا هنا هو أن تأخر المرحلة الانتقالية تسبب في تراجع الاقتصاد المصري في الفترة الماضية من حيث تأخر معدلات النمو إلي 2% وعدم قدرة الاقتصاد المصري علي توفير الوظائف المطلوبة مما تسبب في ارتفاع نسبة البطالة من 11% إلي 20% وارتفاع معدلات التضخم إلي 20% وتراجع الاحتياطي الاستراتيجي في البنك المركزي من 36 ملياراً إلي 15 ملياراً في يناير القادم وزيادة الدين العام والعجز الكلي إلي 1045 مليارا «أي تريليون جنيه» وزيادة العجز الكلي إلي 131 مليار جنيه وارتفاع الدعم إلي 133 مليار جنيه يذهب 6% منه فقط إلي الفقراء والباقي للأغنياء.. وأن دعم أنبوبة البوتاجاز 65 جنيها تباع ب 5,2 في المستودعات.. ومعظم البوتاجاز يباع في السوق السوداء للمزارع والمشروعات الأخري.. وأن دعم الطاقة يصل إلي 95 مليار جنيه سنويا يذهب إلي محطات الكهرباء والمصانع.. وكذلك دعم السولار والبنزين.. وأن القطاع السياحي يستهلك 25% من دعم السولار وأن الاحتياطي الاستراتيجي من السلع لايكفي إلا لثلاثة أشهر فقط، وغيرها من الأرقام المفزعة. إلا أن أهم ما قاله اللواء محمود نصر أن القروض التي أعلن عنها من الدول العربية وقدرها 9 مليارات جنيه لم يصل منها فقط سوي 500 مليون دولار من قطر.. و500 مليون دولار من الإمارات وباقي القروض الأخري من السعودية وقطر والإمارات مشروطة.. والكويت فضلت أن تمول عن طريق مؤسسات مالية دولية.. أي رفضت تقديم دعم لمصر.. وبالنسبة لصندوق النقد الدولي أعلن أنه سيعطينا 3 مليارات دولار بشرط الإصلاح الاقتصادي. وأضاف محمود نصر إن القوات المسلحة ساهمت بمليار دولار سلمتها للبنك المركزي لمواجهة الأعباء المالية.. وأن ميزانية القوات المسلحة لا تتعدي 5% من إجمالي الموازنة العامة للدولة، بينما التعليم ينفق عليه 11% من الموازنة. هذا موجز بسيط للأرقام المفزعة والمرعبة حول الاقتصاد المصري في المرحلة القادمة.. ألا يتطلب هذا منا أن ندق ناقوس الخطر.. ونحشد الناس في مليونية دعم الاقتصاد المصري.. ألا يتطلب منا أن نتفرغ ولو قليلا لدفع عجلة الإنتاج.. وتوفير المناخ المناسب للاستثمار والسياحة حتي يستطيع أن يقف الاقتصاد المصري علي قدميه مرة أخري. نتمني .