يحتاج الإنسان في كثير من مراحل عمره إلي «الموعظة الحسنة» لعله يتوقف عندها ويتأملها ويتفكر فيها، وقد تغير مسار حياته إلي الأفضل، ولكن المحزن أن الإنسان كاره لها وقد يمر عليها مرورا سريعا لا استيعاب فيه ولا تدبر ولا اهتمام، لأن الموعظة ثقيلة علي السمع، محرجة للنفس، مضادة للهوي، مانعة للشهوة، ورغم ذلك كله فهي «الطاقة الروحية» الهائلة التي تنقذ الإنسان من الهلاك ومن مصير لا يعلمه إلا الله.. السطور التالية هي رحلة نظر وتأمل وتفكر في حدائق الموعظة. •• وردت «الموعظة» في القرآن الكريم في خمسة وعشرين موضعا بمعان متعددة ومختلفة، فقد وردت بمعني «النصيحة» قال تعالي: «وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم»، ووردت الموعظة بمعني «القرآن» في قوله تعالي: «يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين»، وبمعني التوراة «وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها»، وبمعني الإنجيل «وقفينا علي آثارهم بعيسي ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة، وأتيناه الإنجيل فيه هدي ونور مصدقا لما بين يديه من التوراة وهدي وموعظة للمتقين»، وبمعني الخوف من الله «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا، فمن جاءه موعظة من ربه فانتهي فله ما سلف وأمره إلي الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، ووردت الموعظة بمعني الدعوة إلي الله «ادع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين». • ما لنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟!! مر إبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - يوما في سوق البصرة فاجتمع الناس إيه وسألوه: يا أبا إسحاق... ما لنا ندعو الله فلا يستجيب لنا؟! قال: لأن قلوبكم ماتت بعشرة أشياء: عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا به، وزعتم محبة رسول الله وتركتم سنته، وقلتم إن النار حق ولم تهربوا منها، وقلتم إن الجنة حق ولم تعملوا لها، وقلتم إن الشيطان عدوكم ووافقتموه، وأكلتم نعمة الله ولم تؤدوا شكرها، وقلتم إن الموت حق ولم تستعدوا له، ودفنتم موتاكم، ولم تعتبروا بهم، واشتغلتم بعيوب الناس ونسيتم عيوبكم.. فكيف يستجيب الله دعاءكم؟! •• قال النبي صلي الله عليه وسلم: «يأتي زمان علي أمتي يحبون خمسا وينسون خمسا: يحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون المال وينسون الحساب، ويحبون الخلق وينسون الخالق، ويحبون الذنوب وينسون التوبة، ويحبون القصور وينسون القبور». •• رأي عمر بن الخطاب رجلا يرفع يديه إلي السماء ويقول: «اللهم اجعلني من القليل»، فقال عمر: ما هذا الدعاء الجديد يا أخي؟! قال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الله يقول «وقليل من عبادي الشكور».. فقال عمر: كل الناس أعلم منك يا عمر. • آدم.. وإبليس تحكي كتب الصالحين كما ورد في الأثر: «إن إبليس قال: يارب أنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه وعلي ولده، فقال الله سبحانه وتعالي: جعلت لك صدورهم مساكن، فقال: رب زدني، فقال الله: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة، قال رب زدني، فقال الله: تجري منه مجري الدم، قال رب زدني، فقال الله: فأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد، قيل: فعندئذ شكا آدم إبليس إلي ربه تعالي فقال: يارب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء، وسلطته علي وعلي ذريتي، وأنا لا أحتمي إلا بك، فقال الله تعالي: لا يولد لك ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء، قال آدم رب زدني، قال الله: الحسنة بعشرة أمثالها، قال آدم رب زدني، قال الله: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة مالم يغرغر».. وصدق الله إذ يقول «قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس». •• قال صاحب العقد الفريد: «لما أهبط الله آدم عليه السلام إلي الأرض، أتاه جبريل وقال له: يا آدم إن الله حباك بثلاث خصال لتختار منها واحدة وتتخلي عن اثنتين، قال آدم وما هن؟ قال: الحياء، والدين، والعقل، قال آدم اخترت العقل، قال جبريل: للحياء والدين ارتفعا، قالا: لن نرتفع، قال جبريل: اعصيتما؟ قالا: لا.. ولكننا أمرنا ألا نفارق العقل حيث كان». • سر الزهد في الدنيا قيل للحسن البصري رضي الله عنه... ما سر زهدك في الدنيا؟ قال: «أربعة أشياء: علمت أن رزقي لن يأخذه غيري فاطمأن قلبي، وعلمت أن عملي لن يقوم به غيري فاشتغلت به، وعلمت أن الله مطلع علي فخشيت أن يراني علي معصية، وعلمت أن الموت ينتظرني فأعددت الزاد للقاء الله». •• أدي الخليفة هشام بن عبدالملك فريضة الحج أيام خلافته، وبعد أن فرغ من الطواف حول الكعبة، وجد سالم بن عبدالله بن عمر بن الخطاب، فقال له: يا سالم سلني حاجتك، قال: أستحي من الله أن أسأل في بيته أحدا غيره، فلما خرج سالم، خرج هشام بن عبدالملك في أثره وقال له: الآن خرجت من بيت الله فاسألني حاجتك؟ قال سالم: من حوائج الدنيا أم من حوائج الآخرة؟ قال هشام: من حوائج الدنيا، فقال سالم: إني ما سألت الدنيا ممن يملكها، فكيف أسألها ممن لا يملكها؟!! •• مر النبي سليمان عليه السلام ذات يوم في موكبه، الطير تظله، والإنس عن يمينه، والجن عن يساره، فرأي رجلا جالسا يسبح الله ويذكره، فقال الرجل: لقد أوتي ابن داود ملكا عظيما، فسمع سليمان ما قاله الرجل فنظر إلي رعيته وقال: «لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير عند الله مما أعطي ابن داود، فإن ما أعطي ابن داود يفني.. والتسبيحة عند الله تبقي». •• أوصي الله إلي موسي - عليه السلام: «يا موسي، خمس كلمات ختمت لك بهن التوراة، إن عملت بها نفعك العلم كله، وإن لم تعمل بها لم ينفعك من العلم شيء: الأولي: لا تخش من ضيق الرزق وخزائني ملآنة وخزائني لا تنفد أبدا، الثانية: لا تخف من ذي سلطان مادام سلطاني باقيا وسلطاني لا يزول أبدا، الثالثة: لا تر عيب غيرك مادام فيك عيب والمرء لا يخلو من عيب أبدا، الرابعة: لا تدع محاربة الشيطان فإنه لا يدع محاربتك مادام روحك في بدنك أبدا، الخامسة: لا تأمن مكري حتي تدخل الجنة ولقد أصاب آدم ما أصاب في الجنة فلا تأمن مكري أبدا. •• وأخيرا اسمحوا لي أن أختم بهذه الحكمة: «إذا جالست العلماء فأنصت لهم، وإذا جالست الجهلاء فأنصت لهم، ففي إنصاتك للعلماء زيادة في العلم، وفي إنصاتك للجهلاء زيادة في الحلم.