تُثيرك قصص الأجداد بما فيها من غموض وسحر وتشويق، يذهب بك إلى عالم بعيد، أبعد من عالم الخيال، هناك، عجب العجاب، أسرار الكون والحضارة والتاريخ، التى يصعب أن يتخيلها العقل البشرى، فى قصص وأساطير الحضارة المصرية القديمة، فى فكرها وفلسفتها وعلمها وأدبها، ليس فقط الأهرامات أعظم عجائب الدنيا السبع، لكن هناك آداب وفلسفة وعلوم تفوق الخيال؛ ومنها علم الفضاء والفلك؛ الذى نبغ فيه المصريون. سبق المصريون الدنيا والعالم بأسره فى هذه العلوم، ونقشوها على جدران معابدهم، وسجلوها فى مخطوطاتهم، وحاول الآخرون النهل منها وحتى سرقتها. تعددت أغراض الآخرين فى التقرب لعلوم المصريين، فمنها الدراسة أو المحاكاة، ربما التقليد، بيع، شراء، ولم تخلُ من السرقة، وحتى وصلت للتزييف ووصل الأمر أن بعضهم ينسب نفسه زورًا على أنه من أبناء هذه الحضارة. كانت مصر هى أول من ابتكر التقويم الشمسى الذى يعتمد بدرجة كبيرة على حساب الفلك وحركة النجوم، ومن هنا استخدام التقويم كأداة لتقسيم الوقت وتحديد التواريخ، بدأ مع الحضارات القديمة. حيث كان المصريون القدماء استخدموا تقويمًا يعتمد على الشمس لتحديد مواعيد فيضان النيل، باعتباره أمرًا حيويًا للزراعة. والآن.. هل تساءلت يومًا كيف تمكّن الفراعنة من بناء أهراماتهم بهذه الدقة الباهرة التى تتوافق مع حركة النجوم والكواكب؟.. إنّ هذه الدقة لم تكن محض صدفة أو نتاج هندسة عبقرية فقط، بل كانت ثمرة معرفة عميقة بالفلك والفضاء، امتلكها المصريون القدماء. كانت دراسة المصريين القدماء تختص بالسماء وحركة النجوم والكواكب، وراقبوها جيدًا، وربطوا فى علاقة قوية بينها وبين الإنسان وطباعه، ورأوا أنها مرآة للحياة والموت، وخارطة تقود أرواحهم إلى العالم الآخر، حيث يقيم الآلهة الذين كانوا يعتقدون بإمكانية التواصل معهم من خلال حركات الشمس والقمر والنجوم. كما هو معروف جيدًا وقرأناه فى كتب المستشرقين عن دراسة الحياة الاجتماعية والدينية فى مصر القديمة ومن خلال معتقداتهم، لم تكن الشمس مجرد جرم سماوى، بل إله يُدعى «الإله رع» فى مصر القديمة، هو إله الشمس وأحد أهم الآلهة فى الديانة المصرية القديمة. كان يُعتقد أن «رع» الذى يمثل قرص الشمس هو رمز للحياة والخصوبة. وغالبًا ما صُوّر «رع» على هيئة بشرية برأس صقر، وعلى رأسه قرص الشمس، ويحمل صولجانًا فى يده اليسرى ومفتاح الحياة (عنخ) فى يده اليمنى. وكان يُعتقد أن يقوم برحلة يومية فى زورق عبر السماء، تجلب الشمس إلى الأرض، ويبحر فى السماء نهارًا على متن قارب يُسمى «شو». أطلق المصريون على تلك المرحلة إذا كانت فى الليل اسم «دات»، وكانوا يؤمنون بأن الشمس تُبعث من جديد كل صباح بعد انتصارها على قوى الظلام. أما القمر، فقد ارتبط بالإله «تحوت»، وكان له دور فى حساب الزمن وتحديد المواقيت، ما جعله مقدسًا لا يقل شأنًا عن الشمس. وجد المصريون علاقة وثيقة فى دراسة وتحليل النفس البشرية وطباع البشر حسب يوم ميلاده، وما هى الحالة النفسية والمزاجية التى يكون عليها الإنسان عندما يُولد فى تاريخ يتوافق مع هذا البرج، المقسّمة، حتى الآن كما هى منذ قديم الزمان. إنّ ما تنشره وسائل الإعلام اليوم ورقية أو إليكترونية وما تقدمه بعض الإذاعات ومحطات التليفزيون وما تخبره عن حظك اليوم من مواليد هذا الشهر أو طبع هذا الإنسان لما يتوافق مع هذا البرج، هو فى أحد تجلياته امتداد لتاريخ قديم، فلم تكن الأبراج والنجوم أقل أهمية فى هذه المنظومة الفكرية.
قدّس المصريون «الأنثى» وجعلوها رمزًا للخلق الكونى، وصوّروها فى هيئة الإلهة «نوت» التى تبتلع الشمس ليلًا وتلدها صباحًا، واعتبروا أن السماء ليست ثابتة، بل كيانًا حيًا يتغير ويتفاعل، وأن النجوم هى أرواح الآلهة التى تهدى الموتى فى رحلتهم الأبدية. هذه الرؤية الفلكية المعقدة لم تكن محض خيال دينى، بل كانت جزءًا من منظومة علمية دقيقة، تجلت فى تصميم المعابد والمقابر والأهرامات التى اصطفّت فى خطوط تتبع النجوم بدقة مذهلة. من أبرز الشواهد على هذه العبقرية الفلكية، يأتى «زودياك دندرة»، وهو خريطة فلكية دائرية نُقشت على سقف معبد حتحور بمدينة دندرة بمحافظة قنا فى صعيد مصر. وهذه الخريطة هى أقدم تمثيل معروف لنظام الأبراج فى العالم، وتُظهر الأبراج الاثنى عشر كما تصوّرها المصريون، مع رموز للكواكب والنجوم ومساراتها. وتتميز بتفاصيل فريدة، منها تصوير برج الدلو على هيئة الإله «حابى» حاملًا كأسين تتدفق منهما المياه، واستخدام 36 رمزًا نجميًا لتقسيم الليل إلى ساعات، والسنة إلى عشريات مكوّنة من عشرة أيام. لم يكن هذا النقش مجرد زينة معمارية، بل وثيقة علمية ودينية تمثل تداخلًا بين الفلك والإيمان، حتى أثار الزودياك جدلًا واسعًا فى أوروبا، خاصة بعد أن نُقل إلى باريس فى بداية القرن التاسع عشر، عندما سرقها الفرنسيون، بعدما علموا بقيمة هذه اللوحة منذ كانت الحملة الفرنسية فى مصر، التى درست الآثار المصرية بالتفصيل، وحفظتها عن ظهر قلب، وخططت لسرقة بعضها بعد الرحيل. فى هذه الأثناء قام الفرنسى سيباستيان لويس سولينييه أحد أعضاء الحملة بفصل الزودياك عن سقف المعبد باستخدام المناشير والأزاميل والبارود، ونقله إلى متحف اللوفر، حيث ما زال معروضًا حتى اليوم. والغريب أنهم وضعوا مكانه لوحة مزورة بنفس التفاصيل. مُنح هذا السارق مكافأة مالية ضخمة، واحتُفل بالقطعة فى باريس كما لو كانت انتصارًا حربيًا أو اكتشافًا علميًا مذهلًا، وسط تجاهل تام لأصلها المصرى ومغزاها الحضارى العميق. عشق الفرنسيون الحضارة المصرية القديمة، وجن جنونهم بسحرها وعالمها، وقد أثّرت هذه المعركة فى الفكر الأوروبى لعقود طويلة، وكانت من بين أسباب نشأة علم المصريات الحديث. فقد أسهم الفرنسى شامبليون، بعد فك رموز حجر رشيد، فى إثبات أن أجزاء من معابد دندرة وإسنا بُنيت فى العصر البطلمى والرومانى، مما رجّح أن الزودياك يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد. إلا أن هذا الاكتشاف لم يُنهِ الجدل، بل زاد من أهمية النص، وعمّق فهمنا لطبيعة التفكير العلمى عند المصريين. الذى عشقه الفرنسيون وباتوا يعتبرون بلادهم المكتشف الأول لهذا العلم، ولها الفضل الأكبر فى لفت أنظار العالم لعلم المصريات، بأسراره وسحره الذى يُبهر ويسحر العالم.