بعد سقوط نظام بشار الأسد فى سوريا أصبحت قضية الأكراد السوريين أكثر أهمية لعدة أطراف أبرزها تركيا التى تلعب دورًا محوريًا فى المنطقة، حيث تتعامل مع قوى متعددة وتحاول توجيه سياستها بما يخدم مصالحها الوطنية. حسب تقارير إعلامية متنوعة يتوقف مستقبل الأكراد، فى مواجهة هذه التهديدات والهجمات، على الاستراتيجية السلمية التى يفترض أن تتبناها تركيا والموقف الذى ستتخذه الولاياتالمتحدةالأمريكية وهى الوحيدة التى لديها القدرة التأثير فى قرار أنقرة وتحركاتها بشأن الأكراد. وفى حين تسعى تركيا إلى إطلاق عملية سياسية جديدة عبر الحوار مع الزعيم الكردى «عبدالله أوجلان» قائد حزب العمال الكردستانى، المحتجز فى سجن إيمرلى بجزيرة مرمرة منذ 1999 بتهم إرهابية، يحاول الأكراد تحقيق أى مكاسب على ضوء التغيرات الإقليمية التى طرأت فى سوريا مؤخرًا.
وحسب التقديرات الاستراتيجية فإن تدخل تركيا العسكرى فى مناطق «الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا» سيجذب غضب الغرب، ربما يسبب مضاعفات اقتصادية وسياسية كبيرة. وتتوقع أوساط مختلفة أن تمنح مناطق شمال شرق سوريا وضعًا خاصًا، كما حدث فى كردستان العراق، وهى الفرضية الأكثر احتمالًا حتى الآن. وحسب رؤية الخبير التركى مراد أوزتشليك فإن أنقرة تتحرك فى سياق معقد، بسبب تقييدها بعلاقاتها المتشابكة مع الجماعات السورية المسلحة مثل هيئة تحرير الشام والجيش الوطنى السورى، ونظرة الغرب إلى تلك الجماعات بعد توليهم زمام الحكم فى سوريا، لكنهم لن يخرجوا، فى كل الأحوال، من قالب الميليشيات الإرهابية حسب التوصيفات المتداولة. ويختلف الوضع الآن تمامًا عن تحركات تركيا الجريئة عام 2021 فى الشمال السورى، أما اليوم بعد أن غيرت الحرب فى فلسطين مجريات الأوضاع فى الشرق الأوسط، حيث أدى الهجوم الذى شنته حماس ضد إسرائيل فى 7 أكتوبر 2023 إلى نشوب حرب موسعة تشمل غزة ولبنان ثم العراقوسوريا، فأصبح الوضع الدولى معقدا، وتداخلت المصالح الروسية والإيرانية مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية. واحتاجت أنقرة إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه الأكراد السوريين فى مناطق مثل حلب، فقبل هروب بشار الأسد توصل الأكراد إلى اتفاقات مع القوات الأخرى للانسحاب إلى مناطق آمنة، بينما يحاولون تحقيق مكاسب سياسية من التطورات الحالية. وحسب الموقع الإخبارى «ميديا سكوب» قرر الأكراد عدم الانخراط مباشرة فى الصراع، والترقب لتحقيق أكبر استفادة ممكنة من الوضع، لذا وافقوا على عقد اتفاقات فى حلب والمناطق المحيطة بها، كما انسحبوا من منطقة تل رفعت أيضًا إلى شرق الفرات. وتدعم الولاياتالمتحدةالأمريكية حفاظ وحدات حماية الشعب الكردية على شمال شرق سوريا المنطقة الأكثر قلقًا لتركيا، لذا شنت أمريكا من قبل ضربات ضد الميليشيات الإيرانية فى دير الزور لتبقى تحت سيطرة الأكراد. حاول الرئيس التركى رجب طيب أردوغان من قبل التصالح مع الأسد، رغم تأكده من عدم قبول الأسد لذلك، ولكنها حسب ادعاءات غربية، كانت حركة تكتيكية لادعاء محاولة عرض السلام، قبل أن يتم الإعداد لبعض التحركات العسكرية من قبل الجيش الوطنى السورى وهيئة تحرير الشام، تزامن مع انشغال روسيا فى أوكرانيا، والتغيرات فى فلسطين وإسرائيل. التقارير رجحت أيضًا أن هذه العوامل دفعت أردوغان، على الأرجح بالتنسيق مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، إلى اتخاذ قرار استراتيجي: «ربما حان الوقت الآن للانطلاق فى هذه العملية». إضافة إلى ذلك، كان هناك تصريح غريب من الزعيم السياسى المتحالف مع أردوغان دولت بهجلى، حيث دعا عبد الله أوجلان إلى التخلى عن النزاع، فى تكرار لسيناريو التعاون التركى مع حكومة كردستان العراقية، لشن الهجوم على حزب العمال الكردستانى، حيث تم التنسيق مع الزعيم الكردى العراقى مسعود بارزانى لتسليم الأكراد المسلحين للقوات التركية، وفقًا ل«ميديا سكوب». مساومات السياسية وفقًا للتقديرات فمن الواضح أن هناك تحولًا فى السياسة التركية بشأن التعامل مع الأكراد فى سوريا، فأنقرة بحاجة إلى التكيف مع الحقائق الجديدة على الأرض فى سوريا، والتحدى الأكبر لها سيكون تحقيق التوازن بين المصالح الإقليمية، بما فى ذلك تعميق التعاون مع الولاياتالمتحدة، بينما تحافظ فى الوقت ذاته على موقفها القوى تجاه حزب العمال الكردستانى ووحدات حماية الشعب الكردية. واليوم تشهد أنقرة نوعًا من «المساومات السياسية» على المدى الطويل مع الأكراد، خاصة إذا فشلت الحلول العسكرية فى حل النزاعات أو تحقيق أهدافها، فسيتم المساومة على عدم وقوع أى نزاعات مسلحة مقابل تغييرات فى أعضاء المنظمة وإعلان ولائها لحكومة الإدارة الجديدة فى سوريا بقيادة أحمد الشرع، وإعطاء تركيا حقوق الانتفاع بثروات النفط بدير الزور، وقالت «ميديا سكوب»: يجب على الحكومة التركية أن تكون حذرة من التأثيرات المحتملة لهذا التغيير على العلاقات الإقليمية والدولية. فى النهاية ستظل السياسة التركية تجاه سوريا والعلاقات مع الأكراد معقدة للغاية فى الفترة القادمة، وسيبقى أردوغان فى موقع يسعى لتحقيق أهدافه العسكرية والسياسية فى سوريا، لكن التحديات التى تواجهها القوات التركية على الجبهة الداخلية والدولية قد تؤثر فى كيفية تفاعلها مع الوضع على الأرض. وأكد أوزتشليك، أنه يمكن لتركيا إقامة علاقات مع نوعين من الإدارات المحلية الكردية وجعلها أكثر تنظيمًا، وبذلك يمكن لأمريكا وإسرائيل أن يضمنا هذا الاتفاق السلمى، بأن تصبح حليفًا اقتصاديًا للأكراد، وتترك لهم إدارة حقول النفط فى دير الزور، والاستفادة من أراضى الزيتون والحقول الزراعية، دون الحاجة إلى إنشاء ممرات كما فتح الأكراد ممرًا من أربيل إلى اللاذقية. ويضيف بدلًا من تهويل الأتراك لوصول إسرائيل إلى جبال طوروس، وانتشار نظرية المؤامرة حيث تسعى أمريكا إلى تقسيم تركيا بنفوذ الأكراد فى الشمال، وهى ادعاءات لا تستند إلى الحقيقة، إذ لا تزال تركيا القوة العسكرية الأكبر فى المنطقة، بما فى ذلك إسرائيل، ويمكنها التخلى عن أى أطماع واتخاذ خطوات فعلية تسهم فى إنشاء نظام محلى أكثر استقرارًا فى سوريا، مشابه للنظام فى العراق دون الحاجة إلى شن أى هجمات على الأكراد، ما يساعد فى إيجاد نوع من التوازن فى المنطقة، مع الحفاظ على الحدود التى وضعتها اتفاقية «سايكس بيكو». إخلاء الشمال وحول آمال تركيا فى «سوريا» ما بعد الأسد يقول مركز الأبحاث الدولية والشئون الاستراتيجية الأمريكى هينرى ل. ستيمسون فى تقرير له، إن أردوغان يسعى لتقليص وجود الجماعات الكردية فى سوريا، ودفعهم بعيدًا عن المناطق الحدودية، وإخلاء الشمال السورى وجعله منطقة منزوعة السلاح، خاصة بعد أن آتته فرصة التخلص من الوجود الإيرانى وحزب الله اللبنانى فى سوريا وليظهر للإدارة الأمريكية بقيادة دونالد ترامب قدرة تركيا على مواجهة النفوذ الإيرانى فى الشرق الأوسط.
التقرير يقول إن تركيا لعبت ورقة روسيا بذكاء منذ غزوها الشامل لأوكرانيا فى 2022، ورغم أن موسكو أدانت الهجوم الذى شنته هيئة تحرير الشام، فإن ردها اقتصر على بعض الغارات الجوية ضد المتمردين التى لم تمنعهم من الانتقال إلى محافظة حماة الاستراتيجية. وأوضح «ستيمسون» أن تركيا تأمل فى أن يتبنى ترامب سياسة مشابهة لتلك التى اتبعها فى الشرق الأوسط بعد فوزه بالرئاسة مجددًا، والاتجاه إلى سحب القوات الأمريكية المتبقية فى سوريا (حوالى 900 جندي) وربما أيضًا القوات فى العراق (حوالى 2500 جندى)، مما يترك فراغًا أمنيًا كبيرًا. ويتوقع التقرير أن يساعدا هذا الفراغ تركيا وإسرائيل على أن تصبحا لاعبين رئيسيين فى المنطقة، مع امتلاكهما القدرة العسكرية الكبيرة لمواجهة خصومهما المتنوعين، بما فى ذلك الجماعات المدعومة من إيران، على وجه الخصوص، وستكون تركيا فى وضع يسمح لها بالتحرك عسكريًا ودبلوماسيًا ضد الأكراد، الذين كانوا فى السابق حلفاء لإسرائيل، ما يعزز من نفوذ أنقرة فى ظل تراجع إيران. ويكمل بصرف النظر عن تهديدات التدخل العسكرى، التى تُعبر عنها تركيا بصوت عالٍ فى الوقت الحالى، هناك حديث عن خطة احتياطية تهدف إلى إحالة قضية الشمال السورى إلى هيئة تحرير الشام عند الضرورة، لكن هذه الخطة ليس لها أى جدوى عملية، «حسب التقرير» لأنه لا هيئة تحرير الشام ولا الجيش الوطنى السورى يمكنهما التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية دون دعم الدولة التركية، وفى نهاية المطاف، سيتعين على تركيا إما إشراك جيشها الخاص أو اختيار طريق الحوار والتوصل إلى تفاهم، كما شوهد فى نموذج كردستان الجنوبية «العراق». وتوجد أدلة قوية على أن العقلية الحاكمة فى الدولة التركية تتخذ خطواتها بناءً على رؤية جميع هذه الاحتمالات، وهى الاستراتيجية التى وضعها دولت بهجلى كإجراء وقائى للتعامل مع جميع الاحتمالات. المفاوضات أولًا يقول التقرير إنه رغم لهجة تركيا القاسية التى تبدو غير قابلة للتصالح، فإن احتمال التخلى عن خطط التدخل العسكرى فى روجافا «شمال وشرق سوريا» واعتماد نهج أكثر تصالحًا، يقوم على الحوار وتحالف تركي-كردى، ليس مستحيلًا وإن كان يبدو صعبًا حاليًا. وفى حال اتخذت إدارة ترامب موقفًا حازمًا، فلن يكون لدى تركيا خيار سوى قبول نهج التفاوض، خاصة إذا قام الرئيس الأمريكى بتنفيذ خطة مستقبلية بتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ تابعة لتركيا وإسرائيل، بما يضمن أيضًا أمن المنطقة. ويُعتبر ترك الجنوب لنفوذ إسرائيل والشمال تحت سيطرة تركيا خطة أكثر واقعية، لكن لتحقيق ذلك، يجب على تركيا اختيار طريق الحوار وإكمال عملية السلام بنجاح، وإذا تخلى حزب العمال الكردستانى عن السلاح واعترفت تركيا بوضع روجافا، فإن عملية السلام لن تنجح فقط، بل ستفتح الأبواب أمام تركيا للاستفادة من إعادة إعمار سوريا بشكل كبير، ما يساعدها على الخروج من أزمتها الاقتصادية، لذا يعتمد مستقبل أردوغان على نجاح تنفيذ هذه الخطة. وقال الخبير السياسى التركى والكاتب بصحيفة «أيدينليك» التركية، جواد جوك، إن الحكومة التركية لديها نوعان من التعامل مع الأزمة الكردية، النوع الأول وهو الضغط العسكرى والتهديد العسكرى المستمر والعمليات البرية لقوات الجيش السورى الجديد ضد قوات «قسد» القوات الكردية لفتح المجال للحرب.
والنوع الثانى هو الضغط السياسى من داخل تركيا، من خلال الضغط على أكبر رمز للأكراد يمكنه التأثير عليهم وهو «أوجلان» من داخل محبسه ليعلن عن انهزام وتراجع حزب العمال الكردستانى أمام القوات السورية والتركية، لحث الأكراد فى سوريا على التفاوض مع الجيش التركى والانسحاب الكامل من الحدود السورية التركية. وأضاف «جوك» فى تصريحات خاصة ل«صباح الخير» أن تركيا تقوم بالتنسيق مع حكومة أحمد الشرع سياسيًا واستخباراتيًا بشكل كامل، تزامنًا مع التفاوض مع قوات سوريا الديمقراطية لحل هذه المنظمة وتشكيل أخرى جديدة تحت رعاية الجيش السورى الجديد. وفيما يتعلق بالنزاع على ثروات النفط السورية، أشار الخبير التركى إلى أن الأكراد فى شمال سوريا بحاجة إلى الحفاظ على أموالهم وأنفسهم ومناطق نفوذهم، ولكن سيكون كل ذلك تحت راية «سوريا الشرع». وأكد أن هناك بالطبع آبار نفط فى منطقة دير الزور كانت تحت حماية قوات سوريا الديمقراطية، والآن الحكومة التركية تريد أن يتم اقتطاع هذا الثروات لتكون تحت سيطرة الحكومة السورية الجديدة فهى فى حاجة مُلحة لميزانية قوية لبناء سوريا الجديدة مرة أخرى، مفيدًا أن الإدارة التركية ستقوم بالتننسيق مع الحكومة السورية الجديدة بشكل كامل وسيتم إرسال قوات تركية عسكرية برية للحفاظ على الآبار والسيطرة عليها بعيدًا عن أيدى الأكراد.
خطأ استراتيجى ومن الأخطاء الاستراتيجية التى وقعت فيها تركيا محاولتها توسيع نفوذها دون الاعتماد على تحالف تركى-كردى، حيث يشير مركز أبحاث «روشان جاكير» التركى إلى تاريخ الإمبراطورية العثمانية فى استغلال دعم الأكراد لتوسيع نفوذهم، بينما تسعى اليوم الدولة التركية إلى فرض نفوذها من خلال القضاء على مكتسبات الأكراد، وخصوصًا فى روجافا. ويضيف تلك الاستراتيجيات التى تفتقر إلى دعم الأكراد ليس لديها أى فرصة للنجاح فى الظروف الحالية، وإذا لم يحدث تغيير فى السياسة التركية ولم تُعترف بحقوق الأكراد كأمة، ولم تُبن شراكة تركية-كردية، فإن كل خطوة عدائية ستنقلب فى النهاية ضد الدولة التركية، تمامًا كما حدث مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفقًا للتجارب التاريخية، تركيا اليوم لا تمتلك الظروف التى كانت متوافرة لها فى الحقبة العثمانية. ورغم اعتبار أنقرة شريكا مهما للناتو حلف شمال الأطلسى، فإن صبر الولاياتالمتحدة وإسرائيل تجاه تصرفات أنقرة التى تتعارض مع أهدافهما قد ينفد، ولن يتم التسامح مع أى تصرف عدائى يعرقل السياسات الرئيسية. ويزعم المركز التركى أن أنقرة أصبحت اليوم أمام مفترق طرق؛ إما أن تكون جزءًا من استراتيجية تهدف إلى استئصال النظام الإيرانى من المنطقة، أو أن تستمر فى سياساتها الحالية التى قد تؤدى إلى اعتبارها «الشيطان الجديد» فى الشرق الأوسط، وهو ما يعتمد بشكل كبير على موقفها من روجافا، التى لا تمثل مجرد قضية أمنية بل لها أبعاد استراتيجية تؤثر على علاقاتها مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل ودول المنطقة.