عيد العمال الليبرالي    رئيس «إسكان النواب»: توجد 2.5 مليون حالة مخالفة بناء قبل 2019    أسعار النفط تسجل أكبر تراجع أسبوعي في 3 أشهر    بالصور.. وزير الشباب والرياضة يتفقد معسكر "يلا كامب" بمدينة دهب    بعد «اتفاقية التكييف».. محافظ بني سويف: تحوّلنا إلى مدينة صناعية كبيرة    إدخال 349 شاحنة مساعدات إلى قطاع غزة من معبري رفح وكرم أبو سالم    البيت الأبيض: بايدن يستقبل العاهل الأردني الأسبوع المقبل    موريتانيا.. أقدم معارض يدعم الرئيس الغزواني في الانتخابات المقبلة    أخبار الأهلي : عاجل .. استبعاد 11 لاعبا من قائمة الأهلي أمام الجونة    بحضور 25 مدربًا.. اتحاد الكرة يُعلن موعد الدورات التدريبية للرخصة «A»    تير شتيجن على موعد مع رقم تاريخي أمام جيرونا    التحقيقات تكشف سبب مقتل شاب علي يد جزار ونجله في السلام    تحرير 12 محضرا تموينيا خلال حملة مكبرة في البحيرة    مروة ناجي تتألق ونجوم الموسيقى العربية ينتزعون الإعجاب على المسرح الكبير | صور    آمال ماهر تتألق بأجمل أغانيها في جدة | صور    قصر أثري للبيع مقابل 10 يورو بشرط واحد.. كان يسكنه رئيس وزراء بلجيكي سابق    فريدة سيف النصر ترد على اتهامات توترها للفنانين داخل لوكيشن "العتاولة"    هند صبري وابنتها يقلدان مشهد من «نيللي وشريهان»    «يباع أمام المساجد».. أحمد كريمة يهاجم العلاج ببول الإبل: حالة واحدة فقط بعهد الرسول (فيديو)    5 فئات ممنوعة من تناول الرنجة في شم النسيم    لعنة تخطي الهلال مستمرة.. العين يخسر نهائي كأس الرابطة من الوحدة    عمرو أديب ل مصطفى بكري: التعديل الوزاري إمتى؟.. والأخير يرد    فريق طبي يستخرج مصباحا كهربائيا من رئة طفل    الوزراء: منظومة الشكاوى الحكومية تلقت 2679 شكوى بمخالفات مخابز    قتلا الخفير وسرقا المصنع.. المؤبد لعاطل ومسجل خطر في القاهرة    بعد غيبوبة 10 أيام.. وفاة عروس مطوبس تفجع القلوب في كفر الشيخ    "قطّعت جارتها وأطعمتها لكلاب السكك".. جريمة قتل بشعة تهز الفيوم    وظائف وزارة العمل 2024.. بالتعاون مع شركات القطاع الخاص    كيف يعاقب قانون العمل المنشآت الممنتعة عن توفير اشتراطات السلامة المهنية؟    بعد محور جرجا على النيل.. محور يربط «طريق شرق العوينات» و«جنوب الداخلة - منفلوط» بطول 300 كم لربط الصعيد بالوادي الجديد    أخبار الأقصر اليوم.. تفاصيل لقاء قائد قطاع المنطقة الجنوبية لإدارة التراخيص والتفتيش ونائب المحافظ    بمشاركة كوكا، ألانيا سبور يتعادل مع أنقرة 1-1 في الدوري التركي    أنشيلوتي يؤكد مشاركة نجم ريال مدريد أمام قادش    أجمل دعاء ليوم الجمعة.. أكثر من الصلاة على سيدنا النبي    ردا على بيان الاهلي.. الكومي يكشف تفاصيل ما سوف يحدث في أزمة الشيبي والشحات    طب الفيوم تحصد لقب الطالبة المثالية على مستوى الجامعات المصرية    حسام موافي يوجه نصائح للطلاب قبل امتحانات الثانوية العامة (فيديو)    المؤتمر الدولي لكلية الألسن بجامعة الأقصر يعلن توصيات دورته الثالثة    المحكمة الجنائية الدولية عن التهديدات ضد مسئوليها: يجب أن تتوقف وقد تشكل أيضا جريمة    ضبط ربع طن فسيخ فاسد في دمياط    بالصور| انطلاق 10 قوافل دعوية    خدمة الساعات الكبرى وصلاة الغروب ورتبة إنزال المصلوب ببعض كنائس الروم الكاثوليك بالقاهرة|صور    رئيس قوى عاملة النواب يهنئ الأقباط بعيد القيامة    في تكريم اسمه |رانيا فريد شوقي: أشرف عبد الغفور أستاذ قدير ..خاص    المفتي: تهنئة شركاء الوطن في أعيادهم ومناسباتهم من قبيل السلام والمحبة    تنفيذ إزالة فورية لتعدٍّ بالبناء المخالف بمركز ومدينة الإسماعيلية    بواسطة إبراهيم سعيد.. أفشة يكشف لأول مرة تفاصيل أزمته مع كولر    المقاومة الفلسطينية تقصف تجمعا لجنود الاحتلال بمحور نتساريم    المنتدى الاقتصادي العالمي يُروج عبر منصاته الرقمية لبرنامج «نُوَفّي» وجهود مصر في التحول للطاقة المتجددة    سوسن بدر تعلق على تكريمها من مهرجان بردية لسينما الومضة    بيان عاجل من المصدرين الأتراك بشأن الخسارة الناجمة عن تعليق التجارة مع إسرائيل    ضبط 2000 لتر سولار قبل بيعها بالسوق السوداء في الغربية    التعليم العالي: مشروع الجينوم يهدف إلى رسم خريطة جينية مرجعية للشعب المصري    سموتريتش: "حماس" تبحث عن اتفاق دفاعي مع أمريكا    «الإفتاء» تحذر من التحدث في أمور الطب بغير علم: إفساد في الأرض    إصابة 6 أشخاص في مشاجرة بسوهاج    الفلسطينيون في الضفة الغربية يتعرضون لحملة مداهمات شرسة وهجوم المستوطنين    الغدة الدرقية بين النشاط والخمول، ندوة تثقيفية في مكتبة مصر الجديدة غدا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عائدون ومعنا مفتاح الدار
قراءة فى رواية الطنطورية لرضوى عاشور
نشر في صباح الخير يوم 06 - 12 - 2023

رواية «الطنطورية» للكاتبة المصرية المبدعة د. رضوى عاشور (1946 - 2014) من أهم الروايات التى توثّق لتاريخ فِلَسْطين وجغرافيتها: قُرَاها ومُدُنها ومَعَالمها، وكفاح أهلها ضد المُحتل.
هذه الرواية خريطة حقيقية لفِلَسْطين مكتوبة برحيق الأرض، وعَبق الأزهار، وسخاء الأشجار، وبرائحة البحر.
أبطالها يصمدون فى وجه المُحتل، يتدربون على الأعمال الفدائية والمقاومة، يوثقون لكل الأمكنة التى احتلتها إسرائيل، يحفظون مكان كل شجرة، وكل بيت، ويُعلقون مفاتيح الدُور والبيوت على أعناقهم، ويتوارثونها جيلاً بعد جيل.
كفاح متواصل
وهذه الرواية- التى صدرت عن دار الشروق بالقاهرة - هى أيضًا رواية مرجعية تستند فيها الكاتبة إلى العديد من المَصادر المتنوعة، منها ما هو تاريخى وأدبى ووثائقى، وتمزجها بفنها السردى، وبلغتها المتدفقة حاملة طاقات شعرية وجدانية تؤازرها رؤية ثاقبة لأبعاد الصراع العربى- الإسرائيلى، فتصوِّر تفاصيل التهجير القسرى، وجرائم الاحتلال من سلب ونهب، وقتل وتدمير.
تدور أحداث الرواية فى البدء فى «الطنطورة» مرورًا بقيسارية، وصَفّورية، و«عين غزال»، وغيرها من قرَى ومُدن فِلَسْطين قبل وبعد الاحتلال، فتصوِّر بطولات الأهالى، واستبسالهم فى مقاومته، ومعاناتهم بعد أن أخرجوا من ديارهم بالبطش والعسف. وتتطور أحداث الرواية لتكون رواية أجيال، يسلمنا الجيل الأول «أبو الصادق»، وزوجته «زينب» إلى جيل الأبناء، « حسن»، و«الصادق»، و«رقية» أولادهما، ثم جيل الأحفاد من بعد ذلك، فتنجب «رقية» «صادقًا» آخر، و«حَسَنًا» آخر بعد استشهاد أخويها، وأبيها فى مذبحة «الطنطورة»، وتنجب «عبدالرحمن» أيضًا، وتتبنّى طفلة جميلة هى «مريم»، أصَرّ زوجها الطبيب «أمين» على تبنيها بعد أن استشهد أهلها فى مذابح الاحتلال لنشهد هذا الكفاح المتواصل، وهذا العشق للطنطورية، وحيفا، ويافا، والقدس وكل قرى ومدن فِلَسْطين. يكتب «حسن» فى دفاتره، وتنقشه «رقية» تاريخًا فى ذاكرتها ونبضها، ويدافع عنه «عبدالرحمن» فى المحافل الدولية، فيطالب بحقوق بلاده بالقانون من خلال شهادات أهالى «الطنطورة»، وغيرها من مُدن فِلَسْطينية تعرضت للمَجازر ويضم إلى هذه القضايا أيضًا ما حدث فى «صبرا» و«شاتيلا»، من مذابح وانتهاكات.
مصائر تتغير
الساردة هى «رقية» الشابة الفِلَسْطينية التى تعيش فى «الطنطورة»، وتحلم بالزواج من شاب من «عين غزال» إلا أن أمَّها ترفض هذا الزواج بسبب خوفها مما قد يتهددها من المستوطنين إن هى ركبت القطار إلى «عين غزال» أو إلى «حيفا»؛ حيث يريد الشاب التوظف فيها بعد أن يُتم دراسته فى مصر. تعارض الأم بشدة رأى «أبوالصادق» هو يقول لها: «إن توظف فى «حيفا» تركبين القطار فتصلين لابنتك فى أقل من نصف ساعة»، فتقول: (ولو قطع اليهود علينا الطريق؟»، فاحمّر وجهة وقال: «فال الله ولا فالك، نحن نشترى الرجل لا موقع عمله).
لكنها تحمل غضبها وخوفها فى داخلها. وفى مونولوج مُعَبّر تكشف أمُّ «رقية» عن خوفها من التعرض لبطش المُحتل، الذى يهدد المصائر، فتقول لنفسها: (كيف أركب قطارًا معظم ركابه من عسكر الإنجليز ومن المستوطنين اليهود؟، حتى لو تركونى فى حالى، ولم يؤذنى أحد منهم؛ كيف أجرؤ على الاستعلام منهم، قد لا يفهمون كلامى حين أسألهم وقد يسخرون منّى، وقد يتقصدون ألا يدلونى فأنزل فى المحطة الخطأ، وأضيع بين البلاد، وقد أجد نفسى فى كبّانية من كبّانياتهم، ماذا أفعل ساعتها؟، أدق الباب على اليهود، وأقول لهم: رجّعونى بلدنا؟!).
وعندما علمت الأم بالمذبحة التى قام بها العمال اليهود ضد العرب فى «حيفا»، قالت الأم لابنتها أنها لن تزوجها لابن «عين غزال» «إن لم يتعهد بالسكن بعيدًا عن «حيفا» والشرط نسجله بالعَقد».
لكن «رقية» لن تتزوج ابن «عين غزال»؛ فلقد غيّر قرار التقسيم - بعد انتهاء الانتداب الإنجليزى على فِلَسْطين - المصائر من جديد، فأصبح خط الساحل من جنوب «عكا» إلى جنوب «يافا» بما فيها قريتهم «الطنطورة» يدخل بعد التقسيم فى نطاق دولة اليهود. وترصد الكاتبة ما حدث فى حياة الناس بعد هذا الاحتلال فتقول:
(سقطت «قيسارية» الواقعة على البحر مثلنا، ولكن جنوب البلد، سقطت وأرغم أهاليها على تركها. استضافت قريتنا بعض العائلات. نصيبنا من الضيوف أرملة لها طفلان. السيناريو الذى ستعيشه بعد ثلاثة أشهُر قرى الساحل وغير الساحل. لم يكن السيناريو متطابقا فى كل تفاصيله، وإن تطابق فى خطوطه العامّة) «عسكر اليهود حاصروا البلد، وهاجموها وطردوا الناس من بيوتهم».
الاحتفال بعد الانتداب !
لم يتغير مصير «رقية» وحدها؛ ولكن مصائر الناس جميعًا تغيرت بعد الاحتلال. ورصدت الكاتبة أثر ذلك على حياة أبطالها فتاة تقول: (لن أتزوج إلا عندما نعود إلى بلدنا، كيف تتم الطُلبة، وأين نستقبل الجاهة، ونحن هكذا بلا دار».
(الحاجة للسلاح صارت كشربة ماء ضرورية للبقاء. أصبح الحديث مشاعًا حتى بين نساء القرية عند شراء السلاح، وصارت أسماء العصابات الصهيونية وزعمائها أسماء غريبة، وصعبة النطق صارت متداولة بينهن، فيعرفن من هم «الهاجاناه»، ومن «شتيرن»؟، ومن «إتسيل»؟، ومن هو بن «جوريون»؟).
الذى أعلن وسط حفل فى «تل أبيب» أنه فور انتهاء الانتداب البريطانى بدءًا من الدقيقة الأولى بعد منتصف الليل سيحلون محله فى حُكم فِلَسْطين، يغدو البلد دولة لليهود، ويصير اسمها «إسرائيل»!!
مقاومة الأهالى
تغيرت مصائر الناس جميعًا وليس «رقية» وحدها وابن عين «غزال»، احتلال... الآن يعرفون ما معنى الاحتلال، وشراسة الدفاع عن وطن، عاد ابنا «زينب» و«أبو القاسم»، وصلا مشيًا على الأقدام من «حيفا» عبر الأحراش، والسكك الحديدية الملتفة، بدا (الأب كحقل ألغام، تنفجر ألغامه لغمًا وراء لغم فى وجه أمّى، ووجهى لأن توزيع نوبات الحراسة، وتدريب من لم يتدرب من الشباب لا يكفيه متنفسًا لقلقه على مصير ولديه ومصير البلد) كما تقول رقية.
احتلوا «حيفا»، سلمها الإنجليز لليهود كيف؟، ماذا حدث للحامية وما الذى جرى ليخرج الناس جماعيًا لمغادرة المدينة؟، ترددت الأسئلة بين الناس وامتزجت بالحزن؛ فقد استشهد عبدالقادر الحسينى وهو يدافع عن «القسطل».
وفى فجر اليوم التالى، هاجم الصهاينة «دير ياسين» المجاورة للقسطل، وذبحوا من ذبحوا من أهلها، وبعدها بثلاثة أيام احتلوا «صفد»، ثم «يافا»، وبعدها «عكا»..، وتصرخ أسئلة الناس: لماذا انسحبت الحامية من صفد؟، أين ذهب جيش الإنقاذ؟ ما الذى أخرج الأهالى من دُورهم؟، كيف احتلوا «عكا» وهى «عكا»..؟!
رصدت الكاتبة تاريخ احتلال هذه المدن واحدة بعد الأخرى، كما ترصد تكوُّن فرق المقاومة، والتدريب على السلاح، يقول «أبو الصادق»: («أهل عين غزال» و«جبع» و«إجزم» صدوا الهجوم، ولذا يشكل فرق حراسة «الطنطورة» لكنّ أخاه يرى أن يرحل الأطفال والنساء عن القرية إلى «صيدا» تجنبًا لبطش الصهاينة. رفض «أبوالصادق»؛ بل رفع على أخيه السلاح قائلاً: «الله يسهل عليك، ارحل أنت وزوجتك وابنك، ولكن أنا حر فى أهل بيتى).
الترحيل
لكن الاحتلال ينجح فى السيطرة على المدينة، وتصور لنا الساردة «رقية» ما تعرضوا له فى ترحيلهم من «الطنطورة» فتقول:
(ساقونا إلى الشاطئ، قسّمونا إلى مجموعتين، الراجل فى ناحية، والنساء والأطفال وبعض المسنين من الرجال فى ناحية، أول مرة أرى المجندات، نساء يرتدين ملابس عسكرية ويحملن السلاح، كلمتنا بالعربية، ورحن يفتشننا واحدة بعد الأخرى، ويأخذن ما يجدنه معنا من مال أو حُلى، يضعنه فى خوذة، كلما امتلأت الخوذة يفرغن ما فيها على بطانية كبيرة مبسوطة على الرمل، لم تنتبه المجندة للعنزة التى أحملها ولكنها انتبهت، وهى تفتشنى إلى فردتى القرط فى أذنى، انتزعتهما انتزاعًا، سال الدم من أذنى، مسحته بطرف ثوبى.، انتقلت المجندة إلى تفتيش أمى و«وصال» و«عَبد» وأمّه، أخذوا تنكتى الزيت والزيتون، ونصية الجبن، جردت أمى من خاتمها وقرطها وسلسالها).
مقبرة جماعية
وتصف الساردة مأساة هذه الأسرة، أسرة «رقية» نموذجًا لما تعرض له أهل «الطنطورة» من تنكيل وقتل، وما أصاب الأطفال والنساء من مشاعر قاسية بالفقد، واليتم وسط مَشاهد دامية؛ حيث استهدفت القوات الباغية الشباب والرجال، ودفنوهم فى مقبرة جماعية، فتقول «رقية»:
(يحشوننا فى شاحنتين، وبدأت الشاحنتان فى التحرك، صرخت فجأة، وجذبت ذراع أمى، وأنا أشير بيدى إلى كومة من الجثث، نظرت أمى إلى حيث أشير، وصرخت: «جميل»،«جميل» ابن خالى، ولكننى عُدت أجذب ذراعها بيدى اليسرى، وأشير بيدى اليُمنَى إلى حيث أبى وأخوى، كانت جثثهم بجوار جثة «جميل» مكومة بعضها لصق بعض على بعد أمتار قليلة منا).
فقدت «أم الصادق» عقلها بعد هذا الحادث تتوهم أن زوجها اعتقل مع من اعتقلوا من رجال البلد، وتقول عن ولديها:
(الحمد لله أن «الصادق» و«حسن» هربا إلى مصر، مساكين لا بُدّ أن القلق أكل قلبيهما علينا، ونحن نعيش هنا فى خير وأمان.
لكن «رقية» تعرف الحقيقة، وكذلك الشباب الذين أخذوهم لحفر المقبرة الجماعية، شهدوا أن «أبوالصادق» وولديه كانوا بين الجثث التى دفنوها).
على قيد الحياة
وتنقلنا الساردة إلى الحيلة النفسية الذاتية التى توهمتها أمُّها لتستطيع العيش، واحتمال الحياة، فولداها هربا إلى مصر وزوجها لا يزال فى الأسْر، ورثت «رقية» الحيلة نفسها فتوهمت أن زوجها الطبيب «أمين» والذى استشهد فى مستشفى «عكا» فى صيدا هو أيضًا على قيد الحياة وأنه سيطرق بابَها ذات يوم؛ لتشكره على تبنيه للطفلة «مريم» التى فقدت أهلها فى إحدى المذابح، فأصبحت «مريم» أنيسة لها فى وحدتها؛ بل أصبحت ابنتها التى لم تلدها.
محاولات العودة
لم يستسلم الناس لاحتلال قراهم، وترحيلهم، فأهل «الطنطورة» الذين تم ترحيلهم إلى قرية مجاورة هى «الفريد يس» قد عاد بعضهم إلى «الطنطورة» فلاقوا أضعاف ما لاقوا من البطش والتنكيل. وتصف «رقية» بعض ما رأت من نساء قريتها اللواتى تم ترحيلهن فتقول: (وصاحت امرأة من بلدنا فجأة: «الله أكبر، نجوع والسنابل طولها مترين فى أرضنا؟»، وقالت لأختها «قومى معى»، اتجهت إلى البلد لتحصد بعض القمح، فى المساء عادت أختها بثوب ممزق، وآثار اللطم واضحة على وجهها، وطلبت من بعض شباب «ألفريد يس» أن يساعدوها على نقل جثة أختها التى دهمتها سيارة عسكرية إسرائيلية، قالت: داسوها قصدًا، ولمّا حاولت الاقتراب لأرى ما أصابها، عادت السيارة فى اتجاهى، فقفزت مبتعدة داست عليها السيارة مرة أخرى)!
وفى «ألفريد يس» استضافهم أهل البلد، أنزلوا «الفرشات»، وقاسموهم «الزاد» الذى كان شحيحًا فمات بعض المسنين، أمّا الرضع فكانوا يتساقطون بشكل غير مفهوم، كل يوم يموت رضيع، وأحيانًا رضيعان، ودفنوا فى «ألفريد يس» خمسة وعشرين طفلاً، وربما ثلاثين.
وتصف «رقية» عذاب الترحيل من مدينة إلى مدينة، والتعرض للقصف فى الطريق فتقول:
(استلمنا الصليب الأحمر، ونقلونا إلى أرض قفر ممهدة فى المثلث، استلمنا ضباط أردنيون، أحصونا، ووقّعوا بالاستلام ثم حملتنا الباصات إلى «طولكرم»، أنزلونا فى مدرسة قريبة من خط سكة حديد الحجاز، وفى «طولكرم» قصفنا الطيران الإسرائيلى، استشهد ابن «يحى العشماوى» وابنته، بعدها بأسبوعين أتت سيارة أخرى فنقلتنا إلى دير «المسكوبية» فى «الخليل»، قضينا فى «الخليل» ستة أشهر، ثم بدأ أهل البلد يتوزعون، منهم مَن أراد اللحاق بأقرباء له فى «طولكرم» أو «نابلس» أو «جنين»، ومنهم من تسلل عائدًا إلى «الجليل»، ومنهم من ذهب إلى «سوريا»، قالت أمّى: سنذهب إلى «صيدا» عند عمّى).
محنة عابرة وثقيلة
يظل الشعور بالاغتراب مسيطرًا على أبطال الرواية، يحنون إلى قريتهم «الطنطورة» ويحاولون التأقلم مع أوضاعهم الجديدة لتبدأ رحلة أخرى من المعاناة بعيدًا عن الوطن الأم، لقد تزوجت «رقية» من الطبيب «أمين» الذى يعمل فى وكالة «الغوث»، وأنجبت أولادها الثلاثة «حسن»، و«صادق»، و«عبدالرحمن» فى «صيدا»، ثم ارتحلوا جميعًا إلى «بيروت»، وهناك تبدأ تطورات أخرى فى حياة الفِلَسْطينيين الذين يعيشون فيها، فترصد الساردة رحلة انتقال زوجها «أمين» للعمل فى مستشفى «عكا» عند الطرف الجنوبى من مخيم «شاتيلا»، كما تصور معاناة شديدة الوطأة على المرتحلين؛ فالعم يرفض فكرة اللجوء نفسها، يغض الطرف عنها فهو ليس بلاجئ.
(وإنما هى محنة عابرة، ثقيلة وإن طالت لن تدوم، فيرفض التسجيل فى وكالة «غوث» للاجئين عندما تطرح زوجته الفكرة، ينفجر فيها غاضبًا: «وهل تحتاجين معونة يا امرأة، ينقصك كيس طحين؟، يا عيب الشوم»؟!).
تسكت زوجته، وربما دارت الفكرة فى رأسها وقالت أن زوجها على حق، ولكن المسألة ليست كيس طحين وعلبة سردين كما يقول ابنهما؛ بل المسألة لها علاقة بحفظ الحقوق ودخول المدارس والجامعات، والالتحاق بالوظائف، قال لا بُدّ من التسجيل، صاح العم غاضبًا: «لست لاجئًا ولن أطلب معونة من أحد»، وتذكر «رقية» أن العم لم يعرف إلى أن توفى بعد 27 عامًا من إقامته فى صيدا أنه مسجل لاجئًا، وأن ابنه كان يتسلم المعونة بانتظام، يحملها لأمّه وخالته مرة، ويوزعها فى الغالب على بعض المحتاجين).
مفتاح الدار
ومن أكثر مَشاهد الرواية عمقًا وتأثيرًا هو المَشهد الذى يصور تمسُّك الناس بدُورهم، وإصرارهم على العودة إليها، فهى الحلم وهى الأمل. وفى تصوير بديع تقدم «رضوى عاشور» فى روايتها «مفتاح الدار» الذى صار رمزًا للمكان وزمنًا مستقبليًا قادمًا، فتصف رغبة «زينب» فى السفر بحثًا عن «أبو الصادق» زوجها بعد أن اطمأنت على زواج «رقية» وتأتى خالتها «حليمة» لتقدم لها مفتاح الدار بعد إصرار الأم على السفر الذى أصبح وصفًا رمزيًا لرحيل الأم فتقول:
(مسحت خالتى «حليمة» دموعها ثم قامت ودخلت غرفة أمّى، وعادت ومدت لى يدها بمفتاح حديدى كبير قالت: مفتاح داركم يا «رقية».
غريب، لم أره منذ غادرنا الدار، أين كانت تخبئه؟
- كانت تعلقه فى رقبتها، لا تخلعه حتى حين تنام أن تتحمّم، أقول لها يا زينب يا أختى الحبل سيهترئ، حين تتحمّين، اخلعيه، ثم علقيه ثانية، لا تقبل، وذاب الحبل كما توقعت، أتت بحبل جديد علقته به، وبقيت على عادتها تنام وتتحمّم به، أخذت المفتاح، عدت إلى بيتى بعد انقضاء أيام العزاء الثلاثة قلت أعطى المفتاح لأمين يحفظه مع الأوراق، وشهادة ميلاده، وشهادة تخرجه، وإذن العمل، انتبهت: لا أوراق عندى سوى بطاقة الهوية الصادرة عن الأمن العام اللبنانى، قلت أعيده لعمّى «أبو الأمين» لأنه مفتاح داره، فالدار واحدة، يضعه فى جيب «قنبازه» العميق، ويروح يتحسّسه من حين لآخر فيشعر، يشعر بماذا؟ وضعته على راحة كفى اليسرى وتأملته: مفتاح حديدى قديم، داكن اللون، صقيل، يملأ الكف وله ثقل، تحسّسته بأصابع يدى اليُمنى فتعرفت عليه لمسًا بعد أن عرفته بالنظر.
فجأة ابتسمت وأمسكت بالحبل بكلتا يديها ورفعته ثم أدخلت رأسها فيه علقته برقبتها، شعرت بملمسه الحديدى على لحم الصدر، وسيظل فى الصحو وفى المنام، وكلما اهترأ الحبل استبدلت به حبلا جديدًا.
ثم تقول «رقية» (وبعد سنوات عندما انتقلنا إلى بيروت، وشاركت فى محو أمية النساء فى «شاتيلا»، وتعين علىّ أن أزور نساء المخيم لإقناعهن بأهمية الأمر اكتشف أن ما ورثته عن أمى كان شائعًا، استغربت، كيف تفعل النساء الشىء نفسه دون سابق اتفاق؟).
وفى بيروت
ترصد الكاتبة قرى لبنانية أخرى استولى عليها الإسرائيليون منذ الهدنة فى عام 48: يرسمها ابنها «حسن» فى خرائط توثق لهذه المدن: («المطلة وإبل القمح، الذوق الفوقا، والذوق التحتا، والمنصورة»، يعين موقع كل قرية بدائرة حمراء، ثم يشير إلى «هونين» و«الخالصة»، و«العباسية»، «والناعمة»، و«الصالحية»، و«الزاوية» وتحتها إلى الشرق قليلاً: «قدس»، و«المالكية»، وقبل أن يصل إلى أزرق البحر، يتوقف ويقول: («وكفر برعم والنبى روبين، وطربيخا»، ثم يقول وهنا «الشجرة» ومنها «ناجى العلى»، و«عبدالرحيم محمود» الشاعر الذى يحفظون أشعاره إذ يقول:
سأحمل روحى على راحتى وألقى بها فى مهاوى الردى/ فإمّا حياة تسر الصديق/ وإمّا ممات يغيظ العدا).
«شاتيلا» و«الطنطورة»
وتقول «رقية» بعد إقامتها فى «بيروت»: تمثلت تدريجيًا وعلى مهل، وقد تربيت فى المكان أن غربتى من غربة أهله، كأن شاطئ «بيروت» يقودنى إلى شاطئ بلدنا، كأن «شاتيلا» عند طرف شارع إن سلكته وسرت فى خط مستقيم أصل «الطنطورة»، مجرد شارع ممتد.
فقد سيطرت إسرائيل أيضًا على الوضع فى بيروت، ورغم استبسال شباب «فتح» وشباب الشعبية والديمقراطية وكل التنظيمات الأخرى اللبنانية والفِلَسْطينية، والحزب الشيوعى، ومنظمة العمل، والتقدمى الاشتراكى، والقومى السورى، والمرابطين وأمل، وشباب من كل التنظيمات لبنانيون وفِلَسْطينيون، وكل الذين صمدوا فى «بيروت» ثمانية أسابيع، صمدوا لمواجهة ما حدث من مذابح فى «صبرا» و«شاتيلا» إلا أن القيادة الفِلَسْطينية اتخذت قرارًا برحيل المقاومة من لبنان بعد اتفاقية «أوسلو».
نهب مركز الأبحاث
وترافقت مذبحة «صبرا» و«شاتيلا» مع نهب وسلب مركز الأبحاث الفِلَسْطينى بما فيه من وثائق وخرائط على أرض فِلَسْطين، وكتُب تصل إلى عشرة آلاف كتاب، وبعد ستة أشهُر من نهب المركز انفجرت سيارة ملغومة أحرقت المبنى، واستشهد من فيه، وأعيدت بعض صناديق الكتُب عن طريق الصليب الأحمر وأرسلت للجزائر ليتسلمها مدير المركز ورئيس قسم الوثائق الفِلَسْطينيان.
صراع دموى
كما تصف الكاتبة ذلك الصراع الدموى الذى تسبب فى إزهاق أرواح المدنيين واستشادهم من اللبنانيين والفلسطينيين بسبب الصراع بين الميليشيات التى أنشأتها إسرائيل من عملاء محليين بدعوى حفظ الأمن فى القرى، وثوار الأرز الذين يوزعون المنشورات على الأهالى لطرد الغرباء «الفِلَسْطينيين» لتتحكم إسرائيل تمامًا فى هذا الصراع والذى تعددت أطرافه: ميليشيات الكتائب، وكتائب سعد حداد، وحراس الأرز، وعانى المدنيون من ويلات الحرب والاقتتال، واستبسال ومقاومة الأهالى.
تفرَّغ «عبدالرحمن» من مغتربه فى «بلچيكا» ليستعين بالقانون الدولى لرصد انتهاكات إسرائيل ومذابحها فى «صبرا» و«شاتيلا»؛ حيث إن القوانين فى «بلچيكا» تسمح بذلك بإقامة المحاكمات، وجمع الشهادات، ومنها ما وثقته الدكتورة بيان نويهض، وما كتبته «رقية» نفسها، التى لا تزال تنام وتصحو على صورة «حنظلة» رسمة «ناجى العلى» وطفله الإبداعى ناظرًا من خلف السور الشائك إلى بلاده، تتساءل «رقية» هل أجد ناجى العلى صباح الغد فى «عين الحلوة»؟، هل يلتقى برقية الصغيرة ذات يوم، عبر السلك أو من دونه؟
أمّا ابنتها «مريم» فتقول عنه:
رسومه تعبّر عنّى، تجعلنى أكتشف مشاعرى والأشياء التى يثقل علىّ وتؤلمنى، والأشياء التى أرغب فى تحقيقها، رسوم «ناجى العلى» تعرفنا بأنفسنا، وعندما نعرف نستطيع، ربما لذلك اغتالوه.
«الطنطورية» رحلة صمود، رحلة اعتزاز بالتاريخ وباللغة، وبرموز الوطن الذين استبسلوا فى الدفاع عن الأرض، وتمسكوا بالهوية، بالجذور، بمفاتيح الدُور، بالبيوت، بقراهم، ومدنهم، بفِلَسْطين الوطن والوجود.
2
4
5
6
7


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.