الأرمن المصريون أو المصريون الأرمن كما يحبون أن يطلق عليهم هم جزء من النسيج المصرى لا يمكن فصلهم عنه، وهم من أكثر الجاليات التى اندمجت مع المجتمع المصرى فدرسوا وتعلموا.. وساهموا ثقافيًا وفنيًا واقتصاديًا فى شتى مناحى الحياة. على مدار أربعة أجيال حتى إنهم يفضلون كلمة طائفة عن جالية نظرًا لتغلغلهم العميق فى المجتمع المصرى. جاء الأرمن لمصر فى العصر الفاطمى وتولى 6 من الوزراء الأرمن حكم الدولة الفاطمية، وعندما أسس محمد على باشا لدولة حديثة استعان بالأرمن على نطاق واسع. هذا ما أكده الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر وعضو المجلس المصرى للشئون الخارجية، مشيرًا إلى أن مؤرخًا فرنسيًا وصف عهد محمد على بأن كل شىء كان فيه أرمن حتى الهواء والماء، مما يدل على تغللهم فى الجهاز الإدارى للدولة.
فأرمينيا جغرافيا كانت دولة طاردة للسكان بسبب الزلازل والحروب على عكس مصر التى كانت دولة جاذبة للسكان منذ أقدم العصور وحتى يومنا هذا. رفعت الإمام قال: استقبلت مصر الأرمن عقب المجازر العثمانية والإبادة وأنقذتهم البحرية الفرنسية واستقبلتهم مصر على الرغم من أنها كانت تحت الاحتلال العثمانى. ففى عام 1915، رست فى ميناء بورسعيد «ست سفن» حربية تابعة للأسطول الفرنسى فى البحر المتوسط، آتية من منطقة جبل موسى فى تركيا. وكان عددهم 4200 أرمنى وقد وجدت وثيقة لتبرع أسر بسيطة من بور سعيد للأرمن الذين نزلوا من جبل موسى لبورسعيد، بينما سمح سعد زغلول زعيم الأمة باستقبال 1200 طفل أرمنى يتيم 80 % منهم فتيات. شخصيات عديدة برزت ونجحت فى مختلف المجالات من الأرمن منهم نوبار باشا رئيس وزراء مصر الأرمنى الأصل الذى ولدت على يده مفاوضات السكك الحديدية مع رئيس وزراء بريطانيا وتقليص امتياز قناة السويس وحصول مصر على استقلالها أيام الخديو إسماعيل كان على يد نوبار باشا، ومنهم الفنانات لبلية ونيللى وفيروز والمطربة أنوشكا، وفنان الكاريكاتير الأرمنى ألكسندر صاروخان فنان روزاليوسف الذى اشتهر برسمه لشخصية المصرى أفندى.
كلمة السر المدرسة والكنيسة والنادى كلمة السر فى حفاظ الأرمن على هويتهم الثقافية والتراثية.. هذا ما أكده الدكتور أرمين مظلوميان رئيس الهيئة الوطنية الأرمينية أو الجالية الأرمينية فى مصر. وقال أرمين: «إن الأرمن فى مصر لهم تاريخ طويل، فقد قدم الأرمن مساهمات كبيرة فى مختلف جوانب المجتمع، بما فى ذلك السياسة والتجارة والفنون والثقافة والعمل الخيرى ولعبت الحكومة المصرية دورًا فى تسهيل اندماج الأرمن فى المجتمع المصرى، فى المقام الأول من خلال الاعتراف بحقوقهم وحمايتها، من خلال منحهم الحق فى إنشاء مدارس وكنائس ومؤسسات ثقافية وممارسة كل شعائرهم بكل حرية. سمح هذا الدعم للأرمن بالحفاظ على هويتهم الثقافية المتميزة مع أن يصبحوا أيضًا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع والنسيج المصرى». أضاف أرمين: «مهم جدًا الإشارة إلى أننا فى مصر مواطنون مصريون، نحمل بطاقات هوية مصرية». فى السنوات الأخيرة، واصلت الحكومة المصرية والمؤسسات الأرمنية جهودها لتعريف تاريخ الأرمن للمجتمع المصرى من خلال تعزيز التبادل والتعاون بين الثقافتين. تم تنظيم العديد من الزيارات المتبادلة بين مصر وأرمينيا وإقامة المعارض الثقافية والفنية وعمل أفلام وثائقية وكتابة الكتب التى تعرض التراث والثقافة والتاريخ الأرمنى، مما ساعد على زيادة الوعى والتقدير بين المصريين على نطاق أوسع. ومن أهم الأحداث كانت عام 2018 فى إطار مبادرة «إحنا المصريين الأرمن» التى أطلقتها وزارة الهجرة للاحتفاء بالجالية الأرمينية فى مصر ونقل الحدث على الهواء لملايين المشاهدين. وعن عدد الأرمن فى مصر حاليًا قال أرمين: تعداد الأرمن فى القاهرةوالإسكندرية يصل إلى 7 آلاف، كنا فى أربعينيات القرن والخمسينيات حوالى 40 ألف معظمهم هاجر لأمريكا وأستراليا وكندا ومنهم من عاد لأرمينيا، ولدينا نواد ثقافية ونواد رياضية فى الإسكندرية وهناك ناديان وفى القاهرة 4 نواد. أظهرت الجالية الأرمينية فى مصر التزامًا ملحوظًا بالحفاظ على تراثها الثقافى، بما فى ذلك لغتها وعاداتها وتقاليدها، من خلال المدارس الأرمينية. وكان قد أنشأ أعضاء الجالية الأرمينية مدارس أرمينية فى مصر، لتدريس اللغة والأدب والتاريخ الأرمنى، ولعبت هذه المدارس دورًا حيويًا فى الحفاظ على اللغة الأرمينية بين الأجيال الشابة وضمان نقل المعرفة الثقافية. كما أنشأت الجالية الأرمينية كنائس ومؤسسات ثقافية تعمل كنقاط محورية للتجمعات المجتمعية والاحتفالات الدينية والأحداث الثقافية، ووفرت هذه المؤسسات مساحة للأرمن لممارسة عقيدتهم والحفاظ على عاداتهم وتقاليدهم، ونقل العادات الثقافية إلى الأجيال الشابة.
وللآن تعمل مختلف منظمات الجالية الأرمينية فى مصر بنشاط لتعزيز الثقافة الأرمينية والحفاظ عليها، وتنظم الأحداث الثقافية والمعارض والحفلات الموسيقية والمحاضرات التى تحتفل بالتراث الأرمينى وتثقيف كل من الجالية الأرمينية والمجتمع المصرى الأوسع حول الثقافة والتاريخ الأرمينى. ولدى الجالية الأرمينية فى مصر وسائل الإعلام الخاصة بها، من الصحف والمجلات، التى توفر المعلومات والأخبار والمحتوى الثقافى باللغة الأرمينية. وأشار أرمين إلى أنه فى حين عمل الأرمن فى مصر بالحفاظ على تراثهم الثقافى، فقد احتضنوا أيضًا عناصر من المجتمع المصرى ودمجوا جوانب الثقافة المصرية. أدى هذا المزج بين الثقافات إلى هوية أرمينية مصرية فريدة تعكس جذورها الأرمينية ومحيطها المصرى. الراعى والوصى سألت المطران أشود مناتساكانيان مطران الأرمن الأرثوذكس بمصر عن تاريخ الكنيسة الأرمينية فى مصر ؟والخدمات التى تقدمها للأرمن؟ قال: «استقر الأرمن فى مصر منذ قرون ولديهم أيضًا كنائس وأديرة، ووفقًا للسجلات، كان لدينا مجتمع أرمنى منظم وكاهن وكنائس منذ القرن الحادى عشر». أضاف: «الكنائس التى تعمل حاليًا فى القاهرة هى الكنيسة الأم جريجور لوسافوريتش التى بنيت فى عام 1928. وكنيسة القديس ميناس التى بنيت عام 1843 وكنيسة جميع القديسين عام 1953. لدينا أيضًا كنائس فى الإسكندرية، من بينها كنيسة القديس باغوص بدروس التى بنيت فى 1884 وكنيسة سان جورج بنيت عام 1927». أضاف المطران: «للكنيسة الأرمينية الرسولية الأرثوذكسية المقدسة مكانتها المهمة وأهميتها فى حياة شعبنا، فهى لا تهتم فقط بالاحتياجات الروحية لأطفالها وتعتنى بها، ولكن منذ يوم تأسيسها، اضطلعت أيضًا بمهمة مهمة جدًا تتمثل فى الحفاظ على الهوية الوطنية لعدة قرون، بما فى ذلك التعليم والثقافة والفن والغناء- الموسيقى والتاريخ والمجالات الوطنية الأخرى». سألته: وكيف ساندت مصر حكومة وشعبًا الأرمن فى ممارسة طقوسهم الدينية بكامل الحرية وساهمت فى حفاظهم على إرثهم الثقافى؟ أجاب المطران: «يشهد وجود الكنائس والمدارس والمؤسسات الوطنية الأرمينية على أننا حصلنا على الحرية والفرصة ليس فقط للعيش فى مصر، ولكن أيضًا لنكون جزءًا من البلد والشعب، لتصبح جزءًا لا يتجزأ منها ولأجيال قادمة، فوجود الأرمن فى مصر هو مثال حى للعيش والاستقرار، والحفاظ على إيماننا ولغتنا وثقافتنا حتى اليوم، لدينا تلك الحرية، التى هى نتيجة الثقة المتبادلة. نحن نعرف كيف نكون ممتنين ونخدم البلد، الذى هو وطننا الأم ونحن أطفاله، بتفانٍ».
أبواب وقلوب الدكتورة مارى كيبليان وزوجها جورج زردليان أسرة أرمينية مصرية، ولدت مارى فى مصر وتعلمت وعملت وتزوجت وأنجبت فى مصر، ولم تسافر أرمينيا سوى مرات معدودة كان آخرها فى عام 2013 فهى مصرية حتى النخاع.. تقول: أعمل أستاذة فى كلية السياحة والفنادق قسم إرشاد سياحى جامعة حلوان، ولدت فى القاهرة، والدتى من مواليد شبرا، ووالدى ولد فى الإسكندرية واستقر فى القاهرة. أجدادى من ناحية الوالد من الأرمن الذين جاءوا فى الهجرة الأولى بدر الدين الجمالى، والجدود من ناحية أمى جاءوا وقت المذبحة 1914. التحقت أنا وأخى بالمدرسة الأرمينية بمصر الجديدة وكنا نرتاد النوادى الأرمينية.. وبعدها التحقت بكلية السياحة والفنادق». تكمل: «وقت الطفولة لم نكن منعزلين، لكننا كنا نندمج مع المجتمع المصرى بشكل كبير ومع بعضنا كأرمن من خلال النوادى الاجتماعية ورحلات الكشافة وغيرها من الفعاليات، وفى البيت نتحدث الأرمينية، لكن خارج البيت كنا نتحدث اللغة العربية ووالدى كان حريصًا على ذلك.. وكان يشجعنا على تحدث العربية ويقول لنا: لابد أن نتحدث لغة البلد الذى استضافنا فهو نوع من الاحترام والتقدير». تضيف مارى: «زوجى أرمينى والده أرمينى، لكن والدته مصرية قبطية، ووالدته المصرية كانت تتحدث الأرمينية بشكل متقن وبطلاقة، وزوجى تعلم فى مدرسة كالوسديان - نوباريان الأرمن بمصر الجديدة.. حتى الإعدادية وبعدها التحق بمدرسة سان جورج». عن أسرتها قالت مارى: «لدىَّ ولدان، الابن الأكبر هو اليكسان زردليان، الابن الصغير أدى زردليان، ونفس النهج اتبعناه معهما المدرسة والنوادى الأساس». سألتها: أعلم أن الأرمن يتزوجون من بعض ومن النادر أن تربطهم علاقات مصاهرة مع أى جنسيات أخرى.. لماذا؟ فأجابت: «نعم حقيقى وليست المسألة تعصبًا، لكن لا يوجد طلاق، نحن نقف مرة واحدة فقط أمام الهيكل فى الكنيسة، لذلك نفضل أن نكون على علم بالعائلات وطبائعها.. فهى تقلل من فرص وجود خلافات.. لذلك نتزوج من بعضنا». وعن علاقتها بالمجتمع المصرى وهل كان ينظر لها على أنها أجنبية قالت «:البعض كان ينظر مثل هذه النظرة، لكنها تتوقف على اختلاف البشر، لكن الأغلبية يحبون الأرمن جدًا ويعرفون تاريخنا والمهن التى عملنا بها وتأثيرنا فى المجتمع المصرى فى مجالات الطباعة.. والتصوير وحياكة الملابس». قالت مارى: «نشأت على احترام البلد الذى استضافنا، ودائمًا نقول مصر فتحت الأبواب والقلوب لنا، ولولا معاملة المصريين واستضافتهم لنا وعدم شعورنا بالغربة فى أى فترة من فترات وجودنا ما كنا استطعنا أن نعيش ونعمل وننجح.. ولدىَّ أصدقاء مصريون، ونتشارك فى كل الأعياد والمناسبات». سألتها: ألم تشعرى بأى تمييز خلال عملك فى الجامعة أو فى تعيينك فى الجامعة؟ بالعكس تمامًا على الرغم من أن البعض كان يقلقنى بخصوص التعيين فى الجامعة وكانوا يقولون إنه من الصعب أن أعين كأستاذة فى الجامعة وأنا أجنبية، ولكننى فى العربى مختلفة، لكن بعد ذلك اكتشفت أنه كان مجرد كلام فقط، والحقيقة أنه تم تعينى فى الجامعة بدون وساطة، وبعد ذلك حصلت على بعثة تابعة لوزارة التعليم العالى حيث سافرت لهولندا، وعندما يكون هناك ترشيح لجوائز أو مؤتمرات أحصل على دورى، عمرى ما شعرت بأى نوع من التمييز». تقول: «فى الجامعة منذ 25 عامًا وعضوة فى لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة، وعضو اللجنة العليا متاحف مصر، وعضو مجلس الثقافة والتنوير بجامعة القاهرة.. كلها مناصب رفيعة حصلت عليها دون أى تمييز، ورسالتى حصلت على أفضل رسالة على مستوى الجامعة». الأكثر نشاطًا الدكتور جورج نوبار سيمونيان عميد كلية التصميم والفنون الإبداعية ورئيس الجمعية الخيرية للأرمن بالقاهرة قال: ولدت فى مصر وتزوجت بعدما التحقت بكلية الفنون التطبيقية جامعة حلوان، وعينت معيدًا وترقيت حتى درجة وكيل الكلية للدراسات العليا والقائم بأعمال عميد الكلية لمدة ثلاث سنوات، وأنا حاليًا عميد كلية الفنون بجامعة الأهرام الكندية، أخذت حقوقى كاملة دون أى نقصان وحصلت على بعثتين لإنجلترا.. إحداهما على حساب الحكومة البريطانية والأخرى على حساب الحكومة المصرية، لذلك دائمًا أفضل كلمة «المصريون الأرمن» على «الأرمن المصريون» فنحن مصريون أصولنا أرمينية فأنا عشت فى مصر 60 عامًا ثلاثة أشهر منها فقط فى أرمينيا ودائمًا أشبه حبنا للبلدين بحبنا للأب والأم لا يمكن المفاضلة بينهما». يؤكد نوبار: مصر فعلاً أم الدنيا، وهذا ليس مجازًا، لكنها حقيقة، فمصر هى من استقبلتنا عقب المجازر العثمانية وكان عدد الأرمن وقتها 4200 أرمنى، ولم نشعر فى أى وقت من هذا التاريخ بأننا أجانب أو أغراب». سألته: ما الفرق فى وجهه نظرك بينكم أرمن مصر وأرمن الشتات؟ قال: المصريون الأرمن حافظوا على لغتهم وثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ويرجع ذلك لعده أسباب.. منها أن الأرمن فى أوروبا على سبيل المثال لم يحصلوا على المميزات التى حصلنا عليها فى مصر منها المدارس والنوادى الاجتماعية، إضافة إلى أن المصريين الأرمن نشطاء جدًا ولديهم تنظيم هائل ثقافيًا واجتماعيًا». وعن نشاط الجمعية الخيرية الأرمينية العامة قال نوبار: «تأسست عام 1906 فى القاهرة على يد بوغوص نوبار ابن نوبار باشا، وبعد الحرب العالمية الأولى فى النصف الثانى من عشرينيات القرن انتقلت لسويسرا، ثم أصبح لها فرع فى أمريكا». الجمعية حاليًا لديها فروع فى كل أنحاء العالم وهدفها الأساسى المساعدات الاجتماعية..وتعتمد على الهبات والمساعدات بخلاف الاشتراكات الرمزية لأعضائها، ولدينا أنشطة فى الخدمات الثقافية والعلمية والمساعدات الطبية، ولدينا عدة لجان للمساعدات الطبية والأنشطة الثقافية ولجنة النشر والإعلام تصدر مجلتين كل ثلاثة شهور واحدة باللغة الأرمينية والأخرى باللغة العربية».