أهدى رسام الكاريكاتير الفنان سمير عبدالغني، إلى مجلة «صباح الخير» حلقاته المميزة عن جيل الأساتذة من رسامى الكاريكاتير، قبل أن يجمعها فى كتاب يوثق خلاله رحلة هؤلاء مع أحد أهم فنون الصحافة من خلال حكايات وذكريات، عاشها معهم، وصاحبهم خلالها على مدار سنوات عديدة، حرص على توثيقها لتقديمها إلى محبى فن الضحكة والبسمة، وللأجيال الجديدة التى لم يسعدها الحظ أن تتابع رسومات هؤلاء الفنانين فى زمانهم. لا أعرف على وجه التحديد متى بدأت علاقتى بالفنان الكبير حجازى؟!.. هل كانت مع مجلة سمير، حيث «تنابلة السلطان ».. بهلول، وتنبول، وشملول.. منتهي الظرف وخفة الدم؟ كانت علاقتي بالشخصيات التى أبدعها، لكنى لم أكن أعرف اسمه.. حتي سألني الفنان زهدى العدوي «شيخ رسامي الكاريكاتير» في إحدى مرات زيارتى له فى شقته بشارع شريف، وكانت غرفة وصالة وسطوح يسع كل الرسامين والأدباء المبدعين، الحالمين بتغير العالم.. مين بيعجبك من الرسامين؟
وأخذت أحدثه عن عبقرية مصطفي حسين، وألمعية چاهين، وآخرين لا أذكرهم الآن، ولم يكن بينهم حجازى.. فإذا به يفاجئنى: إنت نسيت أهم واحد فيهم.. فسألته: مين؟ فقال: حجازي.. ده «الماستر» أستاذ الأساتذة.. المادة الخام اللى بتصنع الضحك والسخرية والفكاهة والمفارقة.. حجازي يا ابنى هو الرسام الوحيد اللى تقدر تقول عليه (بتاعنا). قال: كل رسام من الجامدين اللى عندنا فيه حد شبهه بره مصر.. حتى أنا اتأثرت برسام إنجليزي، قعد سنين طويلة لابسنى زى العفريت، مش عارف أطلع منه.. لكن حجازي ده بتاعنا.. دي وشوش جايبها من طين مصر.. ملامح مش بتكدب.. مكدودة وتعبانة وعايشة مقهورة.. فيها ذكاءنا وخبثنا.. طيبتنا وضعفنا. وقوتنا المكبوتة زى البخار المكتوم، فى انتظار لحظة الفوران.
أضاف زهدى: حجازي ده عامل زى النجار البلدى، وصانع السجاد، وبتوع الفضة فى خان الخليلي.. زى الخطاط العربى فى كل الحاجات اللى لازم يعملها صنايعي شاطر، بروحه ودمه.. بالإضافة إلى موهبة من عند ربنا، تخليه يوصل للهدف من أقصر الطرق.. داهية فى الرسم.. مش ممكن تمسك حاجة عليه.. زى الفلاح الفصيح، لكن أهم حاجة فى رسم حجازي لسان حالنا، مش بتاع السلطة، ومالوش مصلحة.. عايش يرسم علشان الدنيا الوحشة دى تبقى أجمل. بدأت أعيد قراءة أعمال حجازى لدرجة أننى اشتريت كل أعداد صباح الخير وروزاليوسف من شارع النبى دانيال «فى الإسكندرية».. بدأت طريقى نحو المعرفة. بالصدفة وجدت تليفونه فى كتاب للفنان محيى الدين اللباد عن حقوق الإنسان…اتصلت به وقلت له: أستاذنا العزيز.. لقد أعجبني كاريكاتير نشرته صباح الخير عام 1958 وحكيت له شكل الرسم والتعليق ومدى إعجابى، فلم يضحك.
فسألته: مش بتضحك ليه.. ده أنا مت عليها من الضحك. فرد: ما هو ده اللى مزعلنى.. أنت ضحكت لأن المشكلة لسه ما تحلتش.. أنا يا سمير برسم علشان الدنيا تتغير مش علشان الناس تضحك!
وبدأ أول درس فى طريق الغواية. كنت أرسل إليه رسوماتى عن طريق البريد، وكان يناقشنى فيها أحيانًا ملحوظة: حجازى لا يتكلم فى التليفون وهو يعمل، أو فى حالة (اكتئاب من العالم). فى إحدى المرات قال لي، بعدما سمع صوتى فى التليفون: أنا زهقت منك. فقلت له: يعنى ما أتصلش تانى.. فرد: لا.. براحتك، لكني عاوز أشوفك.. تعالي مصر حاعزمك على شاي، فقلت له: شاى وكيك.
أجمل شىء فى الدنيا أن حجازى يقدم لك شاى وكيك اشتراه مخصوص. فى بيته البسيط الجميل بالمنيل كان الدرس الثانى.. خطوطك عايزة شغل خصوصا الأطراف. فقلت له: يا أستاذ يا ريت بإيدك الجميلة تصلح الرسم فرد:.. لأ بإيدك الجميلة أنت اللى هتصلح.. لأن اللى هعمله دلوقت مش هيعجبك بعد شويه.. إزاي يا أستاذ الواحد يبقى له أسلوب؟! قال لى: حتة من هنا، وحتة من هناك.. وعين بتشوف وتراقب ودماغ مليانة حاجات كتير.. أدب وفلسفة، وأحلام وأوجاع بشر، ووعي فطري من عند ربنا تحافظ عليه ومشاهدات لا تنتهى لرسامين آخرين.. حيبقى لك أسلوب، وكان الدرس الثالث. إزاي يا أستاذ الواحد يبقى رسام كاريكاتير كويس؟! فرد: لما يلاقي شغلانة تانية! يعنى إيه؟ مش فاهم!
يعني محدش ياكل عيش من رأيه، لأنه هييجي وقت حد يرفض ينشر رأيك، تعمل إيه؟ تتنازل.. وتنحنى، وتنثنى، ولا يكون لك شغل تاني تاكل منه عيش.. أنا شخصيًا بارسم للأطفال، وبادرب نفسى على الحياة الصعبة.. ساعات أعيش أسبوع كامل آكل فول نابت.. بتحب النابت؟ وضحكت. لقد تسرب حجازى إلى روحى.. أصبحت أعشق حجازي.. طريقته فى الرسم والتفكير، وحضوره الطاغى فى رسومه التي تشبهنا. قال لى أحد الرسامين: الفرق بين رسمنا ورسم حجازى إن رسمنا عامل زى الطبيخ.. ريحته تطلع لو قعد تلات تيام بره التلاجة، إنما رسم حجازي عامل زى الجبنة القديمة.. يعيش فى «البلاص» ميت سنة، ويفضل أطعم أكل فى الدنيا. حجازى هو مدرسة البساطة المدهشة..هو محمد أبو سويلم بتاع الكاريكاتير.