د. ثروت عكاشة قامة وقيمة يندر أن تتكرر، وكانت له بصمته فى كل عمل تنفيذى قام به - سفيرًا ووزيرًا وكاتبًا ومؤلفًا أيضًا. وعندما أصدر كتابه الأهم والأشهر «مذكراتى فى السياسة والثقافة» عام 1988 لقى حفاوة وتقدير واحترام كل أصحاب الأقلام والآراء حتى الذين اختلفوا معه! وصفه الكاتب الكبير صلاح حافظ بقوله: «فى مولد المذكرات المنصوب منذ رحيل جمال عبدالناصر أول كتاب لا يدعى صاحبه البطولة، ولا يروى من الأحداث إلا ما شهد بنفسه، ولا يقول سمعت من فلان أو سمعت من علان»، وهو أيضًا أول كتاب لا يتكلم صاحبه فيه إلا فيما يفهم، هو تاريخ صادق لتجربة الثقافة المصرية الموجهة منذ ثورة يوليو،. تاريخ أمين على الوقائع والحقائق وصاحبه لا يركب حصانًا وهميًا أو يرفع سيفًا خشبيًا أو يزعم أنه عنترة أو أبوزيد الهلالى». ومن وسط أكثر من ألف ومائة صفحة أتوقف أمام تجربته كرئيس تحرير لمجلة التحرير أولى المطبوعات التى أصدرتها الثورة بعد شهرين تقريبًا من صدورها، وكان أول رئيس تحرير الكاتب الصحفى الأستاذ «أحمد حمروش»، وصدر عددها الأول فى 16 سبتمبر سنة 1952. يروى د. ثروت عكاشة فى مذكراته فى فصل عنوانه «رياسة مجلة التحرير» بداية صدور المجلة برئاسة تحرير «أحمد حمروش» الماركسى النزعة وإذا بالمجلة تبدو فى نظر قيادة الثورة «حمراء الصبغة وتصدر على غير الصورة التى كانت تنشدها، ويتم إعفاء الأستاذ أحمد حمروش بعد ثلاثة أعداد! ويضيف د. ثروت عكاشة: «الأمر الذى جعل جمال عبدالناصر يطلب إلىّ لقاءه بعد صدور أعداد ثلاثة من المجلة، فلقيته وكان عنده «خالد محيى الدين» حاضرًا، وإذا هو يعرض علىّ رئاسة تحرير المجلة متوسمًا فىّ القدرة على أداء هذه المهمة بحكم تجربتى فى الصحافة منذ عام 1945 وحصولى على دبلوم الصحافة من كلية الآداب عام 1951 وإصدارى كتبًا أربعة قبل الثورة.
.. ومع ثروت عكاشة
وقد قبلت هذا التكليف بعد إصرار جمال عبدالناصر هذا إلى أعبائى التى كنت أحملها فى سلاح الفرسان، ولم أر داعيًا إلى إعادة النظر فى هيئة تحرير المجلة بعد خروج حمروش لأنها كانت تضم باقة من الكتاب الوطنيين، وكان بعضهم خالصًا فى نزعته اليسارية، تضم الأساتذة عبدالمنعم الصاوى رحمه الله، وعبدالرحمن الشرقاوى رحمه الله ومصطفى بهجت بدوى وكمال الحناوى وسعد التائه وصلاح حافظ رحمه الله، وسعد لبيب والفنانين عبدالسلام الشريف وحسن فؤاد وعبدالغنى أبوالعينين وجمال كامل رحمهم الله وغيرهم. وقد كاشفتهم فى أول لقاء بأن الهدف من هذه المجلة هو التزام النهج الوطنى وأنها ليست منبرًا لليمين أو اليسار، فمن شاء هذا فليمض معنا فى سلام، ومن لم يشأ فله الحرية فى أن يتخلى عن موقعه، كما أوضحت لهم أن من مهام المجلة كشف القناع عن العناصر المعادية للرأى العام.. و.. و.. واستمرت المجلة تصدر تباعًا نصف شهرية، ومن نجاح إلى نجاح. ويسترسل د. ثروت عكاشة فى ذكرياته فيقول: وبلغ الأمر فى مقالة كتبها د. طه حسين للمجلة أنه كان يعيب على رجال الحركة تسميتهم ما قاموا به حركة وهى فى حقيقة الأمر ثورة لا حركة، وأفسحت المجلة صفحاتها لكتابات خالد محيى الدين عن الديمقراطية الاقتصادية وأحمد بهاء الدين عن الديمقراطية والدستور، ود. راشد البراوى «نحو سياسة صناعية رشيدة»، و.. و.. و.. وفى افتتاحية لى ناديت بإلغاء الملكية بعنوان «اعلنوها جمهورية فورًا»، وقد غضب اللواء محمد نجيب وعد دعوتى خروجًا على المسيرة، وإن لم تلبث الثورة حتى ألغت الملكية وأعلنت قيام الجمهورية التى كان محمد نجيب أول من تولى رئاستها. حققت المجلة هدفًا أساسًيا هو كسب الرأى العام الذى وثق بها إلى حد كبير، ولكنها فقدت عطف بعض الكتاب التقليديين الذين كانت تعتمد عليهم كل صحيفة ناشئة، كما فقدت عطف أصحاب المصالح والذين يتأثرون بهم بشكل مباشر أو غير مباشر، لكن مجلة التحرير لم تتأثر بهذه العقبات، بل على العكس اعتبرت هذه العقبات دليلاً على نجاحها فى أداء رسالتها!
ناصر مع هيكل
ويضرب د. ثروت عكاشة مثلاً قائلاً: إن مجلة التحرير كانت تصدر يوم الأربعاء مرتين فى الشهر، وكان هذا يوم صدور مجلة قديمة راسخة فى السوق هى مجلة «آخر ساعة»، وكانت توزع قبل صدور مجلة التحرير ما يقرب من سبعين ألف نسخة فى الأسبوع، فضلاً عما كانت تتمتع به من مكانة فى الحقلين السياسى والصحفى، وبعد صدور التحرير بفترة وجيزة هبط رقم توزيع «آخر ساعة» إلى ستة عشر ألفا، وعجزت حتى فى أيام الأربعاء التى لا تصدر فيها مجلة التحرير عن أن تعود إلى توزيعها القديم! الأمر الذى أثار القلق فى نفوس أصحابها «الأستاذين على ومصطفى أمين»، وهيئة تحريرها «برئاسة الأستاذ محمد حسنين هيكل».. و.. و.. وعندما فشلت جميع الوسائل لتستعيد هذه المجلة بعض مكانتها السابقة بدأ أصحاب الدار يسلكون سبيلاً آخر وهو استعداء السلطة على مجلة التحرير تارة بتصويرها على أنها نشرة حمراء وتارة بتصويرها على أنها خرجت على أهداف الثورة! وحين أصدرت المجلة بتاريخ 3 يونيو 1953 حاملاً تحقيقًا مفصلاً ومصورًا ومدعمًا بالمستندات عن الصحافة بلونيها المعادى للاستعمار والمساير له بعنوان «لا تزيفوا تاريخ الأبطال»، استعدى أصحاب تلك الدار وزير الإرشاد القومى «الصاغ صلاح سالم»، والراجح أنهم نجحوا فى استمالته! ما حدث بعد ذلك أن «جمال عبدالناصر» طلب إلىّ أن أغير موعد صدور مجلة التحرير لتصدر يوم الثلاثاء بدلاً من الأربعاء، واعتذرت حتى النهاية عن تلبية هذه الرغبة التى أعلم مصدرها، وأشهد أنه لم يعد مرة ثانية إلى الإلحاح فى طلبه الأول». غلاف مجلة التحرير
وتقترب شهادة د. ثروت عكاشة كرئيس للتحرير من نهايتها فيقول: «ظللت رئيسًا للتحرير حتى عيد الثورة الأول فى 23 يوليو 1952 وكان لابد لمجلة الثورة أن تحدث الناس عن جانب من قصة الثورة الحقيقية، خاصة بعد أن كتبت أقلام كثيرة عن هذه القصة روايات أغلبها غير صحيح أو مبالغ فيه، وأحسست أن من واجبى كفرد ممن أوكل إليهم عبء له شأنه فى هذه الثورة أن أحدث الناس عن ذكرياتى، فكتبت القصة بكل ما أملك من أمانة وصدق وذاكرة بعنوان «هكذا قمنا بالثورة، تحدثت فيه عما أداه سلاح الفرسان فى ليلة الثورة وهى الجزئية التى كنت أحد المنوطين بها وشاركت بنصيبى فيها». وقبل مثول المجلة للطبع علمت أن أوامر وزير الإرشاد القومى قد صدرت بسحب المقال ومنع نشره، فقابلت زكريا محيى الدين مدير المخابرات وقتذاك الذى حاول فى رفق أن يثنينى عن نشر المقال دون أن يفصح لى عن السبب! ولما سألته عما إذا كانت هناك واقعة غير صحيحة فى المقال أجاب سلبًا، واقترح علىّ أن أعرض الأمر على «عبدالحكيم عامر» الذى ما لبث بعد أن اطلع على المقال أن أقر كل ما جاء به ووافقنى على نشره، ثم فاجأنى بقوله إن صلاح سالم كان غاضبًا لأن اسمه لم يرد بالمقال! ولما سألته عما يمكن أن أضمنه مقالى عن دور صلاح سالم فى تلك الليلة لم يجد جوابًا وهكذا نشر المقال! وإذا بوزير الإرشاد القومى يعقد يوم صدور العدد الذى حمل مقالى فى 23 يولية 1952 مؤتمرًا صحفيًا تحدث فيه عن مجلة التحرير ووصفها بأنها لم تعد تعبر عن رأى القوات المسلحة ولا عن رأى مجلس قيادة الثورة، وكان هذا الموقف منه بمثابة إعلان رسمى من الحكومة بسحب ثقتها من مجلة التحرير، وأيد هذا الموقف اجتماع مجلس الثورة الذى قرر أن تصدر المجلة عن دار التحرير وأن تخضع للرقابة!