خمسون عامًا على بناء السد العالى، هذا الحلم الذى أصبح حقيقة بعد الصراع الطويل مع البنك الدولى والولايات المتحدةالأمريكيةوبريطانيا، بشأن تمويله ثم سحب التمويل بعد رفض مصر شروطه، التى كانت بمثابة الضربة الأولى بعد ثورة 23يوليو 1952، التى كان من شأنها التدخل فى الشأن المصرى وإعادة السيطرة على مصر فى مرحلتها الجديدة وجمهوريتها الوليدة. أصرّت مصر على البناء والتعمير واعتبرت أن اللبنة الأولى للتنمية الاقتصادية هى استصلاح الأراضى الزراعية، والتوسع فى الإنتاج الزراعى ثم الاهتمام بالصناعة والتجارة، ومن ثم تتحول مصر من دولة زراعية لدولة صناعية كبرى، فأتى مشروع السد العالى على قائمة أولويات الدولة المصرية، فحاربت من أجله وحوّلته من حلم إلى حقيقة ملموسة، واستفادة منه على المستويين المحلى والإقليمى. لكن المتأمل لمناهج التاريخ والدراسات الاجتماعية فى المراحل الدراسية المختلفة، لا يجد فيها هذا العمق لتناول قصة بناء السد العالى، التى تحولت من حلم لجمال عبدالناصر إلى حقيقة بأيدى المصريين، فكل ما يدرسه الطلاب عن السد العالى هذه العبارة «من إنجازات ثورة 23يوليو 1952 فى مجال الزراعة إنشاء السد العالى الذى تم إنجازه فى 1971 بهدف حماية البلاد من خطر الفيضان وتخزين المياه وتوليد الكهرباء». أين السد العالى؟ ما قصة بنائه؟ ما القيمة من بنائه؟ من الذى ضحى من أبناء الشعب من أجل إنجاز هذا الصرح الاقتصادى؟ لا أحد يعلم، كل ما يعلمه طلاب القرن الحادى والعشرين أن السد العالى وفّرَ الكهرباء لمصر، أى كهرباء تتحدثون عنها مع جيل وجد من الرفاهية والحياة المريحة البسيطة وجنَى ثمار جيل سبقه فى البناء والتعمير؟! لماذا لا تحتوى مناهجنا على قصة بناء السد كاملة، فهى مليئة بالقيم والأهداف الوجدانية التى من شأنها تربية أجيال قادرة على اتخاذ القرار والبناء والتعمير والإيثار والوحدة والمواطنة، وغيرها من القيم التى نحن الآن فى أمَسّ الحاجة إليها، ولأن أولادنا هم شباب الغد ومستقبله المشرق، علينا إعدادهم تربويّا وفكريّا لمواجهة متطلبات العصر. نبدأ باتخاذ القرار «ماذا تفعل لو كنت مكان عبدالناصر»؟ اتخذ «عبدالناصر» قرار بناء السد العالى بعد رفض البنك الدولى مساعدة مصر وسحب الأمريكان تمويل السد بعد رفض القيادة السياسية شروط القرض. لماذا لا يبحث الطالب عن شروط تمويل السد ويتعلم منها اتخاذ القرار.. بسؤال بسيط ماذا تفعل لو كنت مكان جمال عبدالناصر، هل توافق على شروط القرض أمْ ترفض؟ بهذا نحقق هدفًا أسمَى وهو دعم اتخاذ القرار لدى طلابنا منذ نعومة أظافرهم وأنهم شركاء معنا فى المنهج والكتاب المَدرسى، وليس بالكتاب المقدس الذى أقرّ أن شروط البنك الدولى شروط مجحفة وأن التمويل «الأنجلو - أمريكى» كان من شأنه التدخل فى السيادة المصرية، الآن أصبح الطالب شريكًا أساسيّا فى العملية التعليمة، وأصبح هو مَن يقرأ الحدث التاريخى ويحلله وفق الأدلة التاريخية والمصادر التى بحث عنها بمساعدة مُعلمه. هل طلابنا يعرفون أن تأميم شركة قناة السويس كان ردّا على رفض تمويل السد العالى؟ للأسف لا، لا يعلم أحد من طلابنا أن قرار التأميم كان ردّا على قرار انسحاب الأمريكان من تمويل السد، ولا يعلمون أن بريطانيا كانت مشاركة فى مشروع التمويل وأنها انسحبت أيضًا. لماذا لا نُدَرّس لهم أن مصر رفضت الضغط الغربى، وأصرت على إنشاء مشروعاتها التنموية، دون تدخُّل وبسيادة كاملة، لماذا نبخل على طلابنا بالمعلومات التى تساعدهم على الشعور بالعزة والكرامة؟! تخيل معى عزيزى القارى أن الطالب وجد نفسَه أمام قرار تأميم قناة السويس وأرادت مصر أن تبنى دولتها بأيدى أبنائها؟ أعتقد لو وصل هذا الشعور لطلابنا فنحن أمام أجيال ستكون حتمًا قادرة على القيادة واتخاذ القرار بشكل صحيح. مصر والسودان نيل واحد ومصير واحد أين مناهجنا من اتفاقية توزيع مياه خزان السد بين مصر والسودان التى وقعت فى ديسمبر 1959؛ ليعرف أبناؤنا أن مصر لم ولن تنسى أشقاءها فى السودان وأن النيل واحد والمصير واحد؟! ولا أخفى عليكم سرّا أن تجاهل كل هذه الحقائق قد تكون من صنعت الجفاء الآن. التاريخ لا ينسى، ولكننا نحن من نجعله طى النسيان بعدم تدريسه كما يجب أن يكون. مشروع السد العالى يُعلم «الإيثار» الموقف النبيل لأهالى النوبة الذين قاموا بهجرة أراضيهم وقراهم من أجل بناء السد العالى معلومة بسيطة أغفلها المنهج الحالى، وتعمدت المناهج على مدار عقود كثيرة مضت أن تغفل هذا الدور الكبير لأهالى النوبة فلولا إيثارهم ما بُنى السد العالى. بسؤال بسيط من المُعلم لتلاميذه: ما رأيك فى موقف أهالى النوبة من بناء السد العالى؟ ستجد إجابات مدهشة وثرية، يستطيع المُعلم هنا التأكيد على التربية من أجل المواطنة، وهى قضية مهمة من القضايا المتضمنة التى تسعى مناهجنا لتحقيقها. البناء والتعمير هل يَعلم طلابنا أن أغلب قرى مصر كانت قبل السد العالى لا تصل لها الكهرباء، وبفضل السد العالى أنارت القرى المصرية لأول مرّة فى أكتوبر 1967، وشغلت المصانع ونهضت البلاد، التى كانت شاهدًا على «كفاح المصريين»، الذين واجهوا الصعاب، للسير فى طريق التنمية، لتتعالى أصواتهم فى نهاية المطاف، مرددين نغمات النصر: «قلنا هانبنى وآدى احنا بنينا السد العالى.. من أموالنا بإيد عمالنا..». العيد القومى لأسوان هل يَعلم طلابنا أن 15يناير هو العيد القومى لمحافظة أسوان، الذى تم اختياره لأنه ذكرى افتتاح السد العالى فى 1971. أعتقد أننا لو سألنا طلابنا عن العيد القومى لمحافظتهم، لن يجيبوا عن السؤال؛ لأننا لم نربطهم وجدانيّا بأحداث قومية، وأصبحنا نسرد الأحداث التاريخية كى يحفظ الطالب ويصم التاريخ ثم يخرج من الامتحان بلا قيمة وبلا استفادة وبلا هُوية.