اعتدنا أن يكون عمر الستين لدى البشر هو سن التقاعد والاستغناء عن الخدمة.. ولكن فى عمر المؤسسات والكيانات الكبرى لا يعبر هذا العمر عن الشيخوخة، بل تحتفل به بعض الدول -كبريطانيا- باعتباره يوبيلاً ماسيًا.. فمُضىّ الأعوام على الكيانات الراسخة يعني الخبرة والأصالة والعراقة.. ولنا أن نفتخر بعراقة التليفزيون المصرى الذى مر عيده ال60 الأسبوع الماضى.. فقد كان البث الرسمى الأول فى 21يوليو 1960، كاحتفال بالعيد الثامن لثورة يوليو.. ورغم أن أول تجربة للإرسال تعود لعام 1951، إلا أن البث الفعلي لم يبدأ إلا بعد قرار الرئيس عبد الناصر بإنشاء مبنى التليفزيون العريق فى (أغسطس1959).. وبالفعل تم إنشاؤه فى زمن قياسى، ليصبح أحد المعالم الحضارية الحديثة، ويصبح منبرًا للدولة ومنارة للوعى والثقافة.. وقد امتلك خلال تلك الفترة رصيدًا ضخمًا من المحتوى الإعلامي القادر على بناء إعلام دولة.. ما بين برامج متنوعة فى كل المجالات، ومسلسلات درامية هادفة، وصور غنائية واستعراضية وأغاني وفوازير، وسهرات وأفلام تليفزيونية.. وكان اختيار مقدمى البرامج يتم بعناية فائقة، وفقًا لمعايير ثابتة، بعد خضوعهم للعديد من الاختبارات والتصفيات، تليها مرحلة شديدة الصعوبة للإعداد والتدريب على أيدى الخبراء، حتى يظهروا على الشاشة لتقديم ربط الفقرات بكلمات معدودة.. وبعد الدراسة والتأهيل والترقى نراهم مقدمين للبرامج، مع تقييمهم بشكل دائم وخضوعهم للنقد والتوجيه حتى فى ارتداء الملابس وقصات الشعر!..وكان القائمون على إدارة الإعلام يدركون أهمية الإعداد، الذى يتطلب أعلى مستوى من الثقافة والوعى، فيعهدون به لكبار الكتاب والصحفيين، فكانوا يدركون جيدًا أن الرسالة الإعلامية ليست بالشىء الهين، وإنها عمل مهنى وفنى وثقافى يحتاج إلى الدراسة والعمل والتدريب.. حتى صار الإعلام المصري المدرسة الأم التى يتعلم فيها ويقتدي بها كل العرب.. ولكن مع استهداف الدولة بمؤسساتها العريقة فى السنوات الأخيرة، وجدنا من يحاولون طمس الإنجازات وتشويهها، وتحويل التليفزيون من عامل قوة لضعف.. وبدلًا من أن يكون مصدرًا للفخر والاعتزاز، أصبح مصدرًا للتهكم والسخرية!..فقد أحاطته على مدار سنوات كل مقومات الفشل والفساد، ليبدو فى مظهر متهلهل شكلًا وموضوعًا.. حيث عانى من ترهل الجهاز الإدارى بزيادة العمالة أضعافًا مضاعفة عن حاجة العمل!..وعانى من قلة الميزانية، وتكتل البعض لمحاولة منع الإعلانات عنه لقطع الموارد!!. وعانى من حروب طاحنة شنتها وسائل إعلام فى الداخل والخارج، لاستقطاب أكفأ كوادره، والتشكيك فيما يبثه!.. وعانى من عقوق بعض أبنائه ممن لديهم انتماءات سياسية مضادة للدولة!.. وعانى من قيادات ضعيفة أو فاشلة، أدت لحدوث أخطاء مهنية فادحة، وزادت من الفساد المستشرى، ولم تمتلك خبرة أو رؤية لتذليل المعوقات التى تكبله عن القدرة على المنافسة.. وعانى من وساطات وتعاقدات جعلتنا نرى على شاشاته من لا يصلحون لهذا الدور.. وعانى وعانى.. ومع ذلك، ما زال هذا الصرح العظيم واقفًا شامخًا فى قلب القاهرة، يتحدى المعوقات والإحباطات والتربص.. وما زال الكثير من أبنائه يقاومون وينفقون من جيوبهم حتى يقدموا أفضل ما لديهم.. وقد شهدنا خلال الشهور الماضية محاولات لتطوير التليفزيون المصرى، وهو ما يؤكد وعى الدولة بأهمية المبنى العريق (اتحاد الإذاعة والتليفزيون)وسعيها لاستعادة الريادة الإعلامية.. وإن كنا شاهدنا خلال التطوير بعض المذيعين والمذيعات يلقون النشرة على طريقة القنوات العربية، بشكل يختلف عن المدرسة المصرية التى خرج من عباءتها قمم ورواد الإعلام العربي!.. ورأينا مذيعات يرتدين ملابس لم نعتدها على شاشاته الرصينة، فى محاولة لتقليد الفضائيات الخاصة!.. ورأينا برامج أذيعت على قنوات خاصة من قبل، يتم إعادة بث حلقاتها على قنواته!.. ورأينا بعضًا من غير المتخصصين يقدمون برامج على شاشاته!.. ورغم ذلك لا شك أن محاولات التطوير فى حد ذاتها شىء جيد، فهى تعنى قبل أي شىء إدراك المشكلة.. إلا أننا نتمنى أن يمنحونه فى عامه ال60 قبلة الحياة، ليشهد صحوة حقيقية تعيد إليه بريقه ومكانته..فيعهدون به لأهل التخصص والخبرة، وبدلًا من الاقتداء بتجارب أخرى، علينا الاقتداء بأنفسنا حين كنا نمتلك الريادة.. فالتطوير وإن كان يحتاج لميزانيات ضخمة، إلا أنه فى المقام الأول يعتمد على حرفية وكفاءة القائمين عليه، ويعتمد على الأفكار قبل الأموال..فالمال وحده لا يصنع إعلامًا واعيًا وإن كثر!.