للمرة الأولى منذ 50 عامًا يشتبك فيها السودان وإثيوبيا اشتباكًاعسكريًا مفتوحًا؛ رغم المناوشات الحدودية بين القبائل، إلا أن تدخل قوات عسكرية كان من سمات الماضى الذى تجدد، ويأتى الاشتباك قبل أن يستعد الجاران الكبيران للاجتماع فى الخرطوم عاصمة السودان للجولة الثانية من المحادثات لحل النزاع الحدودى، وقبل الاجتماع الاجتماع الثلاثى مع مصر حول سد النهضة.
كان خلافًا دبلوماسيًا قد اندلع السبت الماضى بين السودان وإثيوبيا بعد اشتباكات بين جيوشهما على طول الحدود المشتركة البالغة 1600 كم وتحديدًا فى منطقة القضاريف الذى تسبب فى مقتل قائدًا للجيش، وإصابة ثلاثة مدنيين وطفل وفرار7320 قرويًا سودانيًا من المنطقة الحدودية مع إثيوبيا خوفًا من الهجمات الجديدة التى يشنها رجال الميليشيات الإثيوبية بسبب جلب المياه من نهر عطبرة، لدرجة صدور تصريح من وزارة الخارجية السودانية بأنها استدعت أكبر دبلوماسى إثيوبى على تبعة هذا الهجوم العسكرى الإثيوبى، كما أعلنت عن مقتل عدد من العسكريين السودانيين والمواطنين بينهم طفل، حيث استدعت وزارة الخارجية السودانية القائم بالأعمال الإثيوبى فى الخرطوم احتجاجًا على عدوان الميليشيات الإثيوبية المدعومة من الجيش الإثيوبى. المشكلة لم تعد مجرد اعتداءات متكررة على أراضٍ سودانية؛ كما تعودت القبائل السودانية؛ إنما تحولت أيضًا إلى ادعاءات بحقوق تاريخية فى بعض تلك الأراضى التى تقع ضمن حدود السودان وفقًا لاتفاقية 15مايو 1902. هذه الادعاءات تتبناها وتروج لها قوى سياسية ومدنية فى إثيوبيا، هناك أسباب عديدة وراء بروز وتصاعد هذه الادعاءات مثل طول الفترة الزمنية التى استقر أو زرع فيها بعض الإثيوبيين تلك الأراضى، عدم اعتراف بعض القوى السياسية والنخب بخط الحدود بين البلدين أو بالاتفاقيات الاستعمارية ككل ولأن موضوع الحدود له علاقة بتفاقم الصراعات الإثنية والسياسية فى إثيوبيا والتى تشكل الأرض أحد أهم أسبابها. أحد الأسباب كان احتلال أثيوبيا بعض تلك الأراضى عقب محاولة اغتيال الرئيس المصرى محمد حسنى مبارك فى أديس أبابا؛ ليأتى الرد الانتقامى من إثيوبيا على تلك المحاولة التى جرت على أراضيها، فاحتلت قوات من الجيش الإثيوبى أراضٍ سودانية بما فيها جزء من منطقة الفشقة، ثم تقدم السودان فى 1996بشكوى إلى مجلس الأمن الدولى حول هذا الأمر، ثم تحسنت العلاقة بين النظامين فى السودان وإثيوبيا بسبب اندلاع الحرب الحدودية بين إثيوبيا وإريتريا فى 1998وتم الانسحاب من تلك المناطق، لكن المجتمع الإثيوبى وجه اتهامات لحكومة ميلس زيناوى بالتنازل عن أراضٍ إثيوبية، وهى تاريخيًا سودانية. وهو ما أكده ملس زيناوى الذى نفى اتهامات معارضيه وقال فى حديث أمام البرلمان الفيدرالى الإثيوبى فى نوفمبر 2008: إن الأرض التى انسحب منها الجيش الإثيوبى هى أراضٍ سودانية كان قد احتلها فى 1996.
بعد التغيير الذى تم فى إثيوبيا أبريل 2018 تبلور موقف إثيوبى أكثر وضوحًا تجاه موضوع الحدود مع السودان، عندما أعلن رئيس الوزراء الجديد أبيى أحمد أمام البرلمان الإثيوبى أن أية اتفاقية ما عدا المذكرات المتبادلة بين حكومتى هيلى سلاسى وجعفر نميرى فى 1972 غير مقبولة، ما يعنى رفضه لاعتراف زيناوى بالاحتلال الإثيوبى للأراضى السودانية، وتصريح ضمنى بأن تلك المنطقة المتنازع عليها هى إثيوبية، ما يفسر كون المناوشات هذه المرة أخذت شكلا أكثر رسمية من مجرد مناوشات قبلية على الماء، فضغوط الأمهرة على أحمد كبيرة وهى من أكبر القوميات.
ما تحاول السودان أن تفعله هو إظهار رد فعل غاضب لكنها تدرك جيدًا أنها غير قادرة على الرد الحاسم على الجار الإثيوبى الأقوى نسبيًا بل كل ما فعلته هو نشر قوات بطول الحدود مع إثيوبيا وذلك لأول مرة منذ 25 عامًا، كما جاء البيان على لسان المتحدث باسم الجيش السودانى الجنرال عامر محمد الحسن؛ حيث صرح الحسن قائلا «قررنا إعطاء فرصة للدبلوماسية فى الخرطوم وأديس عباس لتهدئة الوضع على الشريط الحدودى قبل أن يتحول إلى حرب شاملة بين البلدين». وأضاف: إن الهجمات الأخيرة على الأراضى السودانية من قبل الجيش الإثيوبى والميليشيات انتهكت الاتفاقات السابقة بين البلدين، وطالب الحسن إثيوبيا بالالتزام باتفاقياتها مع السودان بشأن الحدود المشتركة بينهما، إلى جانب نشر القوات الرسمية على جانبى الحدود، كل ذلك فى ظل صمت إثيوبى غريب. فعلى الصعيد السياسى لازالت تعانى الخرطوم من مرض حركات التمرد وأقواها فى الغرب فى دارفور فالرغم من استئناف محادثات السلام السودانية بين الحكومة وحركات التمرد فى دارفور بوساطة من جنوب السودان وعبر مؤتمرات الفيديو بسبب كوفيد -19، تحدث الطرفان عن الترتيبات الأمنية فى دارفور، رحب وزير الدفاع اللواء ياسين إبراهيم فى مؤتمر صحفى بالتقدم المحرز فى ملف الترتيبات الأمنية فى دارفور، وهو تقدم مشكوك فيه نظرًا لسعة الهوة ما بين موقف الخرطوم وجبهة درافور حول أمور ليست سياسية مثل الانتخابات فقط بل وصل الخلاف الى تعداد السكان أيضًا، فعن أى تقدم يتحدث الوزير.
كل ذلك فى ظل اقتصاد مذبذب يعانى من معاودة الجنيه السودانى تسجيل انخفاضه الشديد أمام العملات الأجنبية بالسوق الموازى فى ختام تداولات نهاية الأسبوع مع استمرار الحظر الشامل وتوقف الحركة التجارية، فقد لجأ العديد من السودانيين إلى شراء كميات كبيرة من العملات الأجنبية أملا فى إعادة البيع فى السوق السوداء لتعويض خسارئر الإغلاق وعدم الانتقال. بل وصل الأمر حد معاناة المواطنين من قفزات جنونية فى أسعار السلع والمواد بأكثر من 300 % فى بعضها خاصة المواد الغذائية والأدوية واستمرار جشع التجار فى التعامل مع المستهلكين بحجة خلو السوق من وارد البضائع، كل ذلك تضاعف بعد انتشار وباء كوفيد المستجد، حيث انتشر الفيرس المستجد كوفيد -19 انتشارًا كبيرًا فى السودان كما يخشى من انهيار الأطقم الصحية، فى حين أن هناك مناطق فى الأقاليم تفتقر أصلا لنظم صحية مناسبة، وليس أدل على ضعف قدرة السودان الاقتصادية الخارج من فترة قلاقل سياسية انتهت بثورة ثم تلاها وباء عالمي؛ من تلقى السودان لمساعدات طبية بلغ مقدارها 9 أطنان.
وفى سياق الضغوط على النظام السودانى القادم للحكم حديثا؛ تعانى منطقة شرق السودان من الجفاف وانقطاع المياه انقطاعًا تامًا لفترة وصلت لأسبوعين وأكثر، وحتى عندما حاول النظام الجديد تطبيق سياسات تنموية سميت «بالأحزمة الخمسة» تناسب لا مركزية التنمية وتقوم على توليد الموارد ومن ثم مشاركتها؛ جاء كوفيد ليقضى على الآمال التنموية نظرًا لتبعاته الاقتصادية التى أنت منها أغنى الدول.
يضيف التوتر الحدودى مزيدًا من الضغط على الحكومة العسكرية المدنية الانتقالية فى السودان فى الوقت الذى تكافح فيه من أجل إرساء الديمقراطية وسيادة القانون فى السودان، حيث تتعامل الدولة بالفعل مع نظام الرعاية الصحية السيئة وسط جائحة التاجى العالمى الوبائى، محاصر هو السودان؛ دائما ما يحاول الخروج من بين فكى رحى المشاكل الخارجية والداخلية، بين ظروف داخلية غير مستقرة صراعات فى جميع الجبهات ما بين دارفور غربًا والقضاريف شرقا وعدم استتباب الأمر للحكومة الجديدة التى أتت بعد الثورة فى العاصمة الخرطوم، كل ذلك فى ظل انتشار وباء الكوفيد -19 وهشاشة الوضع الاقتصادى، هذه هى الحالة فى السودان باختصار.