شن الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، هجومًا منذ نحو أكثر من عام، نحو غرب البلاد؛ للسيطرة على طرابلس، وأسقط حكومة الوفاق المعترف بها دوليّا، وميليشياتها الإرهابية، مدعومًا من مصر والإمارات وفرنسا. وتغاضت أمريكا عن هذا الهجوم لأن أحد أهم أهدافها هو القضاء على الإرهاب. لم يستطع «حفتر» تحقيق الهدف، رُغم استعانته بقوات مرتزقة تابعة لشركة خاصة روسية (مجموعة فاجنر)، معروف أنها مدعومة بشكل خفى من الكرملين. وفى رأيى أن روسيا قصدت دعم «حفتر» بمرتزقة فاجنر؛ لتجعل لها موطئ قدم فى ليبيا، ولتعطى تركيا شريكتها فى سوريا وآسيا الوسطى، فرصة للتدخل هى الأخرى فى ليبيا، من أجل أن يتقاسما معًا ليبيا كما فعلا بسوريا.
روسيا تعلم أن من يملك البحار يملك القوة والسيطرة، لذلك سعت للدخول إلى ليبيا لتطل على البحر المتوسط كما أطلت عليه بقواعدها وقواتها فى اللاذقية بسوريا، بهدف تحجيم سيطرة الأسطول السادس الأمريكى القوى فى هذه المنطقة الاستراتيجية، الغنية بالبترول والغاز والثروات الطبيعية، والخصائص اللوجستية للتجارة الدولية.
وتركيا أيضًا تبحث وراء مصالحها فى البترول الليبى، وكذلك الغاز قبالة سواحل ليبيا بالبحر المتوسط. والأهم بالنسبة لها أن تساند الإخوان والإسلام السياسى الإرهابى فى شرق ليبيا، وتمنع سقوطه، وأن تؤكد زراعته هناك كرأس حربة للشيطان الإخوانى بالمنطقة، فيكون أداتها فى تحقيق مشروعها الإسلامى لإعادة إمبراطوريتها العثمانية فى الشرق الأوسط.
والاثنتان روسياوتركيا، لهما أطماع مشتركة فى لعب دور فى إعادة إعمار ليبيا وتسليحها، وفى مواردها الطبيعية، وأن تكون لهما حجر الزاوية للانطلاق الاقتصادى نحو العمق الإفريقى. كما أن وجودهما على السواحل الليبية، يُضعف تجارة الغاز لدول منتدى شرق المتوسط - ومنها مصر- إلى أوروبا، لصالح خط الغاز الروسى الذى يمر لأوروبا عبر تركيا. وروسيا قريبة الحدود مع سوريا وإيران وغيرهما من الدول التى يستوطنها الإرهاب السياسى، وتركيا كذلك. وهزيمة الداعشيين فى سوريا باتفاق «تركى- روسى»؛ يجعل أمر فرارهم من سوريا أمرًا حتميّا، يهدد تركيا وأوروبا، لذلك كان توطينهم فى ليبيا ضربًا لعدة عصافير بحجر واحد، فهم أدوات تركيا بالوكالة فى خَلق دولة الخلافة فى شمال إفريقيا، وهم أداة ضغط على مصر، وهم الذين سيعملون على تسهيل مواجهة «حفتر» وتأكيد الوجود التركى فى ليبيا، إضافة إلى إبعادهم عن المنطقة القريبة من الحدود الروسية فى آسيا.
إذن التدخل التركى فى ليبيا غيّر الموقف العسكرى هناك، فقد استعادت قوات الوفاق السيطرة على عدة محاور استراتيجية. وتدخلت روسيا بمقاتلاتها لدعم الجيش الروسى الخاص، ومساعدته فى تدعيم مراكزه على الأراضى الليبية، حسب اتفاقها مع تركيا - فيما أحسب - لتقسيم السيطرة على الأرض، مثلما فعلا فى سوريا.
وظهرت بوادر تحلل ليبيا ما بين الأتراك والروس، فخرج رئيس مجلس النواب الليبى الذى يتبعه الجيش الوطنى، بتصريح مشترك مع وزير الخارجية الروسى، بأنه لا جدوَى من أى محاولات لحل الأزمة الليبية بالطرُق العسكرية، مطالبًا بوقف فورى لإطلاق النار. وكذلك دعا الجيش الوطنى إلى إنشاء منطقة خالية من التوتر- وهو ذات التعبير الذى استخدمته روسياوتركيا وإيران فى الشأن السورى.
ورأيى؛ أن تركياوروسيا سيحاولان إيجاد الحل بليبيا وفقًا لأهدافهما مثلما فعلا فى سوريا، ويبقى التوازن الحاكم للعلاقات بينهما قائمًا حول حفظ أماكن اللاعبين الليبيين على طاولة المفاوضات، دون أن يحقق طرفٌ انتصارًا كاملًا على الآخر.
أمّا المجتمع الدولى وعلى رأسه أمريكا، فالشاهد أنهم سينادون بمفاوضات تُبنى على مقررات مؤتمر برلين؛ لضمان إقامة حكومة ليبية موحدة. إنما ظنّى أن الخيار «التركى - الروسى» سيبقى الأقوى، وسيمثل هذا ضربة للمصالح الأمريكية بالبحر المتوسط، إنما وجود تركيا فى المعادلة سيقلل من هذا التأثير السلبى على أمريكا، فتركيا عضو مهم قوى بحلف شمال الأطلسى، يربطها بالغرب علاقات ومصالح تأتى مقدمة على تلك القائمة بينها وروسيا.
وظنّى أن أحد أسباب تقهقر قوات حفتر، جاء نتيجة إعلانه إلغاء اتفاق الصخيرات، وتنصيب نفسه حاكمًا لليبيا. وهو الأمر الذى ألقى بظلال الغموض على مستقبل التحالف بينه وبين البرلمان؛ حيث إن الاتفاق هو المرجعية الدولية للبرلمان الليبى وشرعيته، وإلغاء الاتفاق معناه تفرُّد «حفتر» بالسُّلطة، وإلغاء دور البرلمان.
كان هذا رأيى وتحليلى الشخصى لمعطيات ومتغيرات المسألة الليبية فى الفترة الماضية، وأثق أن السياسة الخارجية المصرية لديها من الخيارات الاستراتيجية ما يحمى بلادنا عبر حدودنا الشرقية.