دعتنى صديقتى المخرجة/ أميرة الفقى لحضور عرض فيلمها الوثائقى الجديد «قاهرة نجيب محفوظ» فى معرض الكتاب.. والواقع أننى تعجبت من اختيارها لموضوع الفيلم!.. والذى يختلف جذريا عن اختيارها فى الفيلم الأول «أرض المغرة»، حيث كانت المعلومة هى البطل الحقيقى.. فقد اختارت مكانا بكرا لا يعرفه سوى القليلين، فنقلتنا اليه، وسلطت الضوء على قصص ملهمة للشباب المكافح الذين حولوه من صحراء جرداء، الى أرض ذهب وخير ونماء.. فلم يعتمد على الرؤية الابداعية وجماليات الاخراج بقدر ما اعتمد على المعلومة والمشاعر الانسانية، التى جعلته بمثابة شحنة للطاقة الايجابية والتفاؤل.. أما الفيلم الجديد، فرغم قيمة محفوظ التى لا شك فيها، الا أنه كشخصية عالمية قتل بحثا!.. فهو من أهم الأدباء فى تاريخ مصر، بل أصبح من أشهر الأدباء فى العالم بعد حصوله على جائزة نوبل!.. وبالتالى فتناول شخصية بهذا القدر من الشهرة تمثل تحديا كبيرا!.. وخاصة أن هناك العديد من الأفلام الوثائقية التى تناولته!.. ولكن لثقتى فى موهبتها ورؤيتها المتميزة، كنت متشوقة لمشاهدة الفيلم حتى أعرف سبب حماسها لتقديم فيلمها الثانى عن محفوظ، وأرى الجديد الذى قررت أن تقدمه؟!.والواقع أنها فاجأتنى بالتقاطها لجزئية فلسفة المكان فى أدبه، والتى لم يلتفت اليها الكثيرون.. فتناولته من زاوية مختلفة تدفعنا للتأمل فى دقائق أعماله، لمحاولة فهم فلسفته فى اختيار الأماكن ورمزيتها.. وارتباطه بمنطقة الجمالية وشوارع القاهرة الفاطمية، وكيف كان «المكان» فى كثير من الأحيان هو البطل، الذى يأخذ منه الخيط الذى ينسج منه قصص أهله ومرتاديه..وتأريخه للحياة السياسية والاجتماعية من خلال الحارة والمقهى الشعبى.. وانتمائه وشدة مصريته التى كانت سببا فى وصوله للعالمية.. وكيف تحول أدب محفوظ لأحد عوامل الجذب السياحى لمصر.. وتحديدا القاهرة التى أجبر قراءه على عشق تفاصيلها من خلال سرده الجمالى وأسلوبه الممتع.. فقدمت خلال مدة الفيلم متعة بصرية وذهنية، جسدت نضجها الفنى، وعكست الخبرات الفنية والحياتية التى عاشتها، منذ دراستها فى أكاديمية الفنون فترة الطفولة، والانتقال الى كلية الاعلام، ثم العمل الصحفى الميدانى فى عدة وكالات وقنوات أجنبية، لتقديم تقارير مصورة من قلب الأحداث الملتهبة فى المنطقة..فوضعت خلاصة تجاربها فى هذا الفيلم، وتفننت فى استخدام أدواتها المختلفة، وتوظيف كافة العناصر.. وخاصة أنها لم تقم بالاخراج فقط، بل شاركت فى المونتاج والانتاج، والتعليق الصوتى فى بعض المقاطع المؤثرة..واللافت للنظر أنها أيضا كاتبة السيناريو الذى يؤكد تمتعها بموهبة أدبية أيضا، أدخلتنا من خلالها بسلاسة عالم محفوظ، ووضعت أيدينا على نقاط لم نلحظها..وكما تنقلنا روايات محفوظ للمكان والزمان، فنستشعر من خلال وصفه الدقيق وكأننا نعايش أبطاله.. استطاعت أميرة أيضا(بسردها المنمق، وحركة الكاميرا، وتوزيع الاضاءة، واختيار زوايا التصوير) أن تحلق بنا فى الأمكنة التى كانت مصدرا لالهامه..وقد استهلت الفيلم بصوت محفوظ متحدثا عن القاهرة، وكيف تشربت روحه معالمها، وفى نفس الوقت تظهر فى أقصى شمال الصورة كاميرا تشع باضاءتها على الشاشة التى تعرض صورا للقاهرة من الماضى.. فتختزل لنا بتلك الزاوية الفنية فكرة فيلمها الذى قامت فيه بتضفير الماضى بالحاضر..وانتقلت فيه برشاقة بين الصور الحية التى اواياته تم توظيفها بدقة لتتوافق مع السيناريو..واستعرضت صوراً من أغلفة كتبه، ومقاطع يقرأها الراوى من صفحات رواياته.. واستعانت بمشاهد من فيلم»حارة نجيب محفوظ» للمخرجة المبدعة/سميحة الغنيمى.. ومزجت بين أجزاء من حوارات لمحفوظ، مع اللقاءات الشخصية التى سجلتها مع د/صلاح فضل ود/محمود الضبع والكاتبة/أمانى القصاص، والتى تؤكد أن اختيارها للشخصيات جاء بعناية لتضع أيدينا على رمزية استخدامه للأماكن..فمثلا «العوامة» التى تطفو على المياه وتتسم بعدم الثبات، واختيارها كمكان يجتمع فيه الناس من كل الأطياف، وكأنها مصر مصغرة، لتعبر عن الحالة التى عاشتها مصر قبل ثورة 1952.. أما سطوح المنزل فى»الثلاثية» الذى يرمز للحرية، حيث كان متنفسا للابن الذى يعبر عن حبه لابنة الجيران بعيدا عن سطوة الأب، وكذلك متنفس «للست أمينة» الزوجة المقهورة التى تمارس من خلاله الأنشطة المنزلية دون رقابة «الزوج المتسلط».. كذلك المقهى الذى يعتبر أحد الأعمدة الهامة فى رواياته، أو العمود الأساسى أحيانا، فيشكل فى رواياته مسرحا للأحداث ومراقبة التاريخ، ويتم فيه مناقشة كافة الآراء السياسية، ويرصد فيه التحولات السياسية والاجتماعية..وقد تجولت بالكاميرا داخل الأماكن الأثرية، مثل: سبيل بين القصرين وشارع النحاسين وخان الخليلى وبيت القاضى وزقاق المدق، ومقهى الفيشاوى الذى صاحبه مقاطع لحنية من أغانى أم كلثوم، لنشم رائحة القهوة وعبق التاريخ فى قاهرة المعز..مع العرض الشيق للمعلومات والخلفيات التاريخية، من خلال التعليق الصوتى الرخيم الذى أداه الأستاذ/ محمد حمدى النجار، بصوت هادئ ومتزن وعميق، وقدرة على التوازن بين السرد والالقاء عند قراءة النصوص الأدبية.. وكانت أحيانا ما تمزج على الشاشة بين الصورة المأخوذة من الأفلام(الأبيض والأسود) والصورة الحقيقية لنفس المكان، فتتكامل الصورتين بجمال وابداع..وبرعت فى استخدام الموسيقى التى استخلصتها من أفلام محفوظ، باحساس وحرفية تبرهن على خلفيتها الموسيقية كابنة للكونسرفتوار.. فأخذتنا فى رحلة ابداعية لقاهرة محفوظ، النابضة بأنفاس من عاشوا فيها على مر التاريخ..وأكدت بموهبتها أن جسر الابداع سيظل ممتدا بين الماضى والحاضر.