هل تراجع الدور الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط.. وهل أصبحت واشنطن «خيار غير آمن» للحلفاء فى الشرق الأوسط بعكس «الدب الروسى» الذى استطاع أن يفرض سطوته على المنطقة من سوريا شرقًا إلى ليبيا غربًا. المتأمل لطبيعة التواجد الأمريكى والتأثير فى رقعة «الشرق الأوسط» يكتشف بسهولة أن التراجع بدأ قبل عهد الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب بكثير، لكن الأخير أضاف للأمر «نكهة فوضوية» تخص كونه يتعامل مع الأمور بنظرة «التاجر المخضرم» أكثر من كونه سياسيًا محنكًا. ولأن الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما لم يكن رئيسًا عاديًا، فقد وضع «الأساس النظرى» لعملية التراجع الأمريكى بالمنطقة عبر إعلانه ما عرف إعلاميًا ب «عقيدة أوباما» والتى تؤكد تراجع أهمية الشرق الأوسط مع تراجع الوزن النسبى لنفطه فى مقابل تزايد أهمية منطقة آسيا والمحيط الهادئ فى ظل نموها الاقتصادى وازدياد ثقل تبادلها التجارى مع واشنطن. وفعليًا يكمل ترامب الجمهورى ما بدأه سلفه الديمقراطى أوباما فيما يخص سياسته تجاه الشرق الأوسط، وبوضوح أكثر فالشرق لم يعد على قائمة أولويات البيت الأبيض، وبات فى أسفل القائمة بعد الملفين الصينى والإيرانى، وقد عبر ترامب صراحة عن الأمر حينما هاجم أسلافه جراء اهتمامهم بالشرق الأوسط وإنفاقهم ما قال إنه تريليونات على المنطقة دون عائد يذكر، مشيرًا إلى أن الشرق لا بد أن يدفع ثمن «حمايته» عبر شراء الأسلحة الأمريكية، وبالفعل أقام علاقات وثيقة مع شركاء خليجيين لكن دوره لم يتجاوز دور «التاجر» دون أى ترجمة لخطط واضحة أو التزامات محددة، حتى الملف الإيرانى تعاملت معه الولاياتالمتحدة بمنطق «الند» وأغفلت تقديم الحماية للحلفاء فى الخليج من أى هجوم إيرانى محتمل واكتفت ببيع السلاح فقط. سبق أن أعلن أوباما أن التورط الأمريكى فى المنطقة يزيد من أعدائها وبالفعل بدأ بسحب القوات الأمريكية من العراق، وحتى قامت الثورة الليبية ضد نظام معمر القذافى وتدخلت الولايات لحماية المتظاهرين، كان أوباما يضع الدول الأوروبية فى الواجهة، وكان دور أمريكا فنيًا بالدرجة الأولى. قامت واشنطن ب«تحييد» الدفاع الجوى للنظام الليبى عبر صواريخ كروز (توماهوك) - بى جى إم-109 الأمريكية تاركًا للأوروبيين المهمة الأكثر بروزًا إعلاميًا وهى استخدام الطائرات لتدمير قوات القذافى. وفى الأزمة السورية، بدا أوباما حريصًا على عدم التدخل العسكرى لصالح المتظاهرين رغم إعلان تعاطفه مع طلباتهم فى البداية وموقفه السلبى من بشار الأسد، ولم يتدخل سوى عقب توحش تنظيم داعش وكان ذلك عبر تحالف واسع لمحاربة الإرهاب وبالتعاون مع حلفاء أمريكا وخصومها على السواء مثل إيران والميليشيات الموالية لها. وليس سرًا أن ضعف الموقف الأمريكى فى سوريا كان مدخل الروس ليس لسوريا ولكن للمنطقة بأسرها، إذ ترك أوباما روسيا تنفرد بتقرير مصير سوريا عبر إرسال قوتها العسكرية وخاصة الجوية لدعم الرئيس السورى بشار الأسد وبالفعل نجح فى إعادته للواجهة مرة أخرى. واستغل أوباما الأزمة بين تركياوروسيا ورفض بيع أنظمة صواريخ باتريوت المضادة للصواريخ والطائرات، كما سحبت عدة دول أعضاء بالناتو صواريخ باتريوت من تركيا فى أوج فترات التوتر مع روسيا، والتى وصلت ذروتها بإسقاط أنقرة لطائرة روسية قالت إنها اخترقت مجالها الجوى، والآن باتت روسياوتركيا متفقتين على الخطوط العريضة فيما يخص سياستها تجاه الشرق الأوسط ولا عزاء للأمريكان، حيث سارعت تركيا لترميم علاقتها مع روسيا سواء بالاتفاق مع روسيا بشأن المنطقة العازلة فى شرق سوريا، كما أبرم الجيش التركى مع الروس صفقة لشراء منظومة إس 400 البديل الروسى الأفضل لباتريوت ما دفع أمريكا لإخراج تركيا من برنامج إنتاج الطائرة الشهيرة إف 35 بعد تهديدات لم ترضخ لها أنقرة. ولم يقتصر الأمر على تركيا، بل إن السعودية الحليف العربى الأهم فى المنطقة والأكثر اعتمادًا على الولاياتالمتحدة وثقت علاقتها بالدب الروسى الصاعد فى سماء الشرق الأوسط حيث تسعى لامتلاك طائرات سوخوى الشهيرة، وشراء منظومة إس 400 رغم امتلاكها لباتريوت. ويبدو التقارب الخليجى – الروسى طبيعًا عقب خيبة الأمل فى حماية المظلة الأمريكية لمصالحه، وهو ما ظهر جليًا فى الموقف الأمريكى – الإعلامي- من الهجوم الإيرانى الذى استهدف منشآت شركة أرامكو السعودية، كما أن ترامب لم يرد على إسقاط الإيرانيين لطائرة أمريكية مسيرة باهظة الثمن أو عندما وجهوا ضربات فى مضيق هرمز وخليج عمان – تنصلوا منها – ووصل الأمر لإعلان ترامب أن «حماية الخليج ليست مسئوليته» وهو ما يعكس تراجع الاهتمام بالمنطقة برمتها، والتى وصلت لتجاهل أمريكا للدفاع عن حليفتها بريطانيا عندما احتجزت طهران سفينة بريطانية ردًا على توقيف سلطات جبل طارق التابعة لبريطانيا لسفينة إيرانية وهو توقيف تم على الأرجح بناءً على طلب واشنطن، وكأن شيئًا لم يكن. ومؤخرًا اكتفى ترامب بتصريحات إعلامية عبر اتصاله مع الرئيس التركى رجب طيب إردوغان قبل انعقاد قمة برلين بشأن الملف الليبى حيث اكتفى ترامب بالتأكيد على ضرورة ابتعاد أى طرف أجنبى عن ليبيا رغم كونه يتحدث مع أردوغان (الأجنبى) نفسه. وجاء الاتصال الهاتفى بين ترامب وأردوغان عقب استضافة روسيا لطرفى الصراع فى ليبيا – السراج وحفتر – فى حضور تركي، ورغم فشل الاتفاق لكن يكفى استجابة كل الأطراف للدعوة الروسية وسط غياب أمريكى كامل عن القضية التى صارت لا تعنى أولوية بالنسبة للبيت الأبيض. وعلى الأرض فى الغرب تنسق روسيا – التى تدعم حفتر – مع تركيا التى تدعم السراج فى وقت تتخبط فيه الولاياتالمتحدة فى أزمتها مع إيران والتى لا تريدها أن تتجاوز «الحرب المحدودة»، وفى الشرق (سوريا) كان للروس الكلمة العليا على الأرض وأصبحوا الفاعل الرئيس فى مستقبل سوريا حتى إن الأتراك حددوا ما أسموه المنطقة العازلة بعد موافقة الروس. وإذا كانت سوريا منذ الخمسينيات مجالًا تقليديًا للنفوذ الروسى إثر التحالف الوثيق بين موسكو الشيوعية ودمشق التى تعاقب عليها أحزاب قومية علمانية معادية لإسرائيل والغرب، إلا أن لييبا بموقعها الوسيط فى البحر المتوسط وبين المشرق والمغرب العربيين والمفتوح على إفريقيا عبر الصحراء الكبرى كانت تمثل أهمية خاصة للغرب لاسيما جيرانها الأوروبيين الشماليين نظرًا لثرائها بالنفط والأهم أنها مصدر رئيسى للهجرة غير الشرعية ومنطلق محتمل للإرهاب. وحين تدخل بوتين لإنقاذ الأسد كان يعلم أن هذا آخر حليف له فى المنطقة برمتها فباقى الحلفاء إما ارتموا فى أحضان الغرب أو أسقطهم الربيع العربى، ووسط غياب رد الفعل الأمريكى لم يؤد هذا التدخل لإنقاذ آخر معقل للنفوذ الروسى بالمنطقة فقط بل دفع حلفاء واشنطن التقليديين للتقارب مع بوتين كشريك قوى يمكن التفاهم معه، والآن بوتين يبدو وكأنه يمتلك كل خيوط اللعبة «الليبية» رغم بعد طرابلس عن النفوذ التقليدى للدب الروسى، لكن الأمر يظهر مدى الارتباك الأمريكى الذى يظهر تأييد ترامب الشخصى لحفتر والموقف الرسمى للدولة الذى يعترف بحكومة الوفاق التى يترأسها السراج، والذى يهدف لمحاصرة النفوذ الروسى. وفى المقابل تبدو موسكو «الأكثر حنكة» حيث استطاعت التنسيق مع الأتراك فى تركيا – لإبعادها عن الغرب - وصفقات السلاح وامتد للغاز، إذ نجح بوتين فى كسب ولاء تركيا التى يمر عبرها خط السيل الروسى الذى يعزز الهيمنة الروسية على إمدادات الطاقة الأوروبية، ناهيك عن العلاقة القوية بمصر والإمارات والسعودية حتى أصبح لاعبًا مميزًا فى الملف الليبى، والأمريكان عاجزون عن اتخاذ موقف لأنهم فعليًا بلا أدوات حقيقية يمكنها أن تحرز أى تقدم فى المنطقة سوى الاتصالات الهاتفية الجوفاء.