خرجت علينا قصة التحرش الجماعى بفتاة فى المنصورة ليلة رأس السنة 2020، والتى انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعى بسرعة كبيرة جدًا، لتزعجنا بشكل جماعى أيضًا وهذا هو الجيد فى الموضوع كله، فرب ضارة نافعة!! فالرفض الكثيف الذى ظهر جليًا من رواد صفحات التواصل الاجتماعى، والبيانات الصادرة من الجهات الرسمية والمدنية تدل جميعها، على أن الوعى المجتمعى العام ضد التحرش بالنساء يزداد يومًا بعد يومًا. أغلب المواقف المنشورة والتى تراوحت بين الليبرالية والمحافظة الاجتماعية ترفض التحرش والاعتداء على المرأة فى المجال العام. ورغم اتفاقهما فى الرفض، فهما متناقضان فى الجوهر. الليبراليون يرون أن الاعتداء على كيان المرأة وجسدها جريمة أخلاقية وقانونية، لا يبررها سلوك المرأة أو ملابسها فى المجال العام، وأن تفعيل القانون وتغليظ العقوبة على مثل هؤلاء المجرمين أصبح حتميًا لعلاج المشكلة من جذورها. أما المجموعة المحافظة، فرغم رفضها للتحرش، تجد فى ملابس المرأة وسلوكها فى الشارع ما قد يبرر التحرش من قبل الشباب، لذلك ينصحون النساء أن يلبسن ويسلكن باحتشام فى المجال العام حتى لا يتعرضن للأذى. وهناك اتجاه ثالث يتسم بالذكورية العدوانية يرى أن التحرش هو العقوبة المناسبة للمرأة التى تلبس ملابس مكشوفة فى الشارع، ليس هذا فقط بل يُطالب بعض منهم بقانون يعاقب هذه المرأة بالسجن، لأنها تتعمد إثارة غرائز الرجال وتشيع الفسق والفجور فى المجتمع!. وتتفق؛ كل هذه الاتجاهات، على تشبيه الرجال الذين يتحرشون بالنساء «بالكلاب الجوعى السعرانة»!!! وأنا شخصيًا أرفض هذا التشبيه لأنه يحتوى على تمييز وإهانة حقيقية للكلاب!. بيانات الإدانة ليست هى الحل التحدى الحقيقى أن كل عبارات «لا للتحرش» والبيانات الرسمية والمدنية التى تظهر كلما حدثت واقعة تحرش لن تغير فى الواقع كثيرًا. لأن المطلوب عدة أفعال متراكمة ومستمرة على مدى زمنى طويل تبنى اتجاهات إيجابية لدى جميع فئات المجتمع، والذكور خصوصًا، تجاه احترام خصوصية المرأة وكيانها المستقل، وحقها فى الحضور الفاعل فى مجال عام يستوعب جميع أشكال التنوع فى إطار آمن طبيعى.
مازال التحرش الفردى أخطر من الجماعي التحرش الجنسى بالنساء ظاهرة قديمة فى المجتمع الريفى المصرى، لكنه أخذ أشكالًا جديدة مع خروج المرأة المصرية بكثافة إلى المجال العام فى المدينة (الذى كان مخصصًا للرجال فيما قبل) للتعليم والعمل وارتياد المنتديات الاجتماعية وأماكن الترفيه...إلخ، منذ بدايات القرن العشرين، وقد رصدت السينما المصرية منذ بدايتها مشاهد مختلفة عن التحرش بالنساء وخاصة فى الشوارع والمواصلات العامة، لا يمكن نسيانها. إننا نشهد تطورًا خطيرًا لظاهرة التحرش، فقد خرجت من إطار التحرش الفردى، من قبل رجل واحد إلى امرأة واحدة، إلى إطار التحرش الجماعى من قبل مجموعة من صبية وشباب إلى فتاة واحدة أو مجموعة من الفتيات وخاصة فى الأعياد والمناسبات العامة. ورغم خطورة ظاهرة التحرش الجماعى على سلامة وأمن المجال العام، ليس فقط بالنسبة للنساء بل لجميع أعضاء المجتمع، فما زلت أرى أن التحرش اليومى بالنساء فى الشارع والمواصلات العامة وأماكن العمل والدراسة هو الأخطر، لأنه بمرور الوقت أصبح تحديًا حقيقيًا لمشاركة النساء فى مجالات التعليم والعمل وخاصة فى الريف والمناطق الفقيرة، وهو ما يشكل أحد معوقات تحقيق التنمية المستدامة فى هذه المناطق، كما صار التحرش اليومى إحدى الصور النمطية السلبية المنتشرة عن المجتمع المصرى، والتى قد تؤدى إلى تداعيات سيئة على اقتصاديات بعض المجالات مثل السياحة.
الدروس المستفادة من تجارب مكافحة التحرش شهدت الحقبة الماضية العديد من الحملات الإعلامية والبرامج الميدانية التى قامت بها الحكومة والمجتمع المدنى لمكافحة ظاهرة التحرش، فقد ركزت الحملات الإعلامية على التوعية: بأن التحرش عنف واعتداء على المرأة، وأنه جريمة منصوص عليها فى قانون العقوبات، وأن المتحرش مجرّم فى جميع الأحوال ودون النظر إلى ملابس المرأة أو سلوكها، وأنه ينبغى على النساء كشف المتحرشين والإبلاغ عنهم للسلطات القانونية، وألا يستسلمن لثقافة الستر والعيب التى تفرض على النساء إخفاء جريمة التحرش خشية من نظرة المجتمع السلبية لهن، وعملت البرامج الميدانية على تفعيل القانون من خلال الإبلاغ عن حالات التحرش للمجلس القومى للمرأة، وحملات الشرطة التى تضم عناصر نسائية تنتشر فى الشوارع وخاصة فى المناسبات العامة، لضبط المتحرشين وتقديمهم إلى العدالة. كل هذه المبادرات المميزة ينبغى دراستها واستخلاص الدروس المستفادة منها وتقديمها لصناع القرار لتصبح سياسات عامة ومستمرة، ويمكن دمجها فى برامج التعليم والإعلام والقانون وليس مبادرات وقتية أو موسمية.
بناء الصورة الإيجابية للرجل المصري التحرش الجنسى هو أحد تجليات ظاهرة العنف ضد المرأة، والتى تُساهم فيها الثقافة المجتمعية الذكورية المستندة إلى العادات والتقاليد من ناحية وإلى الفكر الدينى المتشدد من ناحية أخرى، هذه الثقافة التى تعظم من مفهوم وأدوار الذكورة وتضع الأنوثة فى مرتبة متدنية، تصور الذكر المثالى على أنه الرجل القوى المسيطر، والقادر على إخضاع المرأة لرغباته الجنسية وإرادته، وأنه الرجل المتشدد والغيور على نساء بيته ومجتمعه، ودون ذلك يصبح رجلًا عديم النخوة والرجولة، هذه الأفكار تزيد من العنف والعدوانية لدى الصبية والشباب. وتقول موسوعة علم الاجتماع لعالم الاجتماع المعروف «أنتونى جيدنز»: «إن التحرش الجنسى والاغتصاب من الجرائم التى يستخدم فيها الرجال تفوّقهم الاجتماعى والجسدى ضد المرأة». صورة الرجل فى الدراما التليفزيونية والسينما المصرية هى أيضًا نموذج للبطل المفرط فى العنف والمال والجنس والوقاحة وخاصة فى علاقاته مع النساء، وقد صار هذا البطل مثالًا وقدوة للصبية والشباب، يقلدونه فى سلوكه وملابسه وألفاظه وكل شىء، بينما اختفى البطل المهذب والودود والمتواضع والشهم، البطل ذو الأخلاق واللسان الراقى، البطل الرومانسى العاشق والمحب أمثال كمال الشناوى ومحمد فوزى وعمر الشريف ورشدى أباظة ونور الشريف ومحمود ياسين ويحيى الفخرانى وأحمد زكى.... إن علاج ظاهرة التحرش الجنسى يحتاج بالإضافة إلى كل ما تقدم من تفعيل للقانون وحملات التوعية، إلى نقد ثقافى واجتماعى للمفاهيم والأنماط السلبية السائدة للذكورة حول التسلط والعنف، وبناء قيم وسلوكيات مختلفة تعلى من قيم العدالة والشراكة واحترام إنسانية المرأة وحقوقها واستقلاليتها. إنها مهمة تاريخية للتحرر من عبء الثقافة الغرائزية التى تدمر المجتمعات، وظنى أننا نحتاج إلى مبادرة ثقافية يحملها المثقفون رجالًا ونساءً.