انتهت فعاليات أنجح دورات مهرجان القاهرة السينمائى الدولى المُهداة للأب الروحى للمهرجان يوسف شريف رزق الله رحمه الله. لن أتحدث عن دقة تنظيم الفعاليات ولا عن فريق العمل الشباب الذين تحملوا المسئولية بجهد ودأب يليق بمهرجان سينمائى دولي؛ لكننى سأتوقف فقط عند الاختيار المُتميز «للأفلام» والتى جعلها مؤهلة بلا استثناء لجوائز «الأوسكار» عام 2020 ليس هذا فحسب؛ بل تُحسب لهذه الدورة من المهرجان ترجمة 90٪ من الأفلام باللغة العربية، مما أتاح الفرصة الكاملة لمُحبى السينما، للاستمتاع الجيد بأفلام المهرجان التى سيكون لها نصيب من جوائز الأوسكار فى شهر فبراير القادم. ليس معنى فوز الفيلم المكسيكى «أنا لم أعد هنا» بجائزة الهرم الذهبى وكذلك بطله بجائزة أحسن ممثل أن الأفلام التى لم تفز لم تكن على مستوى جيد؛ بالعكس جميع الأفلام التى شاهدتها بلا استثناء تستحق الترشُّح لجوائز الأوسكار، لكن الأمر له علاقة بآراء لجان التحكيم، التى تختلف من مهرجان لآخر. «الأيرلندى» الملاحظ أن موضوعات أفلام الدورة 41 تتحدث عن أبطال بمراحل عمرية مختلفة بداية من الطفل مثلما شاهدنا فى فيلم «نوع خاص من الهدوء أو «مرحلة المراهقة» مثلما شاهدنا فى فيلم «موسم ممطر». وغيرها من الأفلام بمراحل عمرية متنوعة سأتوقف عندها منها فيلم الافتتاح «The irishman» أو الأيرلندى للمخرج مارتن سكورسيزى، والذى استطاعت إدارة مهرجان القاهرة السينمائى الدولى الفوز به كعرض أول فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على شاشة سينمائية، وقبل عرضه على منصة «نتفليكس» الجهة المُنتجة له والتى عرضته بالفعل يوم 27 نوفمبر، أى بعد عرضه بأسبوع فى بمهرجان القاهرة السينمائى الدولى. ومن المتوقع حصول الفيلم على إحدى جوائز الأوسكار هذا العام. ينتمي فيلم الأيرلندى لعالم الجريمة التى اشتُهر بصناعتها مارتن سكورسيزى. ويعتبر فيلم الأيرلندى إحدى الروائع السينمائية التى جمعت بين روبرت دى نيرو وآل باتشينو وجو بيشى وجميعهم تعدوا منتصف السبعينات - لاحظ حضرتك كيف تتعامل شركات إنتاج السينما العالمية مع كبار النجوم وتقدير موهبتهم وقيمتهم الفنية وصناعة أفلام خصيصًا لهم تتلاءم مع حجم أسمائهم الفنية بغض النظر عن التكلفة الإنتاجية لهذه الأفلام. يعتبر «الأيرلندى» سيرة ذاتية لشخصيات حقيقية صاغها السيناريست ستيفن زايليان بحرفية شديدة دون الالتزام بسرد متسلسل زمنيًا ولا أعلم إن كان هذا مقصودًا من قبل صُناع الفيلم لكسر حدة الملل التى قد تصيب المُتفرج من مدة الشريط السينمائى الذى يستغرق 3 ساعات و9دقائق، على أى الأحوال فقد عشنا مباراة تمثيلية رائعة مع ثلاثة ممثلين من العيار الثقيل، أولهم روبرت دى نيرو (فرانك شيران) «القاتل المأجور» الذي نرى رحلة صعوده من سائق شاحنة إلى أحد رجال العصابة المقربين من رجل المافيا الأول جو بيشى «راصل» وتضعة الظروف ليصبح صديقًا مُقربًا لرئيس النقابات العمالية آل باتشينو «جيمى هوفا» .. صداقة تستطيع ملاحظتها من خلال الأحداث، فهل ما بينهما إنسانيًا سينتصر على عالم العصابات أم ستكون خيانة الصداقة هى صاحبة الكلمة العليا لإرضاء مصالح الفاسدين من رجال الدولة. تفاصيل كثيرة تعيشها مع أبطال المخرج مارتن سكورسيزى دون ملل تجعل من فيلمه منافسًا بقوة على جوائز الأوسكار بداية من جو بيشى «راصل» رجل المافيا الأول ومرورًا بآل باتشينو «جيمى هوفا» رئيس النقابات العمالية ونهاية بالمبدع روبرت دى نيرو «فرانك شيران» القاتل المُحترف الذى لا يرمش له جفن أثناء عملياته لدرجة عدم شعوره بالذنب، وبالتالى يرفض إبداء ندمة على جرائمه حتى وهو مقترب من الموت وظهر ذلك جليًا خلال لقاءات العظة مع رجل الكنيسة وإصراره على عدم الاعتراف. ليضعنا مؤلف الفيلم ستيفن زايليان أمام وجهة نظر المجرم تجاه جرائمه وكيفية تبريره لها مطالبًا بمساحة من التسامح والغفران . « نوع خاص من الهدوء» يأتى فيلم المخرج التشيكى ميكال هوجينور «نوع خاص من الهدوء» من الأفلام التى عُرضت سينمائيًا لأول مرة فى مهرجان القاهرة السينمائى الدولى ليكون أول عرض للفيلم فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومؤهل لدخول سباق جوائز الأوسكار من أبرز الأعمال التى تدعو للتوقف عندها، وحصل مُخرجه على جائزة الهرم البرونزى عن الفيلم. أنت تعيش حدوتة غريبة مدتها 96 دقيقة تحاول فك طلاسمها من خلال مشاهد متتابعة، لكنك لن تصل لشىء إلا فى اللحظات الأخيرة من نهاية الفيلم، وما قبل ذلك فأنت فاتح فاهك ُمندهش لا تستطيع الإطراف بعينيك، واستحالة تقتنع أن هناك عائلة ذات مستوى راقٍ تلجأ لإهانة ابنها «سبستيان» 10 سنوات تقريبا وقهره على يد مربيته التشيكية «ميا» التى استقدموها من أجل تهذيبه. لذلك فأنت تعيش طوال أحداث الفيلم مُترقبًا كشف سر شخصياته.. وبمجرد دخول المربية «ميا» لمنزلهم الذى يشى بالفخامة تشعر أنها أمام عائلة غريبة الأمزجة كل شىء بحساب؛ بداية من إصرارهم على إطلاق اسم «ميا» عليها ومرورًا بطريقة غسل الأوانى بسفنج مختلف وتناول الطعام فى توقيت مُحدد بشكل صارم ونهاية بالطامة الكبرى بالفيلم المُتمثلة فى أسلوب عقابهم ابنهم الوحيد «سبستيان»، حيث تطلب والدته من المربية التشيكية «ميا» مساعدتها فى بداية الأمربعقاب الطفل، المثير لعلامات الاستفهام أن الطفل نفسه لا يعارض الأمر، حيث يبادر بخلع ملابسه الداخلية وينحنى ليأخذ نصيبه من الضرب ثُم يسلم على مربيته باليد. فى البداية رفضت المربية الاستمرار فى هذا الأمر وغادرت منزل العائلة غريبة الأطوار رغم أنها استطاعت إقامة علاقة إنسانية جيدة مع الطفل، إلا أن حاجتها للمال دفعتها للعودة خاصة مع افتقاد الطفل «سبستيان» لها ومع الوقت نلاحظ تحولًا فى شخصية المُربية «ميا» تفقد على أثره الإحساس بإنسانيتها مع الطفل وبدوره يطعنها بسكين فى جسدها كرد فعل على إهانتها له عندما ضربته وجعلته ينتظرها وهو مُنحنى لتأتى له فيما بعد وتستكمل مهمتها، ومن هنا تبدأ الأمور تتضح عندما يختفى الطفل «سبستيان» من المنزل ليحل محلة صبى آخر أو بمعنى أدق «ضحية» جديدة لنكتشف أن هذه العائلة تعتنق ديانة غريبة تُحتم عليهم تربية الأطفال - تم خطفهم من قبل منظمة ما – على الطاعة العمياء بشكل صارم ليكونوا أقرب لملائكة تسير على لأرض أملًا فى ظهور «المسيح». فكرة رائعة ومواكبة للعبادات والشعائر الدينية الغريبة التى نسمع عنها فى كثير من المجتمعات العربية والعالمية. وأكد على ذلك مخرج الفيلم بأن شخصيات فيلمه موجودون فى الواقع ينتمون لقبيلة لها معتقداتها الدينية الغريبة من السبعينيات ومن ينتمون لهذه القبيلة يعيشون فى عدة دول أجنبية ولهم كاهن كبير يفسر الكتاب المقدس بطريقته. «موسم ممطر» يعتبر أيضا فيلم «موسم ممطر» للمخرج السنغافورى «أنتونى تشين» من أهم أفلام المهرجان الذى سيكون له فرص أكبر للفوز بالمهرجانات الاخرى والترشح للأوسكار. نحن أمام عمل درامى إنسانى بحت، استطاع مُخرجه بحرفية إعطاء ثقل وعمق لفكرته دون استسهال أو استخفاف المفروض أن بطلة الفيلم مدرسة اللغة الصينية «لينج» تشعر بوحدة لا يكسرها سوى رعايتها لوالد زوجها الجالس على كرسى مُتحرك وفى الوقت ذاته هى لا تجد التقدير ولا أدنى اهتمام من زوجها المشغول بعمله وخيانته لها، تحاول جاهدة تحقيق حلم الأمومة من خلال الحقن المجهرى بلا جدوى، مشاعر الأمومة تحركها تجاه تلميذها المراهق «ويلان» وعلى عكسها نجد تلميذها يكن لها مشاعر عاطفية ترجمها فى أول فرصة جمعته بها فى منزله لتكون معلمته هى أول من يدخله تجربته الجنسية الأولى وفى الوقت ذاته تحقق حلم الأمومة من خلاله فى مفاجأة غير متوقعة لكنها تفضل العودة لموطنها لتكملة حملها غير الشرعي ورعاية مولودها بمفردها خاصةً بعد حصولها على الطلاق. أول ما يلفت نظرك بالفيلم الطريقة التى قدم بها المخرج موضوعه وكيفية اهتمامه بالتفاصيل مثل اختبار الحمل الذى تقوم به بشكل اعتيادى ورد فعلها الذى عبر عنه بصوتها فقط دون مشاهدتها بخلاف المشاعر الإنسانية بينها وبين تلميذها من جهة وبينها وبين والد زوجها المريض من جهة أخرى الذى كانت تقوم بخدمته بأريحية وبلا كلل. أيضًا تعتبر كاميرا مدير التصوير الإنجليزى «سام كير» أحد أبطال فيلم «موسم ممطر» حيث تحايل على التكلفة المحدودة لإنتاج الفيلم والتى منعت صُناع الفيلم من السفر لأحد البلاد المعبرة عن طقس الفيلم وتم تصوير الفيلم بالكامل فى سنغافورة حيث المناخ المُشمس طوال النهار على عكس أجواء الفيلم التى تتسم بالأمطار والبرد والغيوم، ما دفع مدير التصوير لاستخدام مؤثرات بصرية لخلق مناخ يملؤه الغيوم والأمطار يتلاءم مع حالة الفيلم. الطريف أن الصبى المراهق بفيلم «موسم ممطر» كوه جيا لير الذى لعب دور «ويلان» هو نفسه الذى لعب دور الطفل بفيلم «إيلو إيلو» لنفس مخرج فيلم «موسم ممطر». «شبح مدار» أيضًا يعتبر الفيلم البلجيكى «شبح مدار» الحائز على جائزة لجنة التحكيم الخاصة «الهرم الفضى» من أقوى أفلام مهرجان القاهرة السينمائى الدولي لمخرجه البلجيكي باس ديفوس لعدة أسباب؛ أولها أنك ستشاهد فيلمًا بلا صراعات وخارج توقعاتك، نعم هو فيلم تدور أحداثه فى ليلة واحدة و دون حوار سينمائى بالمعنى المتعارف عليه - نابع من قصة لها بداية ووسط ونهاية - «الحوار هنا شحيح للغاية يعوضه عناصر أخرى تضعك أمام شريط سينمائى استثنائى منها روعة اللوحات السينمائية الليلية المتتابعة بإضاءتها المُتدرجة خاصة فى منزل بطلة الفيلم ببدايته ونهايته ومواءمة الموسيقى التصويرية مع إيقاع الفيلم البطيء الذى فرضه عدم نمطية فكرته بشكل عام . اختيار المخرج لأماكن التصوير نفسها في منتصف الليل بشوارع «بروكسل» كان من الأشياء الإيجابية التى عبرت عن أجواء الفيلم. بطلة الفيلم هى سعدية بن طيب وكونها مسيحية لم تتردد فى تجسيد شخصية «خديجة» المُحجبة عاملة النظافة بالمولات التى تغفو فى آخر رحلة للمترو حتى نهاية الخط ولا تستطيع العودة لمنزلها لعدم توافر فلوس معها، لتبدأ رحلتها بالتسكع فى شوارع «بلجيكا» ليلًا بعد فشل محاولتها فى الاتصال بابنها، خديجة ذات وجه بشوش وروح اعتادت على مواجهة الأزمات بلا تذمر وظهر ذلك أثناء رحلتها بشوارع بروكسيل سواء مع الرجل المُلقى على الأرض نتيجة أزمة مرضية مُفاجأة و«كلبة» المرافق له، أو مع رجل الأمن المعنى بحراسة ماكينات الصرافة. وأخيرًا: تحية لمحمد حفظى رئيس المهرجان و لأحمد شوقى القائم بأعمال المدير الفنى للمهرجان على مجهودهم وخروج هذه الدورة بشكل مشرف لم يسبق من قبل.