الأدميرال جيهات يايشى رئيس أركان القوات البحرية التركية، ألّف كتابًا بعنوان «ليبيا جارة تركيا من البحر»، دعا فيه بلاده إلى توقيع اتفاق لترسيم الحدود البحرية للمنطقة الاقتصادية الخالصة لتركيا مع ليبيا، معتبرًا ذلك أهم السيناريوهات الكفيلة بمواجهة اليونان.. أهمية هذا الطرح أنه صادر عن يايشى الذى يعتبرونه خبيرًا فى القانون البحرى، ومعروفًا بأعماله ودراساته التى تشكل مصدرًا للسياسات التى تنتهجها تركيا لاكتساب مناطق نفوذ بحرى جديدة، تلبية للحلم العثمانى، ناهيك عن منصبه القيادى الذى يسمح له بترجمة ما يطرحه من أفكار ورؤى إلى خطوات تنفيذية. تركيا هى الدولة الوحيدة التى لم تعلن عن منطقتها الاقتصادية الخالصة شرق المتوسط حتى الآن، ولم توقع أى اتفاق لترسيم الحدود البحرية مع أى دولة ساحلية، إلا مع شمال قبرص المحتل، الذى لا تعترف به سوى تركيا، وذلك يمثل نقطة ضعف مهمة فى موقفها، إزاء ما يتيحه لدول المنطقة الأخرى التى رسمت حدودها، من فرض أمر واقع قانونى مستقر زمنيًا.. لذلك شدّد يايشى على ضرورة أن تعلن تركيا عن منطقتها الاقتصادية الخالصة دون تأخير، وأوصى بحتمية توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا!.. وذلك هو مصدر الخطر. إشكاليات الممر التركى الليبى الإشكالية التى واجهتها نظرية يايشى هى أن السواحل التركية لا تواجه السواحل الليبية، التى تقع قبالتها جزيرتا كريت وبيلوبونيز اليونانيتان.. قانون البحار لعام 1982 يمنحهما ويمنح كل الجزر اليونانية شرق المتوسط وداخل بحر إيجه، الحق فى مياه إقليمية ومنطقة اقتصادية خالصة بحد أقصى 200 ميل، لكن المسافة بين الجزيرتين والسواحل الليبية لا تحتمل كل ذلك العمق مع نظيرتها الليبية، ما يفرض اقتسام المسافة بينهما، ولا عزاء لتركيا، التى ستقتصر منطقتها الاقتصادية الخالصة على خليج أنطاليا رغم أنها دولة ساحلية تمتلك أطول شواطئ شرق المتوسط.. يايشى حاول التحايل على ذلك بمنطق معوج، بإنكار حق الجزر فى منطقة اقتصادية حرة، استنادًا إلى عدم توقيع تركيا على اتفاقية قانون البحار، رغم إقرار معظم دول العالم لها، ورغم أن عضوية بلاده فى الأممالمتحدة تفرض عليها الالتزام باحترام ما رتبته الاتفاقية من حقوق للدول الموقعة عليها. تبريرات هزلية لأطماع تركيا وخلافًا لكل هذه الاعتبارات، طرح يايشى تبريرًا هزليًا لإمكانية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية مع ليبيا رغم استحالتها، مدعيًا أن موقع تركيا المائل جغرافيًا يسمح لها بترسيم مناطقها البحرية باستخدام خطوط قطرية «مائلة»!، خلافًا للقاعدة السائدة باستخدام الخطوط العمودية!، ما يحقق لها التواصل مع ليبيا بممر بحرى يمر جنوب جزيرة رودس، ورتّب على ذلك إمكانية توقيع اتفاقيات ترسيم حدود، لا مع ليبيا فقط وإنما أيضًا مع لبنان وإسرائيل! ويؤكد يايشى بزهو أن تركيا بذلك تكون قد قطعت الامتداد والتواصل اليونانى مع قبرص ومصر، وحالت دون توقيع اتفاقات ترسيم حدود بين أثينا وكل من نيقوسيا والقاهرة، كما تحرم قبرص واليونان من توقيع اتفاق ترسيم مماثل مع ليبيا، لتستحوذ أنقرة على منطقة اقتصادية واسعة تصل إلى 189 ألف كيلومتر مربع، تعزز بها نفوذها الاقتصادى فى البحر، وتصبح القوة المهيمنة شرق المتوسط.. واختتم بأن انتصار فايز السراج فى مواجهته للجيش الوطنى بقيادة خليفة حفتر يمكن أن يساهم فى تعجيل التوصل لهذا الاتفاق. تركيا تستعد للحرب مهما بدا هذا الطرح هزليًا، فإنه يعكس توجهات السياسة التركية فى مرحلة من أهم مراحل «حرب الغاز» ضد مصر ودول شرق المتوسط، والتى تقوم على سياسة فرض الأمر الواقع بالقوة، وتراهن دائمًا على احتمال لجوء الطرف الآخر للأساليب السياسية والدبلوماسية لاحتواء الموقف، ما يفسر إقدامها على إجراء عدائى بالغ الخطورة بدفع أربع سفن تنقيب تركية «ياووز، فاتح دونماز، بربروس، وأوروج ريس»، للعمل داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، وأطلقت على منطقة التنقيب بئر «غوزال يورت-1»، وكلفت القائمين على السفن بحفر بئر إنتاجية قبل انتهاء مهمتهم بالمنطقة فى يناير 2020.. وكالة بلومبرغ الأمريكية، أكدت وجود خطة تركية لنشر نظام الدفاع الجوى والصاروخى الروسى «إس- 400»، على الساحل الجنوبى للبلاد، لتوفير الحماية للسفن الحربية التركية التى تؤمن مجموعة التنقيب.. تركيا يا سادة تستعد للحرب!!.. مصر حذرتها فى بيان رسمى يوم 5 أكتوبر الماضى، من تداعيات الاستمرار فى أعمال التنقيب عن الغاز قرب سواحل قبرص، مشددة على أن الإجراءات الأحادية تهدد أمن واستقرار منطقة شرق المتوسط! محاولة اختطاف ليبيا تركيا تحاول اختطاف ليبيا بعد أن فشلت فى اختطاف مصر، فقد كانت التفاهمات بينها وبين الإخوان خلال حكم محمد مرسى تقضى بأن يتم ترسيم الحدود البحرية بينهما، متجاهلين حقوق قبرص فى منطقة اقتصادية خالصة، وبالمخالفة لقواعد القانون الدولى، ويترتب على ذلك نتائج جيوإستراتيجية بالغة الخطورة، أهمها: أن تركيا كانت ستصبح شريكًا بنصيب الأسد فى غاز شرق المتوسط.. ثانيها: محاصرة جزيرة قبرص، الهدف الرئيسى للأطماع التركية بالمنطقة، بممرين عازلين من الشرق والغرب، يتقاسمهما نظام الإخوان فى تركيا ونظيره آنذاك فى مصر.. ثالثها: عدم قدرة إسرائيل ولبنان، وسوريا مستقبلًا، على ترسيم الحدود مع قبرص، وبالتالى تفرض تركيا نفسها كشريك مصلحة معهم فيما يتعلق بالغاز، وتصبح عمليات التصدير منهم إلى أوروبا مقيدة بالمرور عبر أراضيها.. رابعها: قطع إمكانية الاتصال بين اليونان، العدو الرئيسى لتركيا، وكل من قبرص وإسرائيل، ما يترتب عليه استحالة مد خط أنابيب «إيست ميد» لأوروبا، وعدم قدرة اليونان على ترسيم حدودها البحرية مع قبرص ومصر. المواجهة المصرية هذه النتائج الخطيرة تفسر أسباب مبادرة مصر، بمجرد الإطاحة بالإخوان فى يوليو 2013، بترسيم الحدود البحرية مع قبرص وتوقيع الاتفاقية الإطارية لتنمية الخزانات الحاملة للهيدروكربون عبر تقاطع خط المنتصف فى ديسمبر 2013، كذلك عقد قمة بين رؤساء مصر وقبرص واليونان نوفمبر 2014، والتوقيع على الاتفاقية الإطارية المتعلقة بترسيم الحدود البحرية بين الدول الثلاث، طبقًا لاتفاقيات الأممالمتحدة، وصحيح القانون الدولى، موجهين ضربة قاضية للأطماع التركية فى البحر المتوسط.. بعدها مباشرة، وفى عام 2014، اتجه الموقف التركى نحو الانخراط الكامل فى المشهد الليبى، مباشرة وبشكل صريح، من خلال تقديم الدعم السياسى والعسكرى، لإخوان ليبيا والميليشيات المتطرفة. التدخل المباشر فى ليبيا عندما ترأس فايز السراج حكومة الوفاق فى ليبيا 2015 بدأت تركيا الرهان عليه، وتقديم مختلف صور الدعم له رسميًا، وذلك فى مواجهة حكومة وبرلمان طبرق، الأقرب إلى مصر، الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر ضبط سفنًا تركية تنقل أطنانًا من الأسلحة والذخائر للتنظيمات الإرهابية فى مصراتة وداخل العاصمة، وعندما احتدمت معركة تطهير طرابلس من الميليشيات التى تحكمها، وكان الجيش قاب قوسين أو أدنى من حسمها، والقضاء عليهم، زار السراج تركيا، ووقع اتفاقية دفاع مشترك فى يوليو 2019، تدفقت فى أعقابها الطائرات المسيرة المتطورة والمدرعات التركية على الميليشيات، كما دفعت بمجموعة كبيرة من العسكريين والفنيين والخبراء الأتراك الذين شكلوا غرفة عمليات بمصراتة لتشغيل الطائرات، وإدارة العمليات القتالية، فضلًا عن دفع مجموعات من الإرهابيين إلى ليبيا على متن الخطوط الأوكرانية، وطائرات شركة «الأجنحة الليبية» التى يملكها الإرهابى عبد الحكيم بلحاج أمير الجماعة المقاتلة، لتعزيز صفوف الميليشيات.. ولا شك فى أن عدم حسم معركة طرابلس منذ أوائل أبريل الماضى وحتى الآن، هو نتاج لذلك الدعم التركى غير المحدود للميليشيات المسلحة التى يستند عليها نظام السراج. تقدير للموقف تركيا بعد أن أضحت قاب قوسين أو أدنى من خسارة معركة الغاز، تركز الآن على ليبيا باعتبارها الأمل الأخير.. تحاول تثبيت وضع حكومة السراج بمختلف الوسائل، حتى تضمن استكمال المشروعات التى أسندتها إليها فى مجال البنية التحتية، والتى تصل قيمتها إلى 18 مليار دولار، وأن توقع معها اتفاق تعيين الحدود البحرية، وتنفذ الممر التركى الليبى فى عمق مياه البحر المتوسط، ما يمثل ضربًا بالقانون الدولى عرض الحائط، ويحدث انقلابًا جيواستراتيجيًا لصالحه تركيا فى المنطقة، يعيدها لمركز الصدارة، لا كممر رئيسى لتصدير الغاز لأوروبا فقط، وإنما كمنتج ومصدر لهذا الغاز. الخطة التركية التى أشار إليها الأدميرال جيهات يايشى قيد التنفيذ حاليًا، لكن نتائج نجاحها كارثية، ولا بديل عن إجهاضها.. فمعركة تركيا فى ليبيا ظاهرها ضد الجيش الوطنى الليبى بقيادة حفتر، لكن حقيقتها استهداف شامل لمصر، ينقل تركيا إلى حدودنا الغربية، بكل ما يعنيه ذلك من تهديد لأمننا القومى، كما يفرضها كطرف مشاكس، يتزاحم على ثروات شرق المتوسط، ويؤثر على وضعنا كمركز للطاقة بالمنطقة، وعلى طموحاتنا الاقتصادية. السبيل الوحيد للتصدى لذلك الخطر الجسيم هو تقديم مختلف صور الدعم للجيش الوطنى الليبى على نحو يمكّنه من سرعة حسم معركة طرابلس، والقضاء على الميليشيات المسلحة وكتائب الإخوان والإرهابيين الذين يحكمونها.. معركة طرابلس، هى معركة أمن قومى لمصر. ترى، هل وصلت الرسالة؟!