لأول مرة.. جامعة بنها الأهلية ضمن أفضل الجامعات الخضراء عالميًا    موعد مباراة أتلتيكو مدريد ضد أتلتيك بلباو والقناة الناقلة    السوق العقاري الأردني يسجل نموا في التداولات والإيرادات خلال 11 شهرا    وزير الاتصالات ومحافظ الدقهلية يفتتحان مكتب بريد المنصورة الرئيسي    ارتفاع تدريجي في أسعار الدواجن بالبحيرة والرومي البلدي يسجل 150 جنيها (فيديو)    استقرار في أسعار الفاكهة بأسواق والمحلات الأقصر اليوم السبت 6 ديسمبر 2025    المرحلة النهائية للمبادرة الرئاسية «تحالف وتنمية»: قبول مبدئي ل9 تحالفات استعدادًا لتوقيع البروتوكولات التنفيذية    طالب بتغيير اسم عائلته لحيوان آخر، فيديو مسرب لبشار الأسد ولونا الشبل    الدفاع الروسية: قواتنا تواصل تدمير مواقع الطاقة والبنية التحتية بأوكرانيا    وزير الخارجية: معبر رفح مفتوح على مدار الساعة من الجانب المصري.. ولن نقبل بتقسيم غزة    الشرع: إسرائيل قابلت سوريا بعنف شديد وشنت عليها أكثر من ألف غارة ونفذت 400 توغل في أراضيها    خمسة قتلى بينهم جندي في اشتباك حدودي جديد بين أفغانستان وباكستان    15 ديسمبر.. آخر موعد للتقدم لمسابقة "فنون ضد العنف" بجامعة بنها    آرسنال يتأخر أمام أستون فيلا في الشوط الأول    عاجل- الرئيس السيسي يوجه بتطوير نظام شهادة البكالوريا المصرية وتوفير مسارات متعددة للطلاب    الجو قلب فى الغردقة.. غيوم وبرق ورعد وأمطار متقطعة بمناطق متفرقة.. مباشر    استمرت لسنوات.. أمن بني سويف ينجح في إنهاء خصومة ثأرية بين عائلتين    جدل "الماضي الإجرامي" يدفع الممثل الكوري تشو جين وونج إلى إعلان الاعتزال    السفيرة الأمريكية وزوجة السفير البريطاني تلتقطان «سيلفي» داخل معبد إسنا    شارك بروايتك في جائزة نجيب محفوظ بمعرض الكتاب 2026.. والجائزة 500 ألف جنيه    وزير الخارجية يكشف تفاصيل العلاقات مع قطر والصفقات الاقتصادية    إنفوجراف|حصاد منظومة الشكاوى الحكومية خلال نوفمبر 2025    فيتو الرئيس    عمرو دياب يتألق في الدوحة بحفل استثنائي وحضور جماهيري غفير    الإعلان التشويقى لفيلم "القصص" قبل عرضه فى مهرجان البحر الأحمر السينمائى الدولى    فيلم السلم والثعبان.. لعب عيال يحصد 65 مليون جنيه خلال 24 يوم عرض    وزير الصحة يشهد انطلاق المسابقة العالمية للقرآن الكريم في نسختها ال32    مفتي الديار المصرية: «دولة التلاوة» يعيد إحياء مدرسة التلاوة المصرية بأكتشاف المواهب الشابة ورعايتها    وزير الصحة يعقد مؤتمراً صحفيًا غداً الأحد للإعلان عن الوضع الوبائي والإصابات التنفسية    بعد الإعلان عن عرضه 31 ديسمبر.. أزمة فيلم الملحد تتجه للنهاية    وزير الخارجية القطري: استقرار قطاع غزة المدمر لن يتم إلا حال الانسحاب الإسرائيلي الكامل    رئيس مصلحة الجمارك: لا رسوم جديدة على المستوردين مع تطبيق نظام ACI على الشحنات الجوية يناير المقبل    أول تعليق من بيطري الشرقية على ظهور تماسيح صغيرة داخل مصرف مائي بالزوامل    اللجنة القضائية تتفقد لجان التصويت في الجمعية العمومية لنقابة المحامين    مواقيت الصلاه اليوم السبت 6ديسمبر 2025 فى المنيا..... اعرف صلاتك بدقه    مدرب سوريا: مباراة فلسطين صعبة وتركيزنا على حسم التأهل فى كأس العرب    رانيا المشاط: الالتزام بسقف الاستثمارات عند تريليون جنيه العام الماضي فتح المجال لمزيد من استثمارات القطاع الخاص    السيسي يوجه بمحاسبة عاجلة تجاه أي انفلات أخلاقي بالمدارس    حارس بتروجت: تتويج بيراميدز بإفريقيا "مفاجأة كبيرة".. ودوري الموسم الحالي "الأقوى" تاريخيا    تحليل فيروسات B وC وHIV لمتعاطي المخدرات بالحقن ضمن خدمات علاج الإدمان المجانية في السويس    وزير الأوقاف يعلن عن أسماء 72 دولة مشاركة في مسابقة القرآن الكريم    الأوقاف تعلن مواعيد المقابلات الشخصية للمتقدمين لشغل وظائف بالشئون القانونية    وكيل طب قصر العيني: اللقاءات العلمية بين التخصصات المتداخلة محور أساسي في خدمة المرضى    دراسة أمريكية توضح.. لماذا لم يتم إدراج البطاطس في النظام الغذائي الصحي؟    شهر و 5 أيام إجازة نصف العام لهؤلاء الطلاب.. اعرف التفاصيل    محافظ الشرقية يتابع الموقف التنفيذي لسير أعمال إنشاء مجمع مواقف مدينه منيا القمح    اندلاع حريق ضخم يلتهم محتويات مصنع مراتب بقرية العزيزية في البدرشين    وزير الأوقاف: مصر قبلة التلاوة والمسابقة العالمية للقرآن تعكس ريادتها الدولية    الصحة: فحص أكثر من 7 ملابين طالب بمبادرة الكشف الأنيميا والسمنة والتقزم    مواعيد مباريات اليوم السبت 6- 12- 2025 والقنوات الناقلة    الصحة: توقعات بوصول نسبة كبار السن من السكان ل 10.6% بحلول 2050    وزير الري يتابع أعمال حماية الشواطئ المصرية للتعامل مع التأثيرات السلبية لتغير المناخ    لاعب بلجيكا السابق: صلاح يتقدم في السن.. وحصلنا على أسهل القرعات    بيراميدز يسعى لمواصلة انتصاراته في الدوري على حساب بتروجت    منتخب مصر المشارك في كأس العرب يواجه الإمارات اليوم بحثا عن الانتصار الأول    استكمال محاكمة 32 متهما في قضية اللجان المالية بالتجمع.. اليوم    بعتيني ليه تشعل الساحة... تعاون عمرو مصطفى وزياد ظاظا يكتسح التريند ويهيمن على المشهد الغنائي    مصر والإمارات على موعد مع الإثارة في كأس العرب 2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نغمة موسيقية مؤثرة
نشر في صباح الخير يوم 06 - 11 - 2019

يحيى الطاهر عبدالله شاعر القصة القصيرة الذى صور حياة القرية المصرية الصعيدية بكل ما فيها، سطوة العادات والتقاليد، وقيم البحث عن العدالة، والحرية، كما عبّر عن شوق الإنسان لعناق الجوهر الحقيقى للحياة ومعناها العميق.
قصصه كالقصائد
كان يحيى الطاهر يلقى قصصه شفاهة كالقصائد وكان يحفظها، ويرى فى إلقائها متعة التواصل مع جمهوره الحقيقى الذى كتبها من أجله.
وصفه عبدالرحمن الأبنودى بقوله «نصف الصعيد بلسانه».
فقد عبَّر يحيى الطاهر عن قريته «الكرنك» كنموذج أدبى مصرى معاصر، يمكن التعرف من خلاله على معالم حياة المواطن من خلال خلفية تقاليد قديمة تحكم حياة القرية منذ مئات السنين متطبعة وملتحمة ومتواصلة الثبات بتقاليدها، أتت عليها مختلف النبضات التاريخية والتأثير الأوروبى الاجتماعى الحضارى والذى يراه بعض الدارسين لأدبه مكونا ثالثا لوعى عربى «مصرى»حديث.
فقد صوَّر كاتبنا فى قصصه قريته من عام 1938-1981 بحيث تبدو قصصه كوثيقة اجتماعية، شرحت أسلوب حياة قرية مصرية فأشار للدور الاجتماعى للفرد والعائلة والطبقة، وكذلك المواجهة بين التقاليد الراسخة، ودخول التجديد فى مجال حياة القرية، فيقول عن ذلك : «أنا ابن القرية وسأظل فتجربتى تكاد تكون كلها فى القرية، وهى قائمة فى «الكرنك»، فى «الأقصر» أى «طيبة القديمة».
وقد تمثلت مؤثرات الحضارة الأوروبية التى تعرف عليها يحيى الطاهر منذ طفولته وشبابه عن قرب من خلال أعمال التنقيب عن الآثار الفرعونية التى كانت تقوم بها البعثات، وبعد سنوات جاءت وفود السياحة الأوروبية لرؤية هذه المنطقة فأضحت تعج بالنشاط السياحى، وتنتشر فيها محلات بيع المعروضات التذكارية، حيث ينجز بعض شباب القرية عمل تحف فنية يدوية تقليدية لإرضاء كثرة طلب السياح عليها كأوراق البردى، والتحف الأثرية القديمة.
وتظهر فى قصص يحيى الطاهر أهمية حياة النيل، وعادات الناس كرمز لطبيعة الحياة، فالكرنك التى تبعد ثلاثة كيلومترات عن مدينة الأقصر، تقع فى الجانب الأيمن من نهر النيل.
«سامى حسين الشيخلى : «القرية المصرية «الكرنك» فى قصص يحيى الطاهر عبدالله 1938-1981، المركز القومى للترجمة».
مجدد بارع وأصيل
ويصف الدارسون لأدبه ملامح وسمات كتاباته فقال خيرى شلبى «لقد نقل تجربته الصعيدية فأعاد خلق الحياة من جديد بشكل أطلعنا على مكامن النفس المصرية، وحضارتها الشامخة»
بينما وصف سامى خشبة قصص يحيى الطاهر ومنهجه فى الكتابة فقال: «إنه استخدم المادة الخام فى واقع قريته وقبيلته وبيت أسرته، وتصعلك فيها بالقاهرة، وارتباطه بالأصل قد أوصله لينابيع أصيلة فى الثقافة الوطنية فاعتمد فى مادته الأدبية على حياة يومية من «الكرنك» كما فى روايته «الطوق والأسورة»، كما أنه مزج التراث الشعبى، ومؤثرات الأدب الأوروبى فكان له أسلوب خاص مزجه بلغة شاعرية، ووصفه نجيب محفوظ بأنه مجدد بارع فى الأدب، يظهر فنه الأصيل لبناء فنان متكامل.
نغمة موسيقية مؤثرة
كان يحيى الطاهر يحفظ قصصه ويلقيها على الناس كالقصائد، وتحدث عن ذلك يوسف إدريس فرأى أن يحيى الطاهر قد مثل خطا له خصوصية وأبرز ما حققه هو إيجاد نغمة موسيقية شعرية مؤثرة، كتب المقامة فى شكلها المصرى الحديث.
وكان إلقاء القصص من الذاكرة فى الأماكن العامة تقليدا شعبيا له عُُرف تراثى اشتهر به العرب قبل الإسلام وبعده فى الرواية والحكاية، واستلم يحيى الطاهر مواصلة هذا التراث، وإحياءه كقاص تجريبى باستقلالية واعية، علما بأن هذا العرف كان قد ازدهر فى الزمن العباسى، وما بعده وكان ذلك عصره الذهبى، ثم فقد بريقه الاجتماعى فى العصور المتأخرة، وقد اهتم يحيى الطاهر بإلقاء قصصه من ذاكرته دون أن يدونها فى مرحلته الأولى وكان يعتقد أن القول أفضل، ورأى أن الناس الذين كتب عنهم لا يقرأون فنه فهم منفيون، ومغتربون، ومستلبون وأن القصص التى كتبها سبق أن قالها مئة ألف مرة لمئة ألف شخص لذا فهو يقول أنه لا يبذل أى جهد فى الكتابة لأ نه يدون ما يقوله فى جلساته ومعاملاته، فكانت نشأة قصص يحيى الطاهر من خلال مشاركة تأثير متبادل بطريقة القول والسمع، ونقد واقعى، وربط إلقائه الشفوى بعرف عربى متوارث قبل الإسلام وربما بفرعونى قديم حيث كانت القصائد والقصص تروى شفاها وتنتقل عبر الذاكرة الحافظة لتحفظ لسنين طويلة، وكانت له هذه القدرة فسمى عندليب قصص الكرنك كما يقول سامى حسين الشيخلى فى كتابه عن قصص يحيى الطاهر علمًا بأن قصصه القروية تدور فى الفترة الممتدة بين عامى «1940-1955».
يوسف إدريس فرح بكتاباته كالكنز
وكان يحيى الطاهر قد أكمل دراسته الابتدائية فى مدرسة والده فى القرية، ثم التحق بالمدرسة الزراعية سنتين «1959-1961» فى مدينة قنا عاصمة الإقليم، وعمل بعد تخرجه مدة سنتين بمديرية الزراعة فى قنا لكنه لم يرغب فى مواصلة الدراسة أو العمل فى هذا المجال، وقرر الارتحال إلى القاهرة، وكان قد تعرف فى مدينة قنا على الشاعرين عبدالرحمن الأبنودى وأمل دنقل، وكان هذا اللقاء بداية صداقة طويلة فانصب اهتمامهم على الأدب وليس السياسة، وحاولوا الخروج عن كتابة الأدب التقليدى، وقدموا خلال عام كامل بانتظام أمسيات شعرية ومناقشات أدبية فى مدرسة مسائية سمحت لهم بذلك، ثم قرأوا فى مختلف الاتجاهات الأدبية ومال رأيهم نحو ثورة جمال عبدالناصر، وقدم الأبنودى شعرا بالعامية الصعيدية، وقدم يحيى الطاهر تجربة القصة القصيرة، ونشر أمل دنقل الشعر الحر بالعربية الفصحى، وبرز موضوع الأصالة والمعاصرة الذى شغل أدباء مصر بعد ثورة 1952، وحول محتوى وشكل الإبداع الأدبى بلغت ذروته فى الستينيات فكرس يحيى الطاهر طاقته بشكل خاص للقصة القصيرة، واشتهر بتصويره الواقعى للحياة اليومية القروية وخاصة حياة «الكرنك» مسقط رأسه.
وفى القاهرة تحدد هدفه وعمله كما ذكر بهاء طاهر : «لقد رفض بداية المدخل المألوف لكاتب ناشئ، أن يرتكن إلى وظيفة مأمونة، قال لنا منذ البداية : أنا كاتب قصة، ورفض أن يكون شيئا آخر»، وقد رصد بهاء طاهر سمة مهمة من سمات شخصية يحيى الطاهر عندما قال : «كانت الجزئيات الصغيرة تعكس فيما أرى شيئا جوهريا فى شخصيته، وفى رسالته وأدبه، ذلك الرفض الكامل للتأقلم والدخول فى القوالب الجاهزة، والإيمان بالحرية الداخلية».
أما يوسف إدريس فقد كان أول من أخرج قصص يحيى الطاهر من الشفاهية إلى النشر على صفحات المجلات الأدبية ويقول إدريس عن ذلك : قابلنى فى قهوة «ريش» أيام كانت مركز الإشعاع للفن، وقال : أنا أكتب القصة القصيرة قلت: هات أقرأ، وتصورت أنه سيخرج لى ظرفا فيه عشرات مما كتب وإذ به يعتدل وتأخذ سيماه طابع الاتصال العلوى، ويُلقى علينا قصته الأولى وكأنها الشعر، وفرحت به كالكنز، أخذت منه القصة الأولى، ونشرتها فى مجلة الكاتب، وقلت كلمة ألفت بها الأنظار التائهة إلى الظاهرة إلى يحيى الطاهر عبدالله.
«فمن أول سطر عرفت أنى أمام كاتب قصة، وليس أى قصة، قصة جديدة طوع لها شاعرية الوجدان المصرى الذى حمصته شمس الصعيد : جديدة الموسيقى، جديدة اللغة، جديدة المحتوى بل أكاد أقول ليست مصرية فقط ولكنها أنغام صعيدية عالمية تماما»
وكان رد الفعل الإيجابى عند يحيى على تشجيع يوسف إدريس أن دفعه لكتابة قصصه لأول مرة، وإرسالها إلى مختلف المجلات العربية للنشر فاشتهر قاصًا لامعًا.
ويذكر الشيخلى فى كتابه عن يحيى الطاهر عبدالله أن كاتبنا وعبدالرحمن الأبنودى نشطا بتطوير فكرهما فى الأدب السياسى اليسارى خاصة عام 1964 فكانت لها وآخرين انتقادات لسياسة عبدالناصر وكانا قد انضما إلى مجموعة أدبية معارضة وكان منهم: صلاح عيسى، وسيد حجاب، وجمال الغيطانى، وسيد خميس، وإبراهيم فتحى، وقبض على أعضاء المجموعة بسبب نشاطهم المعارض للحكم فى أكتوبر 1966، لكن يحيى نجا هاربا ثم اختفى وقبض عليه، بعد ثلاثة أشهر أطلق سراحه مع بقية زملائه فى أبريل 1967، وصَوَّر ذلك فى قصة «معطف جلد».
وقد أورد هذه الرواية عن المخرجة الراحلة عطيات الأبنودى زوجة عبدالرحمن الأبنودى حينذاك.
ومن الملاحظ أن قصة «معطف جلد» قد نشرت لأول مرة فى مجلة «المجلة» عام 1966 أى فى عهد عبدالناصر.
البحث عن الذات والتمرد على الواقع
كانت القضية الأولى فى كتابات يحيى الطاهر عبدالله هى البحث عن الذات والتمرد على الواقع، ولم يتصالح أبطاله مع أ دددقدارهم أبدا بل واصلوا التمرد عليه حتى ولو لم يحققوا بتمردهم شيئا، وإن قراءة عميقة لرائعته «الطوق والأسورة» لتكشف لنا مأساة شخصياته التى تدرك جيدا ما تريد، وتسعى إليه، وجوهر معاناتها، ومأساتها أنها تعرف أنه لن يتحقق!
وقد عدت لهذه الرواية لأقرأها مجددًا – والتى يهديها يحيى الطاهر بإهداء ساحر إلى «الشجر المورق العالى، وللريح المغنية وللإنسان على الأرض ذات الخير – فى قوته وفى ضعفه»
وكانت قد بدأت هذه الرواية الملحة بشخصياتها وحضورها على كاتبها بعد أن نشر أجزاء منها فى قصتين وردتا فى مجموعته القصصية :
«الدف والصندوق» وهما : «الشهر السادس من العام الثالث»، و«الموت فى ثلاث لوحات» ليعود إليها يحيى الطاهر مجددا ويكتبها فى رائعته «الطوق والأسورة»
حضور الأقصر بمغانيها وقصورها وآثارها
الأرض فى أدبه هى الكنز، وسر الأسرار، وأرض الجدود، وبندر البنادر فيقول يحيى الطاهر فى روايته :
«لما بكت السماء، وسقط الدمع الطاهر على الأرض التى تضج من ظلم البشر للبشر رقد التراب المهتاج واختفى الغبار من الجو، وعم نور، وعادت الريح لمعقلها، وصارت السماء أشد زرقة، وخرج الأولاد الصغار يبحثون عن اللقايا من جعارين وفصوص وخواتم وما تكشف عنه أرض الجدود ذات السر»ص345
وتحفل روايته بتفاصيل المكان، وموسم الأحداث الذى غالبا ما يكون فصل الشتاء حيث ينشط أهل الأقصر لموسم السياحة، ويتهيأ كل شىء للتفاعل بين الإرث الأصيل والأثر الأجنبى الوافد فيقول: «رحلت شمس الصيف الكبيرة، وأقفرت المرساة، ذهب صغار التجار وكبارهم والنوتية والحمالون وأصحاب العربات وسائقو العربات إلى حيث يعلم الله، وتلك هى شمس الشتاء بوجهها الضاحك وشعرها الأصفر المحلول، وها هم السياح قادمون من بلادهم – بلاد الغيوم والمطر والثلج الأبيض ليتفرجوا على الأثر القديم، وليركبوا العربات تجرها الخيول وليشتروا الطواقى الملونة ويلبسوها، ولتنقلهم قطارات الماء من بر الشرق إلى بر الغرب، وليعمروا اللوكاندات.
«هيا إلى اللوكاندة يا ولد.. وأنت يار جل هيا إلى العمل، ودعوا البطالة يا سكان نجع البحاروة فقد رحل الصيف، وأنتم لستم ممن يفلحون الأرض ولستم بالمُلاك فلتلبسوا ملابسكم البيضاء وعماماتكم البيضاء، وتمنطقوا بالأحزمة الخضراء..
وكان الرجل والصبيان قد مروا عليه ورموه بالسلام، وكانوا يلبسون ملابسهم البيضاء، وعمائمهم البيضاء وقد تمنطقوا بأحزمة خضراء: «لأنهم يعيشون الصيف فى بطالة، ويعملون بالشتاء، ويحصلون على أجر وبقشيش كثير، ولأن الصيف قادم لا محالة بعد الشتاء فهم مقامرون».
وفرك مصطفى ورق الكوتشينة الملون بين راحتيه، وزعق فى النهر، ورد النهر عليه : «مقامرون.. مقامرون إلى أبد الآبدين» ص352
يحيى الطاهر عبدالله : «الطوق والأسورة» 2010، الأعمال الكاملة، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أبطاله يبحثون عن ذواتهم
مصطفى بطل الرواية اغترب، وسافر، وعاد من الرحلة كسندباد أراد أن يختبر لجة الماء، ومسار السفن والأرزاق لكنه عاد بحكمته الخاصة متمثلة فى البحث عن الحرية، حرية الذات فى القول والفعل والعمل، ويصوّر كاتبنا ذلك فى مشهد مهم : «قال مصطفى وكان معتدل المزاج، وبدأ كلامه بقهقهة عالية: «أأنت خائفة يا أم من أن تعولى ابنك فى شدته ؟
لا تخافى، الرجل لا يُغلب، فى راسى مال كثير».
قالت حزينة فى عجب: فى رأسك مال كثير فى رأسك ؟!
قال مصطفى ضاحكا : «المال أيضا مرمى بالطرقات كالأحجار»، ردت حزينة وهى تتصنع الفزع «أطلب من الله أن يحفظ عقلك من الجنون»
قال مصطفى يحدث أمه بجد ووضع يده على كتفها : «لن أعمل تحت أمر مخلوق، نعم، لقد تعبت وقاسيت يا والدتى الكثير فى غربتى من أوامر المخاليق، الأمر مر الطعم، ومن اليوم سأكون حر نفسى، أنت لا تعرفين بشاعة حكم الآدمى الحاكم على الآدمى المحكوم، لا تخافى، سألتقط رزقى من الطرقات كالأنبياء والطير» ص348
لكنهم يحلمون
وحتى فى أشد مواقف الرواية مأساوية ينشد أبطاله تحررا ما مع ضوء الشمس ومع ضوء النجوم، يتعرضون لأقسى صنوف القهر لكنهم يحلمون ويأملون تظل طفولتهم تحيا بداخلهم، وينظرون إلى البعيد حتى ولو من خلال كوة ضيقة، ها هى نبوية تقاوم مصيرها، وقد دفنت حتى رأسها حية بلا طعام ولا شراب حتى لا تتعرف بحبيبها الذى فعل بأنوثتها فعلته وأسال نهرها ورنق ماءها، ها هى نبوية تتمرد فى لحظاتها الأخيرة مختارة لحظات طفولتها، وخطرات حبها، تنحاز إلى الصمت حتى ينجو من تحب، ويظل مشهد نبوية أكثر مشاهد الرواية عمقا ومأساوية وقد صوره كاتبنا، فأعاد إلى نبوية طفولتها، وحنينها إلى الحب الناعم الذى أودى بها إلى الهلاك:
«نبوية تقاوم العطش.. حلقها جاف لم يجرع الماء منذ عام – لكنها لن تنادى لتطلب الماء، ونبوية جائعة تشتهى ثور الحلوى المكسور القرن بداخل صندوقها الخشبى»
ونبوية تنظر للكوة العالية بالحائط، تلك التى تأتى بالضوء والبرد للغرفة، وتقول ما عدت أحس بالبرد، وهذا الضوء أهو ضوء الشمس أم ضوء النجوم، الضوء لا يعنينى بقدر ما أريد أن أعرف هل هو مستيقظ.. كم من الأيام مر عليّ وأنا هنا.. يومان أم شهر أم عام ؟ أم أعوام طويلة تلك التى مرت، وتلك العيون الشامتة المطلة من الكوة تسألنى عن اسمه ولن تغادر الكوة حتى أنطق باسمه، أنا لن أنطق لأننى ميتة ميتة لا محالة، لا بل لأننى لن أبوح باسم حبيبى وإلا فسيقتله الخال الهائج.. لماذا لا يقترب منى ذكر الأرنب الكبير هذا، ويمرر شعره الناعم فوق جلد وجهى ويدفن جسمه الطرى فى شعرى متمرغا بفروه الناعم» ص354
حتى هذا الأرنب الكبير يفر من رائحة الموت ويرى وجوده خارج هذه الدار القاسية التى تحتضر فيها نبوية مدفونة حية حتى رأسها فيقول كاتبنا: «ولى الليل بالنجوم، وجاء النهار بالشمس، وأطل الأرنب الذكر الكبير الخائف من باب بيت بخيت البشارى المفتوح ثم نط للخارج وتبعته الأرانب الكبيرة والصغيرة تسعى للحشائش تحت كرم النخيل غير المسوَّر الذى يملكه الشيخ الفاضل، والواقع خلف بيته»ص356..
كل الكائنات فى أدب يحيى الطاهر تصارع أقدارها، وتتطلع إلى مصائر أرفع، النخلة فى قصته «العالية» فى مجموعته القصصية «الدُف والصندوق» تحدث نفسها وتتبنى المصير الذى تريده فتقول : «إنها الريح الهوجاء فكت قيودها قادمة من محبسها البعيد، ياساق يا ساقى كونى كابن البشر»، هكذا صرخت المعمرة التى خبرت ريح الأزمنة، ومالت، ولمت جريدها المجدول تحمى ثمرها الطيب: «لن أواجه مواجهة الثور، ولن أستسلم كبقرة، مكر الثعالب يغلب القوى الباطش»، وصرخت «ويا جذورى أنت يا جذورى كونى فى الأرض أوتادا»ص119.
الصراع بين الأفكار الموروثة والتقدمية
لم يكن الصراع فى رواية «الطوق والأسورة» صراع أبطال مع مصائرهم فقط لكنه كان أيضا صراعًا بين أفكار موروثة وأخرى تقدمية وفيما بينهما كانت الآثار مقدسة ويقف عليها حراسها كإرث من الأجداد، مهما تصارعت الأفكار فهى ثابتة عفية تماما كجذور «العالية»
ويأتى المشهد الذى يرسمه بجدارة يحيى الطاهر فيصف أحد المعابد القديمة وما يدور حوله من صراع فكرى فهو موطن الأسرار:
«ها هو المعبد القديم المشيد من الحجر الكبير، تهدم بعض الحجر، وسقط من بعض جوانب السور بفضل الزمن العاتى إلا أن بوابات المعبد السبع باقيات، من فوق كل بوابة تطل شمس ذات جناحين يحيط بها ثعبانان حارسان.
هناك بالداخل بهو الأعمدة حيث كانت تقام صلوات أهل الزمن القديم، لقد حرقوا هنا أكوام البخور الذى جلبوه من أقصى المعمورة وبالداخل رب النسل المكشوف العورة المحبوس بغرفته الضيقة والمسلة التى لم تكتمل، المسلة ذات الصوت الرنان، والبحيرة المقدسة ماؤها لا يرتفع ولا يهبط رغم عيون الماء التى لا تكف عن البكاء لتصب فى حوض البحيرة الصغير : كنوز الأرض ترقد هنا تحت الماء من قلائد وأساور طوقت برقاب آلاف الملوك والملكات»، ثم يدير صراعا فكريا بين موروث يقترن بالخرافات، وبين رؤى مستنيرة وتقدمية، فيسوق الموروث الخرافى على لسان فهيمة عندما تقول : «تلك الكباش كانت بشرا فى الزمن القديم، وغضبة الله هى التى حولت بشر الزمن القديم إلى حجر، عقابا لهم على كفرهم، نعم كيف يتزوج الأخ من أخته، والابن من أمه ؟!، وها هم البشر العصاة يرقدون فى صفين متقابلين لهم رؤوس كباش وأجساد أسود» ص 324.
ويقاوم النص الفكرة بالفكرة، ففهيمة لا تدرك القيمة الأثرية لهذه الكباش منذ أيام الفراعنة، ومنذ آلاف السنين بينما يدرك ابن الشيخ الفاضل بما تلقاه من علم القيمة الحقيقية لهذه الآثار فيقول : «قرية الكرنك القديمة هذه كانت فى الزمن القديم هى والأقصر مملكة مصر والعالم، كان اسمها طيبة، وكان للمعبد سور كبير غير متهدم له بوابات، وبه كانت تقام الصلوات، وحول المعبد كانت بيوت الأهالى، وبالبر الغربى توجد المقابر، وكان طريق الكباش يوصل من معبد الكرنك إلى معبد الأقصر وبالعكس والمصريون القدماء لم يكفروا بالله كما يظن الأهالى اليوم، فهم أول ناس عرفوا الله، وحنطوا الجسد بسر لم يعرفه البشر بعد ولن يعرفه الدود مهما حاول»ص337
.. وهكذا استطاع يحيى الطاهر عبدالله أن يقدم لنا فى أدبه نفوسا صعيدية مصرية تواقة لمعانقة أسرار الطبيعة والوجود، وجعل من وصف قريته «الكرنك» وأحوالها وثيقة اجتماعية بامتياز، يحفر أبطالها مصائرهم على الحجر كما فعل الأجداد، ويؤمنون بأوطانهم محل الكنوز، وبقريتهم مركز القرى، وبندر البنادر، تحن إليها القلوب، وتتعلق بها أبصار السياح، يتأملون مجد الأجداد إلى أبد الآبدين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.