كان يوم 28 سبتمبر من عام 1970 يومًا مباغتا.. عم فيه الحزن مصر من أقصى الوادى بطوله وعمق الدلتا باتساعها.. واجتاح الوطن العربى وأماكن كثيرة من العالم جسدته تلك اللحظة الفارقة: رحيل جمال عبدالناصر بعد 52 عاما وشهور.. منذ مولده فى 15 يناير من عام 1918.. ويالها من لحظة.. «لحظة الحزن العظيم» بتعبير الشاعر محمود حسن إسماعيل على اسم قصيدته التى يقول فيها: «ورغم انطفاء السراج على عتبات الجسد.. فما زال منه السنا هادرا للأبد.. تحلق راياته فى الماذن.. وتنطق آياته فى القرى والمدائن.. ومادام فى الأرض حر وثائر.. ومادام فيها حياة.. فما مات ناصر.. ولا غربت من يديه الحياة». ورغم الاختلاف والاتفاق ورغم الخصوم والمحبين فأن الحزن مس الشجر والبشر.. حتى خرج أهل القرى والمدن.. استغرقهم البكاء فى هذا اليوم مثل كل من عاشوا فترة التحولات منذ 1952.. وتردد الصوت واستجاب الصدى: مات حبيب الفقراء.. ونصير العمال وسند الفلاحين. وقال نزار قبانى: «قتلناك ياجبل الكبرياء وآخر قنديل زيت يضىء لنا فى ليالى الشتاء.. وآخر سيف من القادسية.. وقلنا المنية.. لماذا قبلت المجىء إلينا؟.. فمثلك كان كثيرًا علينا». حتى خصومه والذين تربصوا به اعترفوا بزعامته.. اعترف موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى عندما رحل: «هذا الرجل العظيم الذى لن يتكرر فى التاريخ.. عبدالناصر كان ألد أعدائنا وأكثرهم خطورة على دولتنا!!». ناصر فى الفن وإذا كانت مكتبة جامعة أوكسفورد قد سجلت ما يزيد على ثلاثة آلاف كتاب بلغات مختلفة عن الزعيم المصرى.. فكيف عكس الفن تلك الشخصية التى أثرت وأثرت وآثارت الجدل فى الحياة.. وكيف خلد الإنجازات والتحولات فى عهده؟ لقد كان الفن سباقا فى تشكيل هذا الفيض من الإبداع الذى ربطه بالحياة والمجتمع، وامتد من التمسك باللمسة الأكاديمية أو الكلاسيكية إلى التحرر وإطلاق الخيال والتعبير الجمالى بلا قيود أو حدود، وكان الباعث الحقيقى وراء كل ذلك مظاهر الثورة الاجتماعية من النهوض بالتعليم وصعود المرأة وخروجها إلى العمل ومشاركتها فى الحياة العامة،.. وتحولات الأحداث السياسية المصيرية الكبرى. فى ذكرى رحيل ناصر الفن والخلود يلتقيان.. خاصة وقد تجسدت صورته فى ملامح ومواقف وآفاق وحالات درامية.. بين التجسيم والتسطيح وبين الكتلة المعلنة عن نفسها فى فن النحت وتألقه فى الفراغ.. و لوحة التصوير ذات البعدين. أسطورة النحت والوطن وإذا كانت الشرارة الأولى للإبداع التشكيلى المجسم أطلقها مثال مصر مختار من بداية القرن العشرين.. فيعد المثال جمال السجينى العلامة الثانية فى إبداع هذا الفن فن الأجداد.. وقد استلهم الطراز الإسلامى والعمارة الريفية الفطرية والفن الشعبى التلقائى فجاءت أعماله تجسد أسطورة النحت والوطن.. ومع منحوتاته الرمزية بقوتها التعبيرية.. أضاف إلى كل هذا تماثيل الأشخاص التى تعد ذروة من ذرى فنه كما فى تماثيل سيد درويش وأحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعبدالحليم وعلى إسماعيل وعلى ومصطفى أمين. ومن أبلغها تمثالا جمال عبدالناصر أحدهما بورتريه يشكل الرأس فقط على قاعدة وقد حمله على صغره الكثير من التعبير والانفعال.. والثانى تشكيل نحتى يحمل موضوعًا للزعيم. وينتمى تمثال «رأس ناصر» إلى اللمسة التكعيبية.. جسده بملامح من القوة والرصانة وقد تعمد تلك اللمسة التى اشتملت على تعدد السطوح الهندسية من أجل إبراز جانب التحدى والصلابة فى الشخصية. أما التمثال الثانى للسجينى فيجسد جمال فتيا فارها عريض الصدر فى رداء بسيط وهو زعيم الشعب.. جسده فى صحبة ثلاثة شخوص.. يمثلون القوة الكامنة فى العلم والزراعة والصناعة وبينما يتقدمهم العامل حاملا وردة يهديها للرئيس.. يبدو الثلاثة فى صف واحد متحلقين حوله من الجانب الأيمن.. والملاحظ هنا قوة التعبير الرمزى الذى يبدو من تضاؤل الشخوص الثلاثة بالنسبة للزعيم تأكيدًا على الإجماع الشعبى. وكثيرًا ما غنت ريشة الفنان «حامد عويس» للعمال والفلاحين مع أعماله الوطنية.. وجاءت لوحته «تأميم قناة السويس» عام 1957 احتفاء بهذا الحدث التاريخى.يظهر فيها الزعيم «جمال عبدالناصر» وسط أبناء الشعب المصرى بكل طبقاته معلنا فى خطابه التاريخى تأميم القناة، وقد أصبحت مصرية كما حفرت بأيدٍ مصرية ويبدو فى الخلفية جزء من سفينة ومساحة زرقاء من المياه.. والعمل يوضح فرحة الشعب المصرى بتأميم القناة والتخلص من سيطرة الاستعمار الإنجليزى.. وهذا يبدو من الحركة الدائرية للجموع التى تلتف حول زعيمها. الجزار وإنسان السد عاش الجزار مرحلته الثالثة فى عالمه «بعد الطقوس الشعبية والفضاء «بتعبير أستاذه حسين أمين»: ورأى مواكب أخرى.. رأى مرحلة تحقيق الحلم.. مرحلة إحداث ثورة يوليو سنة 1952.. من مواكب النصر ومواكب العلم فى الجامعة ومواكب العمال تسير نحو المصنع وفى السد العالى.. فأخرج إنتاجًا خالدًا رزينا رائعا يمثل انفعالاته تجاه الأحداث فى عصر العلم جاء فى لوحات خالدة». وكان عالمه.. عالماً داخلياً ينتمى إلى السيريالية الشعبية أو عالم الإنسان المصرى الشعبى بما يحمل من مكنونات وكوامن.. وفى اتجاه آخر يجنح إلى الخيال ويمزج الحلم بالواقع. ومن بين روائعه فى التصوير لوحة «السد العالى - 1964» والتى تبلغ قمة كبيرة فى الفن المصرى المعاصر ببلاغتها الرمزية.. يبدو فيها إنسان السد شامخا بعيون متطلعة، تستطيل رقبته التى تتحول فيها الأوردة والشرايين إلى دنيا ميكانيكية من الصواميل والعدد والتراكيب الهندسية محفوفة بصور النهضة ورموز العلم الحديث والتوثب نحو واقع جديد.. واقع الحلم الذى بدأ فى التحقق.. وفى الحقيقة يرى المتأمل للصورة تلك الصرحية وهذا الجلال.. فيها من روح ناصر مع ما تحمل من عناصر وتفاصيل.. وهى تكمل مشهدا ملحميا للإنسان المصرى صانع معجزة السد. ركويل مصور الزعماء يعد الفنان الأمريكى نورمان ركويل «1897-1976» أشهر رسام «اليستريشن» أو فن الصور التوضيحية المطبوعة فى العالم.. وهو يلقب بفنان الشعب الأمريكى.. وكانت أعماله تنشر على أغلفة المجلات الأمريكية الشهيرة مثل «ساترداى ايفيننج بوست» و«لوك» وتنقل بترتيب خاص مع مجلات أوروبا.. بمعنى آخر أعماله ليست لوحات متحفية، ولكن تنشر بالملايين فى العديد من الطبعات. ومع لوحاته ذات الطابع الإنسانى التى تجسد صورا من الحياة اليومية برع روكويل فى رسم قادة وزعماء العالم مثل نهرو وكيندى ونيكسون وأيزنهاور.. وقد جاء خصيصاً إلى مصر والتقى بالرئيس جمال عبدالناصر ورسمه من الطبيعة عام 63 وظهرت اللوحة فى مجلة «ساترداى بوست فى عدد 25 من مايو من نفس العام بعنوان «جمال عبدالناصر ومصر» وجاء المقال داخل المجلة بعنوان «عالم عبدالناصر المتقلب» هكذا جاءت النظرة الغربية!.. وقد صور روكويل الحضور الشديد للزعيم بوجه مشرق.. ونظرة متطلعة تحلق خارج اللوحة على خلفية من الأصفر البرتقالى مع عناصر ورموز معمارية من الحضارة المصرية كالأهرامات وطيور الجداريت الفرعونية والكنائس والمساجد بلمسته الحديثة وحيوية سطوحه. تقول وجهة النظر الأمريكية حول اللوحة وجمال الزعيم وروكويل الفنان: كان ناصر المصرى شخصية محورية فى السياسة العالمية منذ أن أصبح رئيسًا فى عام 1954. عرف أنه رجل وسيم وأصر على رؤية أمامية بابتسامة.. وكان روكويل مصرا على صورة الملف الشخصى «يقصد أن تكون أمامية».. كان الفنان سيشعره بالطريقة التى يتمناها ويبدأ فى الرسم ورغم هذا كان ناصر يستدير ويومض بتلك الابتسامة الكبيرة مرة أخرى.. من الواضح أن نورمان كان يتعامل مع شخصية عالمية قوية وليس شخصًا يتخبط معه. وجاءت الصورة بروح ناصر ولمسة روكويل! ناصر وفن البوب فن البوب أو فن الجماهير يعد أحد الفنون التى ظهرت بقوة فى الثلث الأخير من القرن العشرين وهو يهتم بثقافة رجل الشارع فى الحياة اليومية مع تلك الرموز التى تحدد ثقافته وتطلعاته فى البيت والسوبر ماركت ومحطة البنزين والقطار مع الشغف بتلك النجوم التى يجمع عليها الناس.. والفنان المصرى «افيدسيان» 1951-2018 وهو من أصل أرمينى.. ولد بالقاهرة وعاش بجنوب الوادى.. ودرس الفن بمونتريال.. تنتمى أعماله بفصاحتها وقوتها التعبيرية لفن البوب.. وقد صور نجوم الزمن الجميل من الخمسينيات والستينيات والسيعينيات من نجوم الطرب والسينما والمسرح مثل ليلى مراد وأنور وجدى وتحية كاريوكا وأسمهان وكوكب الشرق أم كلثوم وهو يمزج الكتابات والنقوش والورود والأيقونات الصغيرة بوسائط عديدة.. وقد جعل جمال عبدالناصريتأ لق كبطل شعبى فى أعماله.. صوره فى إحدى لوحاته برداء أسود أنيق ونظارة شمسية محفوفًا بالأعلام التى تتطاير والنسور التى تطبع الفضاء التصويرى بالطابع الرسمى مع كلمة «الرئيس» وبعض الحروف الإنجليزية السابحة فى الخلفية البيج.. ومع كل هذا تتألق الصورة بشخصية جمال تفرض هيمنتها ببساطة شعبيتها وحضورها الشديد. وفى لوحة أخرى يصوره.. يواجه الأنواء من القوى المضادة فى الداخل والخارج.. يحمل منظارا يستطلع من خلاله آفاق المستقبل فى فضاء ملبد بغيمات كاسحة من الطيارات والنسور التى تمثل شعار الوطن ونقرأ فى تكرارية على سطح اللوحة «الصمود العربى» وسط الأعلام الحمراء رمزا للحرية.. ويبدو الزعيم حزينا مهموما يستطلع الأمل من خلال المنظار. هكذا يصور أفيدسيان حبه للزعيم ناصر.. بلغة «البوب آرت» الذى يستمد قوته من نبض الجماهير. محمد صبرى واللحن الأخير مع ملاحم فنان الباستيل محمد صبرى للقاهرة الفاطمية صورها فى أكثر من 200 لوحة من الأزهر والأقمر والمسجد الأزرق والأسبلة والوكالات والخانات بالباستيل.. له العديد من الأعمال الوطنية والتاريخية التى تسجل تلك الأحداث الوطنية والمصيرية لمصر والأمة العربية. وقد سجل خطاب السلام الذى ألقاه الرئيس جمال عبدالناصر 1961 بمقر الأممالمتحدة أمام رؤساء العالم وهى لوحة صرحية «زيت على قماش 240× 175».. ويبدو فى اللوحة النظرة المتطلعة لقادة العالم وتعبيرات الوجوه بما تحمل من ترقب أثناء استماع الخطاب. وجاء اجتماع القمة العربية الذى دعا إليه الرئيس عبدالناصر وعقد بالقاهرة من السادس إلى الثامن والعشرين من سبتمبر من عام 1970 لإيقاف الأحداث الدامية بين الأردن والمنظمات الفلسطينية.. وبعد توديعه للقادة العرب داهمته أزمة قلبية وتوقف الجسد الذى كان ينبض بحب الوطن. ولم ينس الفن تلك اللحظات الحاسمة قبل رحيله حين جسد الفنان محمد صبرى اجتماع الرؤساء والملوك ورأسه الزعيم الخالد وسجل فيه اتفاقية القاهرة من أجل فلسطين فى لوحة متسعة «240 سم × 150سم».. واللوحة تصور الرئيس يوقع وثيقة الاتفاق وفى الخلفية لوحة يبدو فيها المسجد الأقصى والمزارات التاريخية للقدس وفى مقدمتها تجسيد درامى.. مأساة شعب بأبنائه من رجال ونساء وأطفال. من لحظة الحزن العظيم برحيل ناصر.. يظل ماثلًا فى الوجدان وخالدًا فى الفن والزمن.