تسعة وأربعون عاما مرت على رحيل «جمال عبدالناصر»، لكنه يظل باقيا فى وجدان من أعطى لهم عمره، هؤلاء الذين لم يتخلفوا يوما عن زيارته بالورود فى كل مناسبة ارتبطت به «ذكرى ميلاده عيد الثورة يوم الرحيل». يأتون إليه حاملين الزهور والحلم من كل الأعمار والطبقات والبلدان، لا يتخلفون عن موعدهم معه. يا حبيب الملايين هؤلاء الذين لم يتخلفوا عن مواعيدهم معه، ولم يتوقفوا عن الحلم، هم مكونات السبيكة الإنسانية التى خرجت فى ذلك اليوم، يوم 28 ديسمبر عام 1970، خرجوا لوداع الزعيم والأب والقائد.. خرجوا تدفعهم لحظة فزع ولوعة، فقد زلزل الخبر المشئوم الأرض تحت أقدامهم، خرجوا فى جنازة هى الأكبر على الإطلاق، فلم يشهد القرن العشرين جنازة بهذا الحجم والحشد، وقد قدرت من خمسة إلى سبعة مليون مواطن.. هرعوا سيرا على الأقدام من بيوتهم من أحياء القاهرة القريبة والبعيدة حتى ميدان التحرير، جاءوا من المحافظات على أسطح القطارات والأتوبيسات العامة، كان السواد هو اللون الوحيد فى حياة المصريين. كانت الصدمة فوق طاقة التحمل أو القبول بها.. ملحمة الوداع التى أطلقت الترنيمة العفوية التى ما زلنا نرددها: «الوداع يا جمال يا حبيب الملايين ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين» رددها الواقفون على أعمدة الإنارة والكبارى وسقالات المبانى كانوا جميعا النساء والرجال الشيوخ والشباب، كلهم كانوا يصرخون صرخات الوجع من الفقد، وعرفوا معنى «كسرة الضهر». . ما زلنا نشاهد الجنازة التى صورها اثنا عشر مخرجا كما جاء فى حوار مع المخرج على عبدالخالق، وقد شارك هو فى تصويرها من فوق كوبرى العباسية، بالحى الذى شهد سبع حالات انتحار لم يقو من أقدم عليها على تحمل صدمة فقد «جمال». وما زلنا نعيش وجع الفقد ونحن نشاهد الجنازة على شاشة التليفزيون والسينما. العالم يبكى عبدالناصر كالحريق أمسك الحزن والهلع بالشعوب التى كانت تحلم بالحرية وبالعدل، الشعوب التى كان «جمال عبدالناصر» هو الزعيم الملهم بالنسبة لها، الشعوب والدول التى قدم لها عبدالناصر الدعم والمساندة فى معاركها مع الاستعمار، من أجل حقها فى التحرر الوطنى.. الدول التى جاء زعماؤها لإلقاء نظرة الوداع على الزعيم ورفيق معركة النضال هنا نذكر قول الرئيس الفنزويلى الراحل هوجو شافيز: «أنا تربيت على مبادئ عبدالناصر» ونذكر أيضا أن صورته معلقة فى بيوت الفلاحين فى كوبا مع جيفارا.. وفى الوطن العربى خرجت الجنازات الرمزية، تحمل على الأكتاف هم وثقل الأيام القادمة بدون «عبدالناصر»، فى عالم تتربص به الأخطار من كل جانب، حملوا على الأكتاف الهم والهلع الذى ترتجف له القلوب، فقد سقط كما قالوا «عمود الخيمة العربية»، رحل وكان آخر ما قام به وقف نزيف الدم العربى على أرض عربية، فى أيلول الأسود، رحل بعد أن أنهى أعمال القمة العربية وأتم المصالحة «الأردنية الفلسطينية»، رحل بعد أن عصم الدم العربى. و«فاض نهر الدموع من الماء إلى الماء» أى من الخليج إلى المحيط. مات عدوهم الأول كان ناصر يعرف أنه العدو الأول فى المنطقة لإسرائيل وأمريكا، وبقايا الدول الاستعمارية القديمة وعملائهم من الرجعية العربية: «لن يتركونى أبدا، ونهايتى إما مقتولا، أو سجينا، أو فى مقابر الغفير».. لذا ورغم أنه مات واقفا ولم ينالوا منه، إلا أن خبر وفاته كان فرحا بالنسبة لهم، فقال ديفيد بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل وأول رئيس وزراء لها عندما بلغه الخبر: «كان لليهود عدوان تاريخيان هما فرعون فى القديم، وهتلر فى الحديث، ولكن عبدالناصر فاق الاثنين معا فى عدائه لنا، لقد خضنا الحروب من أجل التخلص منه حتى أتى الموت وخلصنا منه».. و قال «حاييم بارليف» رئيس أركان الجيش الإسرائيلى، والمسمى باسمه، والذى دمره جنودنا فى أكتوبر عام 73 : « جمال عبدالناصر ألد أعدائنا وأكثرهم خطورة على دولتنا، وموته عيد لكل يهودى». وقال مناحم بيجن: «بوفاة عبدالناصر أصبح المستقبل مشرقا أمام إسرائيل وعاد العرب فرقاء كما كانوا وسيظلون باختفاء شخصيته الكاريزمية». المناضل العنيد نعم هو المناضل العنيد كما وصفه «فالتر أولبرشت» رئيس ألمانيا الديمقراطية فى ذلك الوقت قائلا: «سنظل نذكر بإجلال صديقنا العزيز الرئيس جمال عبدالناصر بطل الشعب المصرى والمناضل العنيد ضد الإمبريالية». وقال « يوثانت» السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك» إن الرئيس عبدالناصر بوصفه زعيما للشعب المصرى وبوصفه شخصية مرموقة فى الشرق الأوسط وفى العالم قد ساهم بدور تاريخى فى الأحداث التى شهدتها المنطقة، التى عاش فيها طوال العشرين عاما الماضية». وقالت «أنديرا غاندى» إن التاريخ سيسجل للرئيس جمال عبدالناصر مساهمته الفريدة فى بعث الشعب العربى وستظل ذكراه خالدة فى الهند وفى كل مكان فى العالم، حارب فيه الناس من أجل حريتهم وذلك باعتباره قائدا عظيما وسياسيا يتسم بالشجاعة والحكمة. هذه مجرد سطور مما قيل فى رثاء الزعيم، فلا تتسع المساحة لذكر كل ما قيل عنه وعن مشاعر الفقد والفجيعة فى العالم الحر. قال عن الشعب المصرى قالوا عنه، فماذا قال هو عن الشعب المصرى: «إن الشعب دائما أبقى وأخلد من أى قائد مهما بلغ إسهامه فى تقدم أمته. الشعب العظيم أعطانى من تقديره الكثير، ولقد قدمت له عمرى لكنه أعطانى أكثر من عمر أى إنسان».