ربما تكون قد سمعت باسم أحمد حسنين باشا.. ربما فهو كان رئيس ديوان جلالة الملك فاروق ربما «آخر ملوك أسرة محمد على الذى خلعته ثورة 1952» منذ سنة 1940 إلى 1946، حيث توفى فى حادث سيارة وهو فى السابعة والخمسين من العمر. . وهذه السنوات الست، هى أهم سنوات حكم فاروق، التى استمرت خمسة عشر عاما، منذ توليه العرش فى 1937، حتى قيام الثورة. وكان أكثر الحاشية المحيطة بالملك، نفوذا وتأثيرا عليه. بل أحد واضعى سياسة الملك. وفى الوقت نفسه، كان اكثر ساسة المرحلة السابقة على الثورة غموضا، واختفاء وراء أسوار القصر، فلا هو عضو فى حزب ولا خطيب فى حشد ولا وزير عرضة للمحاسبة. وقد التصقت به صفة «الرجل الغامض» طوال عمله الوظيفي. وغذى هو هذا الوصف بسلوكه وبعده عن الأضواء. بل تكراره المستمر أمام أصدقائه ومعارفه وزواره، أنه ليس سياسيا، ولا يفهم فى السياسة. وهذا الذى «لا يفهم السياسة» كان كل المراقبين والمشاركين فى الساحة السياسية وممثلى التيارات السياسية الثلاث آنذاك، هم ممثلو الاحتلال الإنجليزى والقصر، وحزب الوفد الذى يقف الشعب والحركة الوطنية وراءه، يعلمون جيدا أنه ليس فقط أحد أهم مهندسى سياسة القصر، ولكنه هو الذى يختار رؤساء الوزارات أو يقيلهم أحيانا، بل له اليد الطولى فى كل المناصب العليا فى مؤسسات الدولة. ونحن أبناء الجيل، الذى لحق طرفا من عصر ما قبل 1952، كنا نسمع باسم أحمد حسنين. «وكيف لا يسمع المهتمون والمراقبون باسم رئيس ديوان جلالة الملك!». ولكن لا يعرف أحد عنه الكثير كبقية السياسيين، الذين يملأون الفضاء ضجيجا وخطبا وتصريحات. كنا نعرف أنه أهم شخصيات القصر الملكى، وليس أكثر من ذلك. وقد التصقت به «الرجل الغامض» أثناء حياته، وبعد غيابه وحتى بعد أن انتهى العصر كله وأصبح ماضيا فى ذمة التاريخ. وهو لم يدخل القصر على عهد فاروق فقط، ولكنه دخل القصر على عهد والده الملك فؤاد، أمينا ثانيا بالقصر سنة 1925، ومنذ ذلك التاريخ وهو يقوم بمسئولياته، إلى آخر يوم فى حياته. وحين رأى المندوب السامى، أنه آن الأوان أن يسافر ولى العهد إلى إنجلترا ، ليتابع تعليمه. وكان هدفه أن يتشرب الثقافة الإنجليزية والروح الإنجليزية، بحيث حين يخلف والده، لا يكونون فى حاجة إلى جهود كبيرة، لكسبه إلى صفهم وتنبيه لمصالحهم . وناقش الفكرة مع الملك فؤاد التى وافق عليها بحماس ثم اقترح عليه اسم أحمد حسنين، ليسافر معه «رائد ا» له، أى المرشد أو ولى الأمر المسئول عن متابعة الشاب وتبصيره ورعايته ، وتحمس الملك الأب للترشيح، وأضاف له عزيز المصرى إلى جانب أحمد حسنين، لما يتميز به من انضباط وصرامة. وسافر ولى العهد وهو فى الخامسة عشر من عمره إلى إنجلترا لمتابعة الدراسة. ولكن تشاء الأقدار أنه بعد مرور سنة، أى فى سنة 1936، يموت الملك فؤاد. فيقطع الابن الدراسة ويعود إلى الوطن. وكان أحمد حسنين وعزيز المصرى قد اختلفا حول أسلوب تربية الشاب، إذ اتهم عزيز المصرى زميله حسنين بتدليل الصغير بل وإفساده. ولكن أحمد حسنين انتصر، فعاد عزيز المصرى بعد ستة شهور. وبعد عام من وفاة الأب، أى فى سنة 1937، تولى الصغير العرش وهو فى الثامنة عشر، دون أن يتلقى تعليما يذكر. وقد دارت مناقشات فى الأسرة المالكة والوصاة على العرش، حول ضرورة عودة الصغير إلى إنجلترا لإكمال تعليمه، ولكنًّ فريقا آخر كان على رأسه الملكة نازلى رأت أن يتولى الحكم، دون إكمال التعليم، حيث خافت من تطلعات الوصى للاستحواذ على العرش. وبعد ثلاث سنوات من توليه الحكم، أى فى سنة 1940 اختار أحمد حسنين رئيسا للديوان. ولم يكن قبل ذلك بعيدا عن الهمس فى أذن الملك، وإسداء النصح له، بل إن ثقة الملك به توطدت أكثر. وكان هو وعلى ماهر ألصق اثنين به، بل إن بعض المراقبين يعزون إليهما إفساد الملك وتحريضه على حزب الوفد حزب الحركة الوطنية. وتغذية الميول الاستبدادية والانفراد بالسلطة فى نفسه. وإن كانت الأيام أثبتت أن الأمور لم تكن على هذا النحو، فلم يكن فاروق غرًّا ولا كان الاثنان «اللذان كانا يتنافسان بضراوة على ثقة فاروق وقلبه» قادرين على احتوائه تماما. فيومًا بعد يوم أسفر عن قدرات وطموح بل ونجح فى الإمساك بدفة السلطة. وأصبح رقما بين القوتين الأخريين الوفد والإنجليز. وقد وقع فى يدى منذ وقت قريب، كتاب بعنوان «أحمد حسنين ودوره فى السياسة المصرية من 1940 إلى 1946» للدكتورة ماجدة حمود الاستاذ بقسم التاريخ بكلية البنات. ويبدو أن الكتاب فى الأصل هو رسالتها لدرجة الدكتوراه. وشاقنى الموضوع الذى اقتحمته الباحثة، فها هو رجل تلفح بالغموض، وكَمُنَ وراء ستار، تسعى باحثة أن تجلو هذا الغموض، وتنقب فى تاريخ حياته وتطوره وأسلوب عمله، وكيف تسنى له أن يلعب هذا الدور الكبير، وما هى أهدافه وطموحاته ومنجزاته. إنها محاولة جسورة لوضعه أمام محكمة التاريخ.. وهى تقول : تتناول هذه الدراسة مسحا شاملا لشخصية أحمد حسنين من جميع النواحى : أصوله وتعليمه وثقافته ونشاطه الاجتماعى وحياته الخاصة وزواجه من الملكة نازلى، الذى أثر ولا شك على حياته العامة، مرورا بروح المغامرة المتمثلة فى حسنين الرحالة. وقد كان الرجل يقيم الوزارات ويشكلها من خلال مركزه القوى فى القصر الملكى، حيث يحرك الأحداث من وراء الستار، دون أن يظهر بمظهر العارف بكل عناصر الخريطة السياسية، بل إنه يؤكد دوما أنه لا يفهم شيئا فى السياسة. وقد استطاع بمقدرته الفذة التى وضعها فى خدمة القصر الملكى، نقل السلطة من يد الشعب إلى يد القصر، حيث عمل باستمرار على إكساب الملك مظهر الشعبية، على حساب حزب الأغلبية، وأشعل حدة الصراع بين القصر والوفد إبان وزارة الوفد فى 4 فبراير 1942، حتى نجح فى إقالتها. ولكن من جانب آخر واجهتها صعوبة ندرة المادة العلمية الخاصة بأحمد حسنين فى الدوريات على وجه الخصوص، والتى تتبعتها منذ دخول القصر الملكى على عهد الملك فؤاد، دون أن تظفر بمادة علمية مهمة، كما أن الشخصية لم تترك لنا مذكرات خاصة، وإن كانت قد عوضت – كما تقول – بعضا من ذلك، بالوثائق البريطانية التى أظهرت كثيرا الدور الذى لعبه حسنين، كما أثارت كثيرا من الجوانب الغامضة ! ورغم كل هذه الصعوبات التى واجهت الباحثة – عن حق – فإنها فى النهاية حققت الهدف، إلى درجة كبيرة، فقد رفعت عباءة الغموض التى كان يتلفح بها. وكشفت لنا عن وجهه، وألقت أنوارا بددت الظلام الذى أحاط بها نفسه. وأصبحنا نعرف الكثير عنه، ويمكن تقييم دوره، والإحاطة بملامح شخصيته. وفى مذكرات الكاتب الكبير محمد زكى عبدالقادر عن الفترة التى أعقبت تخرجه فى كلية الحقوق سنة 1926، وبدايات دخوله ساحة العمل والصحافة. والتى قدم فيها صورة حية، عن الحياة السياسية والصحفية، عن هذه المرحلة ورموزها وتياراتها، حتى قيام ثورة 1952، فإننى أتذكر جيدا توصيفه لشخص أحمد حسنين، وبدا لى دقيقا جدا، وقد استعانت به الباحثة. فقد كتب: أحمد حسنين رجل تمرس بحياة القصور، وما يحيط بها من دسائس ومعارك، ووعى كل شيء من هذه الناحية، أراد بذلك أن يلعب دوره بمهارة. فقد أدرك منذ اللحظات الأولى التبعات الثقيلة التى ألقيت على عاتقه وأدرك أنه أصبح أقوى رجل فى القصر وربما فى مصر، وأن وجود قوة شعبية لا تكرهه – يقصد حزب الوفد – ولكن من الممكن أن تكرهه فى أى وقت. ولا يمكن السكوت عليه. ولا بد من التمهيد للقضاء عليه. وهذا التحليل الدقيق، يجد تفسيرا له بين صفحات الكتاب بالوقائع والأحداث والسياسات التى وضعها وكيف طبقها والنتائج التى توصل إليها والنجاحات التى حققها. وأين كانت تصب ؟ فإذا كانت المصادر بين يديها عنه قليلة، فإن مراجعتها لدوريات أخبار اليوم وآخر ساعة وآخر لحظة والأهرام والبلاغ والاثنين والجمهور المصرى والجمهورية والدستور والمصرى والمصور والمقطم والوفد المصرى وروزاليوسف، جعلها تتعرف على أصابع أحمد حسنين وتضع يدها على أهم وأخطر ما قام به. وعشرات من الوقائع التى ذكرتها فى عشرات الصفحات، كانت اليد المجهولة خلفها هى يد أحمد حسنين. فأهم ما قام به رئيس الديوان خلال هذه السنوات الست، أنه بنى صورة للملك وسط المواطنين، تجعل منه ملكا صالحا يسهر على مصالح شعبه ويرعى الفقراء ولا يفكر إلا فى مستقبل وطنه. ونجح فى صناعة هذه الصورة، بقليل من الحقائق وكثير من التزويق والأونطة ولكنه فى النهاية نجح فى تصدير الصورة إلى قلوب الناس. وهدفه أن يجعل الملك منافسا لحزب الوفد فى الشعبية والتفاف القلوب حوله، وبالفعل أصبح القصر منافسا لحزب الوفد فى الشعبية. ومنذ اليوم الأول لوفاة الملك فؤاد، فإن حسنين سرب أن فاروق غير أبيه، وقد كان فؤاد مكروها، ولكن فاروق تقى صالح يفعل كل ما يعود على وطنه ومواطنيه بالخير. ليس المهم أن تكون الصورة حقيقية. ولكن المهم أن تخلق الاقتناع. أنه هو الذى اقترح على الملك، أن يصلى الجمعة كل مرة فى أحد المساجد، وأن يكون تحركه وصلاته أمام الكاميرات وتحت أعين الإعلام، ومحاطة بالتهليل والتكبير، ليصل معنى أنه شخصية متدينة، مما يدفع الجماهير أن تدين له بالحب والولاء. وتردد كثيرا ما يشير إلى الملك الصالح، المتدين، العامل، الذى يعطى الفقراء، ويقيم المآدب للفقراء. وابتكر له يوم العلم والشباب حيث يلتقى الملك بالمتفوقين من كل المدارس فى داخل القصر ولم يكن هذا هو الابتكار الوحيد. وينشر ويلح فى النشر، أن الملك يحب زيارة الأحياء الفقيرة، من أجل الاندماج مع سكانها ومعرفة أحوالهم بنفسه. ويتفنن فى هذا النشر، فنقرأ كيف أن رئيس الديوان يتعجب عندما يعرف أن الملك يدفع مصاريف المدرسة لابن أحد الفقراء، بل يأمر أن يكون تعليمه على نفقته الخاصة، وفى السر. وحين يعرف رئيس الديوان ويقول هذا للملك، ينزعج ويصيح، مين قال لك ؟ وهذا التزوير والاختلاق تقرأه فى مجلة آخر ساعة. بل يصبح المرء مضحكا حين نقرأ ، أن الملك كان يمشى يوما فى أحد الأحياء الشعبية، وسأل رجلا من المارة عن شارع مين، فقط من أجل أن يمشى معه ويتبسط فى الحديث. ونقرأ توصيفا للملك، بأنه «العالم الأول» الذى يحب القراءة، ويعلق ويطلع على أحدث المخترعات، وقد ورث هذا عن والده، فإنه ما من مجلة علمية إلا وقرأها الملك. إن النغمة التى تتكرر أن شخصية الملك تفيض بالتقوى والوطنية والديمقراطية، فهو يطلع على الشكاوى بنفسه ويفتح قصره للجميع، ويأمر بعلاج الفقراء على نفقته الخاصة، ويشجع الأميرات على شراء المنتجات المصرية. وقد كانت معركة الوفد – حزب الحركة الوطنية – هى المحافظة على الدستور، وتطبيق معاهدة 1936. ومن أهم ما ترتب عليها أن الملك يملك ولا يحكم. واعتبر الوفد أن دفاعه عن الديمقراطية يساوى مطالبته بالخلاص من الاحتلال، فالهدفان مرتبطان. ولكن الملك الشاب يهدف إلى الانفراد بالسلطة، وتحجيم الوفد مستعينا بالإنجليز. وتنبهت الباحثة، أن الإنجليز فى هذا الصراع، لم يكن يهمهم نتيجة هذا الصراع، فكل ما يهمهم هو المحافظة على مصالحهم ونفوذهم فى مصر. ولذلك تقول أنهم لم يكونوا يقفون مع أحد من الطرفين، عندما يحدث خلاف، وإنما يظلون بعيدا. والذى كان يضبط هذا الصراع بيقظة ودهاء ومثابرة لصالح الملك هوأحمد حسنين، فهو كان يوقف الملك عند أى لمحة خلاف مع الإنجليز، شارحا للملك أن الإنجليز هم الذين يحمون عرشه. ونجح فى رسم صورة للملك، أنه وطنى وديمقراطى، ويفتح قصره للجميع حكومة ومعارضة. بينما هذا الشاب الذى يعتمدعلى الإنجليز ونفوذ القصر، كان أول من ضرب معولا فى الدستور والديمقراطية، بإقالته حكومة النحاس سنة 1937. وكان إضعاف الوفد، وزيادة شعبية الملك على شعبية الوفد هى الهدف الذى يخطط له رئيس الديوان بخبث وإصرار. بينما هو لا يكف عن الإعلان أنه لا يتدخل فى السياسة وأن كل الأحزاب أمامه وطنيون ويعملون من أجل الوطن. بل إنه نجح فى إقناع الوفد بهذا، فهو أحد الذين رحبوا بتعيينه فى القصر. وأهم ضربة وجهها للوفد كانت بناء علاقة مع مكرم عبيد، وراء ظهر النحاس، تحت ستار أنه رسول العلاقة بينه وبين رئيس الوفد. ولكنه رويدا رويدا كسبه إلى صفه وقدمه إلى الملك. بل فى نهاية الأمر جعله يتحدى النحاس ويكتب الكتاب الأسود، الذى ساعد على طبعه ونشره والاحتفاظ به فى قصر عابدين، بعيدا عن أجهزة الأمن، هو أحمد حسنين. وفى الوقت نفسه كان يختار للحكومة، أحزاب الأقلية، إبعادا للوفد، بل إنه جعلهم يتملقونه وينتظرون ترشيحه له. وأصبح تلويحه لهم بالوزارة، هو «قطعة الجبن» التى يتحلب ريقهم لها، كما قال الملك، الذى ضحك لهذا التعبير واستخدمه. وبعد أن فرضت إنجلترا حكومة النحاس، على الملك سنة 1942، بسبب ظروف الحرب وضعف ثقتها فى الملك. لم يهدأ لحسنين بال حتى رتب الأوضاع لإقالة حكومة النحاس سنة 1944، بعد أن أقنع الملك أن هذا أنسب الوقت، لأن الإنجليز لن يتدخلوا كما كان الوضع سنة 1942. إن ولاءه للقصر هو المحرك الأول له وصداقته للإنجليز وتحالفهم معهم بما يحقق مصلحة الطرفين، القصر والإنجليز، هو الدافع القوى التالى له. ولكن البحث التاريخى، يبين أن الغموض ليس صفة لصيقة به. فمسيرة حياته واضحة. بل إنه كان حريصا أن يحصل على تعليم متميز وسافر لإنجلترا وقضى سنوات دراسته فى أوكسفورد حتى حصل على شهادتها وتمكن من اللغة الإنجليزية والثقافة الإنجليزية. واهتم بالرياضة البدنية ومارسها ودعا الشباب لعدم إهمالها وجعل نشرها من مهامه، حتى أصبح رئيسا للنادى الأهلي. وهوى الرحلات وخطط لعدة رحلات فى الصحراء وكتب عنها والتفتت هيئات عالمية إلى كشوفه بسبب هذه الرحلات ودعته لإلقاء محاضرات حولها. ومن أوائل الذين حاولوا تعلم الطيران بل واشترى طيارة تحطمت وأخرى تحطمت أيضا، مما عرضه لإفلاس بعد أن باع ميراثه من الأرض ولم يتوقف وكان يحلم بأن يكون أول مصرى يقود طائرة عائدا إلى وطنه. فهو طموح وجسور ومغامر ويهمه أن يكون شيئا أو يحقق شيئا. إن الغموض وسيلة لتنفيذ سياسته فى الولاء للقصر وتدعيم سلطته مقابل أى مناوأة له أو معارضة من أى جانب. ولم يكن يهمه أن يحقق مكسبا ماديا من أى نوع، من هذا الإسهام القليل فلم يعرف عنه شراهته للمال أو الاستحواذ على ثروة بل على العكس يصفه المقربون بالمسارعة إلى مساعدة الغير وبذل ما معه. إنه فى حقيقة الأمر، أحد الذين زينوا للملك، ضرب الحائط بالدستور، وتصفية أى معارضة، والاستبداد، والانفراد بالسلطة. إن سهامه لحزب الوفد الذى كان حرصه على تطبيق الدستور وتبنى الديمقراطية، يوازى كفاحه من أجل الجلاء لم تتوقف. وعندما انتصر الوفد على الملك فى محاولته أن يتم تنصيبه ملكا، فى القلعة حيث يتم تقليده سيف جده، أو فى الأزهر حيث يطبع سلطته بقوة وتأثير الدين وتصدى النحاس بقوة لكلا الاقتراحين، مصمما أن يكون القسم أمام نواب الشعب ولم ينس حسنين للوفد هذه الوقفة. وجعل من مهامه إبعاد الوفد عن الساحة، باستدعاء ممثلى أحزاب الأقلية وتزوير الانتخابات، واختراع مجالس غير منتخبة بنزاهة. وفى الوقت نفسه يزيد من رقعة استحواذ الملك على السلطة حتى هيمن على السياسة الخارجية والداخلية والعربية، فى سنوات قليلة. وإنما نتوقف عند ميزة هذا البحث التاريخى،هو تباين الحجم غير القليل الذى يعود إلى أحمد حسنين، ربما أكبر من على ماهر، فى تمكين الملك، مستعينا إلى حد غير قليل، بدعم الإنجليز حتى وصل الأمر به فى سنوات ولاية أحمد حسنين وبعد وفاته أن يكون هو الفاعل الرئيسي. إن المرء يعجب كيف استطاع أحمد حسنين بمهاراته ودهائه وذكائه، أن يقنع كل التيارات السياسية – بما فيها الوفد – أنه لا ينحاز إلى أحد وأنه يعمل للمصلحة العامة. وهو وراء الملك أن يكون قصره مفتوحا للجميع ويعمل على استقلال الوطن وإجلاء المحتل. ولكنه فى حقيقة الأمر، لم يكن يهمه إلا تدعيم سلطة الملك وإضعاف نفوذ الوفد والتحالف الوثيق مع الإنجليز. إنه ليس محايدا. إنه بكل قواه وراء الملك. ولكن بالتواء ومراوغة وخطوة خطوة. ومن هنا يبدو لى – كما نفهم من البحث – أنه أشد خطورة على ممثلى المصالح الوطنية والنهضة الوطنية والتقدم من كثيرين. إن عمله كله لمصلحة جانب واحد، ولكن بكثير من الدهاء والمراوغة. وإذا كان كل تاريخ فى حقيقته مرتبطا بالحاضر، وعينه على الواقع، فإن هذهالنتيجة التى توصلت إليها الباحثة، تفيدنا فى حياتنا المعاصرة. فإننا نطمح إلى بناء مؤسسات سياسية وحكم رشيد يضمن الاستقرار وتحقيق التقدم والتنمية ويستلهم قيم الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان وحكم القانون. وقد كانت النظم الديمقراطية هى المثل الأعلى، الذى تطمح إليه كل بلدان العالم منذ أن استقرت فى العالم الغربى، وصنعت تقدمه واستقراره ومجده، على مدى القرون الأخيرة. ولكن فى هذه المرحلة التى نعيشها، لم تعد الديمقراطية تحمل نفس القوة والقدرة على الإقناع، والتفاف الغالبية حولها وأصبحت تواجه بتحديات خطيرة، وفشلها فى كثير من المواقع. بل إنها أسلمت الراية فى بعض الأماكن لقوى لا تخفى إيمانها بالفاشية أو سعيها للفوضى مستخدمين سلم الديمقراطية، فقط للوصول إلى سدة الحكم. وهناك مظاهر كثيرة للاختلال الذى طعن الفكرة الديمقراطية فى الصميم، وكما ذكر أحد الباحثين الجادين فى مقال قريب له عن التحديات التى تضرب النظم الديمقراطية حاليا، وضرب مثلا بالحزبين الكبيرين فى بريطانيا «المحافظون والعمال» واللذين كان يمثلان إلى وقت قريب، أكبر المنظمات المدنية بالبلاد، والآن أصحبت عضويتهما مجتمعة أقل من عضوية الجمعية الملكية لحماية الطيور. طبعا، ليس معنى هذا أن البديل، هو الحكم الفاشى، وأن الديمقراطية فى فى سبيلها إلى الفشل. وحتى الآن فإن الأمل أن تتمكن النظم الديمقراطية من المراجعة والتصحيح. ونحن أبناء الدول التى تسعى إلى بناء حكم مستقر ورشيد وقادر على قيادة هذه البلدان إلى بر الأمان، فإن القيم الديمقراطية لا تزال ضرورية له، وفى مقدمتها غرس قيمة الحرية، حرية التعبير وحرية التفكير وحرية الإيمان، وحقوق الإنسان، والاحتكام إلى القانون.. ولكن لا تستطيع أن نغض البصر عن الثغرات الحالية التى كشفتها الممارسة. وإذا كانت النظم الديمقراطية قد كدست خبرات وتجارب وأساليب مراجعة، فنحن ما نزال فى أول الطريق. ولذلك لا يمكن أن ننسخ التجارب الديمقراطية. ولكن علينا أن نتمثلها ونطوعها لظروفنا وإمكانياتها، متنبهين إلى التحديات الماثلة أمامنا. وربما يكون من بين ما يجب أن ننتبه إليه، أن من أخطر العناصر التى يجب أن نحاصرها، هى أمثال أحمد حسنين باشا الذين لا يؤمنون ذرة بالديمقراطية وحكم الشعب، ولا يخفون أنهم مع المستبد والحاكم الفرد الذى لا يحاسبه أحد، يؤمنون بهذا ويعملون على تدعيمه وإطالة عمره. ولكن يظهرون على الناس بوجه باسم طيب مؤمن بحكم الشعب. إن التمسك بالشفافية والفصل بين السلطات وحكم القانون وحراسة هذه القيم بمشاركة عامة. هى الكفيل الذى يمنع تمكن الثعالب الصغيرة من احتلال أى مواقع، وممارسة أى نفوذ. من هنا أرى أن الدكتورة ماجدة، قد اسدت خدمة ليست قليلة، للتاريخ والحاضر والمستقبل.