ترانتينو لا يقدم التاريخ مرة أخرى. كما أنه يرفض مبدئيا أن يقوم بهذه المهمة التقليدية التى لا تتوافق بتاتا مع قدراته الإبداعية وطموحاته السينمائية.. ما قدمه هذا المخرج السينمائى الأمريكى فى فيلمه الجديد «حدث ذات مرة فى هوليوود» يشكل لوحة فسيفساء زمنية ومكانية وتذكارية وخيالية لهوليوود وهو ينظر إليها، ويتأملها كما كانت فى عام 1969 أو كما يريد أن يراها. الفيلم يبدأ ويدور وتتسلسل أحداثه فى هوليوود لوس أنجلوس عام 1969 من خلال حياة ممثل تليفزيونى اسمه ريك دالتون (ويمثله ليوناردو دى كابريو) أسهمه الفنية كانت آخذة فى الهبوط، وممثل بديل له يقوم بأدواره الخطرة اسمه كليف بوث (براد بيت). ويتابع الفيلم سعى الاثنان من أجل البقاء فى الأضواء وأداء الأدوار وضمان تدفق الأموال واستمرار حياة المتعة والشهرة فى زمن يتغير ويتبدل بسرعة. ونجد أيضًا جار «ريك دالتون» فى السكن المخرج البولندى الأصل رومان بولانسكى وزوجته شارون تيت (مارجو روبى) الشقراء الشابة التى كانت قد بدأت فى خطف أضواء الشهرة أو بدت كذلك. وفى مسار مواز لهوليوود وبريقها وتقلباتها نشاهد فى الفيلم ظهور تشارلز مانسون وجماعته المعروفة باسم العائلة مانسون فاميلى التى ارتكبت سرقات وأعمال عنف وقتل (تسع حالات خلال شهرى يوليو وأغسطس 1969) قام بها أعضاء وعضوات العائلة وكن أكثر عددًا وأغلبهم كانوا شابات عشن معه فى مزرعة مهجورة. كان مانسون بالنسبة لهن جوورو زعيم جماعة دينية يأمر فيطاع فى كل الأمور. ومانسون المجرم والسفاح (حسب ما تم وصفه أمنيًا وإعلاميًا) تم القبض عليه ومحاكمته وسجنه ومات فى 2017 وكان فى ال 83 من عمره. والفيلم تتطور مشاهده خلال الشهور الستة المؤدية لليلة 8 - 9 أغسطس حيث قامت مجموعة من أنصار جماعة مانسون بمهاجمة المنزل الذى كانت تقيم فيه شارون تيت (26 سنة) وكان زوجها رومان بولانسكى غائبًا. وقتل تيت الحامل فى الشهر الثامن. وتارانتينو فى هذا الفيلم لا يلتزم بالحقائق التاريخية وينهى الفيلم ليلة 8 - 9 أغسطس دون أن يقدم مقتل الممثلة الشقراء الشابة شارون تيت. لقد أعطى تارانتينو فى هذا الفيلم حياة جديدة لشارون تيت على الشاشة هكذا ذكر بعض النقاد. وتساءلوا كيف يمكن أن يحيى تارانتينو من جديد شخص امرأة اختفت من حياتنا بشكل تراجيدى. فى الفيلم يقدم المخرج المبدع ما وصف يوما ما ب«تخريفة» جميلة هى شاروت تيت كامرأة جذابة حقيقية كما أنها أيضًا لها حضورها المميز. أنها من لحم ودم. إلا أنها أيضًا فكرة. حسب كلماته فى حوار مع مجلة «تايم» الأمريكية: «كل هذه الأشياء القيمة والجميلة عنها أنا تعلمتها من حواراتى مع أشخاص كانوا يعرفونها جيدًا وعن قرب ومنهم أختها ديبرا». إذا كان ترانتينو له شطحاته فيما هو معروف ومسجل ومؤرخ إلا أنه مدقق للغاية وحريص لأقصى درجة بتجسيد الحالة الذهنية والنفسية التى عاشها أهل هوليوود فى تلك الفترة. نعم، كانت هوليوود حينئذ الزمن الجميل أو بداية النهاية. فى كل الأحوال هذه الحالة المبهجة والحزينة معا التى يعيشها مشاهد الفيلم وينبهر بها صارت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ هوليوود وذاكرتنا. إنه تارانتينو.. المخرج المبهر والمحير ومع هذا الفيلم الجديد لتارانتينو يتأكد حضوره وتميزه وتأثيره فى عالم السينما. الفيلم حدث لا يمكن التردد فى التعليق عليه كما أن الفيلم مثير للجدل، وحديث لا مفر من تحوله إلى نقاش عام يتناول كافة الجوانب المكونة للفيلم، وأيضًا ما قاله، ولم يقله المخرج وبالطبع ما تثيره حيرة هوليوود فى تعاملها وتفاعلها مع الواقع والسينما. البعض من النقاد يرى أن هذا الفيلم الجديد مثل فيلمه الذى أخرجه عام 1997 باسم «جاكى براون» ملىء بالتعاطف تجاه شخصياته، وتجاه لوس أنجلوس. ويتفق مع هذا التوصيف ترانتينو قائلا: إنى كنت أشكل وأخلق لوس أنجلوس جديدًا من ذاكرتى. وأدرك أننى أتعامل مع بشر أكثر حزنًا. شخصيات كل من هذين الفيلمين يتعاملان مع فكرة الموت الحاضر والقادم. وأن الأيام لم تأت بما كانت تبغيه النفوس. وأن الماضى يحاصرهم وأن فى الوقت الحالى هناك أشياء توجد خلفهم أكثر من تواجدها أمامهم. كوينتن ترانتينو المخرج الذى أخرج حتى الآن تسعة أفلام (ربما يكون هذا الفيلم آخر أفلامه) إلا أن اسمه حفر بوضوح وبحروف كبيرة فى تاريخ السينما الأمريكية. عشاق السينما يحملون أفلامه فى ذاكرته. من منا يمكن أن ينسى Pulp Fiction. الفيلم الذى صار أسطورة وبصمة سينمائية. تارانتينو.. إنه سينما المؤلف المخرج الذى لا يريد الالتزام بالتسلسل الدرامى بل بالتصادم والتفاعل الدرامى (إذا جاز هذا التعبير).إنه صانع فيلم تتشابك فيه الشخصيات والأحداث، وقد ترى مشاهد قد شاهدته من قبل وتسمع عبارات بعينها من أفلام قديمة وخلفية غنائية موسيقية ليست غريبة على أذنك. ترانتينو هو سينما الصدمة والمفاجأة وربما السخرية القاسية مما هو منطقى وطبيعى والأمر الأهم فى سجله السينمائى كان وسيظل همه وسعيه وحرفنته فى إضفاء جمال للعنف وإسالة الدماء. سينما الإثارة والدهشة واللهث المتواصل من أجل ملاحقة أحداثه وأبطاله ووتيرة سير المشاهد بما تقوله وما ترمز إليه. إنه مخرج يقلقك ويهزك وأحيانًا يثير غضبك، وقد يطير النوم من عينيك إلا أنه ينبهك إلى شىء لم تكن تعرفه من قبل فى الدنيا التى تعيش فيها أو شىء بداخلك تراكم واختمر على مدى سنوات طويلة وأنت لا تعلم عنه. بدأ تاراتينو أفلامه فى بداية التسعينيات من القرن الماضى. أول فيلم له تأليفًا وإخراجًا كان Reservoir Dogs كلاب المستنقع. هذا المخرج (يبلغ من العمر 56 عامًا) لم يدرس السينما، وإن كان كما قال من قبل شاهد أفلامًا.. نعم شاهدها وعشقها وهضمها. وقد ذكر عنه بأنه عندما كان شابًا عمل فى محل لتأجير الفيديوهات لذلك أمضى ساعات طويلة فى مشاهدة الأفلام أكثر من مرة وحفظها صم حتى قيل عنه وأيضًا عن المخرج مارتن سكورسيزى بأن كل منهما لهما قدرة على تحديد اسم الفيلم وذكر معلومات عنه بمجرد مشاهدتهما للقطة أو لصورة من أى فيلم من الأفلام السينمائية الأمريكية. ترانتينو فى نظر بعض نقاد السينما استطاع أن يصل إلى أجيال مختلفة ويتواصل معها. وهو يتذكر فى حوار صحفى معه عما حدث لدى الأجيال الجديدة وهم يشاهدون أفلامه.. كان لديهم اهتمام بمعرفة كل اسم وكل شىء يأتى بذكره فى الفيلم وقد رآهم يلجأون لجوجل محرك البحث. وربما تكون الصدمة هذه المرة قوية مع هذا الفيلم على أساس أن شارون تيت فى الفيلم لم تقتل ليلة 8 أغسطس 1969 كما حدث تاريخيا وكما هو مكتوب ومذكور فى مواقع عديدة تصل إليها عبر محرك جوجل. إلا أنها عبقرية المبدع المخرج اللى عايز كده. هوليوود التى كانت فى هذا الفيلم ومدته 165 دقيقة ( ساعتان و45 دقيقة) نجد جمال التصوير والإخراج وإبهار التمثيل بلا شك مع دى كابريو وبيت وفى لحظات قصيرة للغاية ينضم إليهما آل باتشينو.. هذا بالطبع إضافة إلى الحضور المبهج والحالم لمارجو روبى. الفيلم يقدم المشهد الهوليوودى بتفاصيله العديدة والدقيقة فى عام 1969. المشهد الهوليوودى من استديوهات، وأماكن تصوير الأفلام ودور السينما ولقطات من المسلسلات التليفزيونية الشهيرة مرورًا إلى المطاعم والبارات وأضواء نيون الملونة بأسماء هذه الأماكن. بالإضافة إلى السيارات والأزياء والملابس وتصفيفات الشعر وبيوت نجوم وممثلى هوليوود. إنها هوليوود التى كانت.. هوليوود التى نتذكرها أو نريد أن نتذكرها بهذه الطريقة. هوليوود التى ذهب إليها ممثلون وممثلات (أو من يتصورون أو يدعون ذلك) من أجل الشهرة والمال ولكى يؤدوا أدوارًا فى أفلام.. ثم رأينا هذه الأدوار شكلت حياتهم وشكلت نظرتنا إليهم. ومع مرور الأيام شكلت أيضًا نظرتنا لدنيانا ولأنفسنا.