فى هذه الأيام من كل عام نستلهم روح ثورة يونيو فيونيو لم تكن عمل سياسى أطاح بقوى الظلام والفاشية الدينية من السلطة بل يونيو أعمق وأكثر شمولا من هذا عندما خرجت جماهير يونيو بالملايين الى شوراع وحارات ودروب مصر لم يكن هدفها فقط تخليص الأمة من ظلام الفاشية الدينية لكن كان خروجها لتحرير نفسها أولا من أستلاب وتغييب للعقل المصرى بأسم الدين أستمر لعقود طويلة وفق تدبير محكم شاركت فيه قوى من الداخل والخارج هناك من يرى فى يونيو أنها أدت ماعليها عندما أنهت الوجود السياسى لقوى الظلام والفاشية لكن الحقيقة أن يونيو هى أشارة البدأ فى طريق طويل أختارته الأمة المصرية بمحض أرادتها لأستعادة الهوية والوعى الغائب. التخلص من السلطة السياسية للفاشيست كان أمرأولى فى حركة جماهير يونيو وتحقق بعده أمر ثانى وهو أستعادة الدولة وفق مقاييس الحداثة ولاأحد يستطيع أغفال أن الأمر الثانى تحقق منه الكثير فى زمن قياسى لا يتجاوز السنوات الست. تحليل جذور يونيو سيرشدنا الى طبيعة الطريق الذى اختارته الأمة المصرية من أجل أستعادة هويتها فلم يكن هذا الخروج الهادر سببه الهدف المباشر فى التخلص من الفوضى وعبث قوى الظلام بل له جذور عميقة فى الوعى المصرى. تعرضت الأمة المصرية طوال تاريخها المديد الموغل فى القدم الى هجمات شرسة من الخارج من أجل السيطرة على مقدراتها وكان نصيب هذه الهجمات الأندحار الكامل ثم عودة الأمة المصرية لممارسة دورها الأنسانى من جديد. تتصور دائما القوى المهاجمة للأمة المصرية أنه يمكن فى سنوات أو حتى قرون أنهاء الدور أو المشروع المصرى ذو الأبعاد الأنسانية والتى على رأسها أقرار العدالة والنزاهة لمصلحة المجتمع البشرى. ترى هذه القوى العدوانية أن وجود المشروع المصرى الأنسانى يعطل مصالحها القائمة على الأستغلال والهيمنة على الشعوب ، يتعارض المشروع المصرى مع هذه النظرة الأستغلالية المهيمنة لسبب بسيط يرجع الى نشأة الأمة المصرية نفسها. يسبق وجود الأمة المصرية التاريخ ذاته لذلك فهى من صاغت أبجديات الضمير الأنسانى وأرتضت لنفسها قواعد منضبطة وثوابت لا تتغير بتغير طبيعة السلطة السياسية. أول هذه الضوابط وجود الدولة فالأمة المصرية هى من أبتكرت فكرة الدولة كألية تدير المجتمع البشرى ولم تنقطع هذه الألية عن مصر ألا لفترات وجيزة ومقارنة بعمر البشر وأزمنة الأمم فهذه الفترات تقاس بالثوانى فى عمرنا البشرى. لم ترى الأمة المصرية فى الفوضى حليف لها لكى تحقق أغراض أستغلالية أوهيمنة لقد كانت هذه الأمة عدو قاسى للفوضى ومحركيها عكس المشاريع الأخرى التى تجد فى أثارة الفوضى ثغرة رئيسة تنفذ منها لتحقيق أغراضها الشريرة. تستخدم الأمة المصرية القوة وفق مستوى ضميرى منضبط لا يعرف الأسراف أو العشوائية لذلك أرتبط نشوء الدولة المصرية مع ظهور الجيش المنظم الذى يمثل العمود الفقرى للدولة والذراع القوى للأمة فى أستعادة الدولة عند تعرضها للخطر وصد العدوان الخارجى. تستطيع الأمة المصرية حتى فى لحظة الوهن وتكالب القوى العدوانية عليها أن ترسل أشعاع مشروعها الحضارى الى كافة أرجاء الأنسانية دون مقابل تنتظره نتيجة لرسوخ ثوابتها. فشلت قوى العدوان فشلا ذريعا فى أنهاء عمل المشروع المصرى الحضارى.. كل ما نجحت فيه أنها فقط تعطل من أثره نتيجة للصراع الذى تخوضه الأمة المصرية ضدها ويمنعها عن أطلاق مشروعها بكامل طاقته لكن بمجرد أنتصار الأمة فى صراعها الأبدى مع قوى الشر يعود المشروع المصرى للعمل بكل قوة. مع بداية القرن الماضى بدأت الأمة المصرية تواجه صراع من نوع مختلف أكثر شراسة وخسة فالقوى العدوانية أدركت بوضوح أن المشروع المصرى لا يمكن وقف تمدده ألا بضرب المحركات الرئيسية التى يقوم عليها أو الثوابت الى ذكرناها سابقا. هذه الثوابت المصرية هى جينات الأمة التى نشأت بها وتستقر فى عمق الداخل المصرى لذا كان الحرب على هذا الداخل فى أشرس صراع شهدته مصر طوال تاريخها. أنطلق هذا الصراع السرطانى من أجل تحطيم مناعة الداخل المصرى وليس مبالغة وصف هذا الصراع بالسرطانى فقوى العدوان أستغلت أحدى مقومات الشخصية المصرية وهى الدين لكى تنفذ منه الخلايا المسرطنة لتدمر مناعة وهوية الأمة المصرية. تمثلت الخلايا المسرطنة فى جماعة الأخوان الفاشية وأذنابها من المتسلفة وتاريخيا تزامن هذا التسلل السرطانى الى الداخل المصرى مع بدايات القرن العشرين ليستفحل أمره ويزداد خطره بمرور العقود. تعرض هذا التوحش السرطانى الى ضربة قوية فى خمسينات وستينات القرن الماضى وظن الكثيرين أن المرض العضال قد زال لكن الحقيقة هو كان فى فترة كمون و بمجرد أنتهاء مد الحداثة عقب هزيمة 1967 عاد ليتوحش من جديد. كانت الكارثة مع بداية السبعينات فقد حصل هذا السرطان على دفعة من الداخل والخارج ليتغول ويصبح أكثر ضراوة وتنطلق الجماعة الفاشية وأذنابها المتسلفة ليلتهموا الهوية والعقل المصرى بلا رحمة تحت شعارات مزيفة بأسم الدين. بعد نهاية فترة السبيعنات تعايشت السلطة مع هذا السرطان الخبيث كأمر واقع وخدرت جسد الأمة بالمسكنات حتى تتحمل ألم هذا المرض اللعين. أذ كانت دفعة السبعينات هى من أعطت السرطان الأخوانى القدرة على الأنطلاق بشراسة فأن أحداث يناير أعطته القدرة على السيطرة درجة الوصول الى السلطة السياسية. كان وصول هذا المرض الخبيث الى السلطة أكبر عملية تزييف شهدها التاريخ فالأمة التى سحقت أوصالها بهذا المرض وفى غيبوبة الألم أتت بأسباب المرض لكى يتولوا مقدراتها أو ليقضوا على وجودها نهائيا ويفنوا ثوابتها التى ترسخت معها على مدار سبعة ألاف عام. أدركت الأمة المصرية فى لحظة تاريخية فارقة أنها تزول من الوجود وأن المرض السرطانى الخبيث سيصبح هو القاعدة وحالة الصحة والعافية تغرب من أمامها. خرجت الأمة فى يونيو لتشفى نفسها بنفسها من هذا السرطان الخبيث وأستنفرت كل قواها وعلى رأسها الجيش أو الجهاز المناعى الأخير الذى لم تستطع هذه الخلايا السرطانية التسلل أليه. أستنفرت الأمة أيضا ضميرها الحضارى الثقافى الذى حارب ببسالة هذا الدخيل السرطانى على جسد الأمة لقد كانت ثورة يونيو حرب وجود ضد قوى الداخل والخارج المتحالفة ضد الأمة المصرية. حدثت الأستفاقة وبدأ الوعى يعود الى روح الأمة ..لكن هل زال خطر السرطان الخبيث ؟ الأجابة بكل وضوح وصراحة السرطان الخبيث تعرض الى ضربة ساحقة فدخل فى فترة كمون لذلك فنحن نحتاج الى يونيو جديد. نحتاج الى يونيو يستأصل بقايا هذا الخبيث من العقل المصرى ، نحتاج الى يونيو جديد ليس فى صورته الجماهيرية فالجماهير أدت ماعليها فى النسخة الأولى من يونيو. نحن نحتاج الى يونيو حضارى وثقافى وتنويرى يقضى على بقايا هذا الخبيث ، نحتاج الى يونيو يمتد الى كافة ربوع مصر يدخل بأفكاره التنويرية والحداثية الى كل بيت فى الوطن ، نريد من هذه الأفكار المنيرة أن تمحو الظلام الذى عشش فى العقول لعقود. نعم أستعدنا الثوابت المحركة للمشروع المصرى الحضارى وحان الأن بعد ست سنوات تفعيل هذه الثوابت لينطلق المشروع المصرى بكامل طاقته. نحن نمتلك ذخيرة جبارة فى هذه المعركة الوجودية يستطيع أن يمدنا بها عقل أكتوبر هذا العقل النقدى العلمى القادر على صناعة النصر فى ساعات. يحتاج يونيو الجديد الى عمل شاق ورؤية وأخلاص حتى تستعيد الأمة المصرية كامل عافيتها وينطلق مشروعها الحضارى القائم على العدل والتسامح والنزاهة بكامل طاقته لأن قدر مصر أن تكون ملهمة للأنسانية حامية لقيمها النبيلة.