كل الآباء والأمهات أناس رائعون. وحين يقول أى ابن أو ابنة، إن أباه أو أمه لا مثيل لهما، فهو يقول هذا صادقا ومن كل قلبه، فهو يراهما بلا نظير، كلهم بلا نظير، وهم كذلك بالفعل. إن العلاقة بين الطرفين خاصة جدا ، وفريدة، ولها سرها، مهما يكن حظ الأم من الثقافة والجمال والإمكانيات، فهى فى دور الأم لا مثيل لها، هى الأعلم والأجمل والأقدر. وأعتقد أن الأم بعد غيابها، ربما تكون أشد حضورا، وأقوى أثرا، وأمتن رابطة من حضورها. تتلألأ فوق رأسها هالة من الجلال والنور، يتمنى المرء معها لو عادت إلى الحياة، ولو لبرهة، ليعبر لها عن امتنانه العميق، الذى فاته أن يعبر لها عنه. ولكن لو حدث هذا، لتكرر الوضع نفسه، فهى لا تنتظر شكرا فى أى وقت، ولا نحن قادرون على الوفاء به. أبى مات منذ ثلاثة وأربعين عاما، وأمى تلته منذ تسعة وعشرين عاما، ومع هذا فهما لا يغيبان عن ناظرى أبدا، حاضران دائما، فى اليقظة والمنام، وكثيرا ما أقول لابنى - جمال وأمين - جدكما كان يقول كذا، جدتكم عملت كيت، كأنهما يعيشان معنا، أو فى الحقيقة معى. أحسست أن أمى كم هى معطاءة، كأن لديها بحرا لا ينفد عطاؤه. أحسست بهذا بعد غيابها أكثر مما كنت أحس به فى حياتها، تمنيت لو كنت معها أفضل وأقدر على التعبير والامتنان عما تفيض به علينا من مكرمات. كيف لم يتسن لى أن أحس، أن إنسانا واحدا فى هذا العالم كله، هو الذى ينشغل بأمرى، ويفرح لأى نجاح أحققه، ويتابع خطواتى خطوة خطوة، دون أن أشعر، كأنه ديدبان مسئول عنى وحدى، مع أنه فى الحقيقة هو كذلك مع كل إخوتى وأخواتى الثمانية. أعمل فى مجلة «آخر ساعة» فتصبح مجلة «آخر ساعة» هى مجلة بيتنا، ونجمة النجوم، ترسل حفيدها علاء كل خميس، حيث تصل المجلة إلى قوص، ليأتى لها بالمجلة، وتقرأها حرفا حرفا، يقلبها علاء فى طريق عودته، ليزف لها بشرى أننى من المشاركين بالنشر فى العدد أو يقول لها مفيش، وتمسك العدد و«تفليه». ولا يعرف أحد كيف تكتشف - بعد مفيش علاء - بضعة سطور فى باب من صفحتين يشارك فيه كثيرون، والاسم ببنط صغير لا يكاد يرى. تعرف الذين يكتبون ويعملون فى «آخر ساعة» فردا فردا، أليسوا هم الأسرة الجديدة التى أنتمى إليها. أستغرب حين يموت أحد الزملاء، وقد لا يتاح لى أن أشارك فى وداعه، ولكنها ترسل لى خطاب تعزية «البقية فى حياتك فى عزيز سيداروس»، وكان من أكبر المحررين فى قسم الفن سنًا، وكانت علاقتى به محدودة. وأنتقل إلى «صباح الخير» فتنقل كل المعدات وفرق المتابعة إلى «صباح الخير»، وتصبح هى العضو الجديد فى أسرتنا. لم أصدق بعد سنوات طويلة أنها كلفت الأخت الصغرى بالمحافظة على الأعداد فى صندوق خاص، ولم أكن أحتفظ بأى عدد. لا أنسى أثناء زيارة لى للبلد، وهى تتحدث عن المجلة أن قالت لى: لماذا تكتب فى موضوعات صعبة، ولا تكتب فيما يهم الناس، كما كتبت زميلة لك، فى العدد الماضى، عن الطفلة المسكينة التى سقطت فى البلاعة؟! تضايقت وأجبت بجفاء: أنا جاى أستريح وأطمن عليكم ولا حتفكرينى بالشغل ومشاكله؟ كان يمكن أن أقول لها إن المجلة تقدم مادة متنوعة لقراء مختلفين، وكل ميسر لما خلق له. لم أبصر أنها تقول هذا، لأنها لا ترى غيرى، وتتمنى أن ترانى فى أعلى مكان، وليس هناك غيرها من يرانى بهذه العين الحانية. لم أكن أقدر هذه النعمة فى حينها، وربما أعيش فى رحابها إلى اليوم. قد ينتبه قارئ حصيف، ويتساءل: كيف تفسر لنا أن أمك تجيد القراءة والكتابة، وأنت الصعيدى من قرية صغيرة تابعة لمركز من مراكز قنا، فى أقصى الجنوب - وفى عصر - ولابد أن تكون أمك من مواليد الربع الأول من القرن الماضى - لم يكن فيه من أسيوط إلى أسوان، غير مدرسة ثانوية واحدة فى سوهاج، كما عرفنا من مذكرات الدكتور حامد عمار، والذى لم تتح له فرصة الالتحاق بهذه المدرسة، وهو من أسوان، إلا بسبب تفوقه وحصوله على المركز الأول، كيف تفسر هذا فى وقت لم يكن الأولاد يذهبون إلى مدارس فضلا عن البنات؟! وأحاول التفسير. أنا نفسى، لم أنتبه إلى هذه الميزة «الهائلة»، التى تتمتع بها أمى وأنا صغير.. وربما بدا لى أمرا عاديا، أنها تحرص على قراءة الصحيفة، فى أربعينيات القرن الماضى، بعد أن يقرأها أبى، قبل أن يرسل أحد أصدقائه من الأعيان أو المتعلمين فى طلبها. ومن المؤكد أنها كانت الوحيدة بين نساء القرية، التى كانت تجيد القراءة والكتابة، وربما فى كل القرى المجاورة. وبعد أن كبرت ودخلت الجامعة، حاولت أن أفهم هذا اللغز، وعرفت أنها التحقت بكتاب الشيخ أحمد على عمر، فى منتصف العشرينيات. وبحثت عن الشيخ أحمد، وعرفت أنه ترك البلد منذ وقت طويل، وسافر إلى أسوان وفتح محلا للتجارة، ونجح فى هذا المجال. وحين التقيت به بعد ذلك، عرفت أن أمى حضرت للكتاب هى وبنات أخريات، لا يذكرهن، وبقية البنات لم يواصلن، وأمى الوحيدة التى استمرت حتى حفظت جزء عم، ثم قرر إغلاق الكتاب، وتجربة حظه فى التجارة. ويبدو لى أن هذا الاختراق، هو إحدى ثمار ثورة 19، حيث اعتبرت النخبة التى مهدت للثورة، وصاغت لها الشعارات، أن المطلوب هو نهوض شامل على كل الجبهات. ووضع حزب الوفد وزعيمه أمام مجالس المديريات آنذاك مهمة الاهتمام بتعليم البنات وتوعية الآباء بهذا الواجب. وكان من بين ما تم آنذاك نشر المدارس الأولية فى كل القرى والتى كان عليها أن تتولى تعليم الصغار بنين وبنات وإعدادهم لدخول المدارس الابتدائية. ووضعت حوافز لأصحاب الكتاتيب الذين ينجحون فى استقطاب وتعليم البنات. يبدو أن أمى لحقت بهذا القطار، وتعلقت به، ونجحت بجهدها وإرادتها فى إحراز بعض النجاح، وربما لولا إغلاق الكتاب لحققت نجاحا أكبر. إن هذه القصة تكشف عن دراما صعود رسالة النهضة وانكسارها، فى مراحل متتالية، دون أن تنجح فى تحقيق تراكم واختراق، يجعل من تحقيق متطلبات النهضة انطلاقا لا عودة منه. ومازلنا على هذه الحال إلى اليوم. ومن المدهش أن أمى تجيد القراءة والكتابة، وبناتها أى الجيل التالى لها لم يتعلمن أو يذهبن إلى مدرسة أو كتّاب. ولعله لأول مرة، تنجح فى دفع أعداد أكبر لمتابعة رحلة التعليم. واللاتى حصلن من بنات قريتنا، اليوم، على شهادات جامعية بالعشرات. ولكن الطريق لايزال طويلا، لتصبح المرأة مشاركة فعالة إلى جانب الرجل، فى ندية كاملة. فهذا أحد أسس النهضة، الذى لم يتم تقدم عام، دون تحقيقه بحسم ووعى وإدراك وفهم من الجنسين. يرحم الله أمى، فاطمة عبدالله، كانت تسبق عصرها. وكانت فريدة ورائعة. ككل الأمهات. •