فيلسوف متأمل، اعتزل الضجيج وفضل التأمل والمتابعة عن بعد، بشير الديك حالة إنسانية وفنية متفردة وإن جاز القول ليس لها مثيل، فالمتابع لأعماله يستطيع أن يلمس أن كاتب هذه الأعمال ليس بشخص عادى فأعماله تحمل من إنسانيته الكثير ومن روحه ورؤيته ومشروعه الاجتماعى الإنسانى وشغفه هو وأبناء جيله. جُمل حوارية فى تاريخ السينما لا تسطيع بمجرد سماعها إلا أن تنسبها إلى قلمه، قضايا لم يجرؤ غيره على مناقشتها. محظوظة أنا بأمور عدة إحداها مهنة تجعلنى أقترب من أفكار بشر تركوا أثرًا بأفكارهم تلك وبخلقهم لعوالم على الشاشة أثارت خيالى وخيال أجيال كثيرة.. مناقشة بشير الديك منطقة أحب أن أقترب منها فهو إنسانيا الأقرب لعقلى وقلبى. السينما فى 2018 السينما جزء من الدنيا، والدنيا فى حالة ارتباك و«لخبطة» فهذا القرن يتميز بأشياء غريبة جدا لم تكن موجودة من قبل لهذا فإن القياس هنا سيكون مختلفا تماما، هذا العالم الافتراضى الذى نعيشه غير من كل ثوابت الحياة التى نعيشها، وهذا التغير النوعى الحديث أثر فى كل الأشياء سواء فى أمريكا أو أوربا أو مصر وأى مكان فى العالم فحتى الأفلام الهندية الآن مختلفة عن تلك التى كنا نشاهدها قديما، فكل التطور السينمائى الموجود يجب أن يتم قياسه على ضوء هذا التغير الموجود فى العالم كله والذى أصبح جزءًا من حياتنا وشكل سلوكنا. السينما نشاط إنسانى شديد الأهمية ومن أجمل أشكال الفنون وأنواعها التى خلقها ربنا على الأرض، بالسينما نستطيع صناعة كل الأشياء الجميلة وكل الأشياء الرقيقة بداية من الأكشن وانتهاءً بالأفلام الروحية الرقيقة. السينما المصرية شأنها شأن السينما العالمية، القليل منها جيد والكثير تجارى.. البشر يكون إنتاجهم عظيم جدا ولكن تحكم التجارة فى العملية الفنية وارتفاع أسعار كل شىء بداية من أجور النجوم التى وصلت لأسعار فلكية وانتهاءً بأسعار الخام وغيرها من أشياء. وضع السينما الآن فى مصر هو كوضعها فى أى مكان فى العالم.. القليل جيد لأن الأدوات والإمكانيات والآلات والقدرات تساعده ولكن الغالبية العظمى سوق تجارية فقط . الإتقان روشتة نجاح لكل العصور شاهدت فيلما عبقريا بكل معنى الكلمة، وهو فيلم «يوم الدين» وتقنياته عالية جدا ومخرجه عبقرى جدا أبو بكر شوقى وواعد إلى أعلى درجة وممثلوه فى أعلى درجة من الأداء التمثيلى السينمائى رغم أنها تجربتهم الأولى فى التمثيل. • كيف تفسر نجاح تجربة إنسانية مثل «يوم الدين» رغم خروجه عن قواعد وشروط أفلام السوق كما يطلق عليها البعض؟ - لأن الأمور متقنة فأهم عنصر فى السينما هو how to make believe كيف تجعلنى أصدق، إذا أنا صدقت إذا أنت نجحت، كلنا صدقناET زمان، هذا الكائن الهابط من السماء رغم عبثية الفكرة ولكننا صدقناه.. هذه هى معادلة وروشتة النجاح، والعمل إذا توفر فيه شرط الإتقان سيصدقه الناس حتى لو كان خياليا المهم أن يكون موضوعا إنسانيا يمس المشاعر. • وما الموضوع الذى تراه مسيطرًا على السينما الأعوام الماضية؟ - هناك حالة من التوهان لسبب بسيط، أن هناك جيلا كف عن العمل وهو جيل كامل، جيلى وجيل داود عبد السيد وعاطف الطيب ومحمد خان جيل الثمانينيات كان يقدم إنتاجا ثم توقف مرة واحدة، ثم جاءت ثورة 25 يناير ووضعت فاصلا بين عالمين، ما حدث أنه ظهر جيل آخر مختلف تماما عن هذا الجيل، والاختلاف هنا من جوانب عديدة فهو من ناحية التقنيات والفكر والتجربة الإنسانية، فما سمى بالربيع العربى والمشاكل الرهيبة التى حدثت وسقوط دول وأصبحت مشاهدة الحروب على التليفزيون أمرا طبيعيا وأصبح أمرا مُحزنا ومُبكيا وبالتالى فرق كثيرا فى تجربة هذا الجيل وأصبحت الموضوعات المطروحة تدور فى فلكين إما موضوع إنسانى صادق جدا ومتسق مع عالمه ومتقن لكل عناصر هذا العالم كما هو الأمر فى «يوم الدين» أو عمل يدور حول فكرة البلطجة والعنف والعشوائية غير المبررة فى الأساس وأكشن دموى مبالغ فيه، وهذا لأن الصناع متصورون أن هذا العنف والأكشن هو فقط الذى سينجح وسيمتلك صكوك النجاح الجماهيرى وظنهم أن هذا هو الذى سينجح وهذه هى التركيبة المضمونة لدى الصناع أنفسهم ليس لدى الجمهور فأصبح الصناع ليس لديهم استعداد للمجازفة، رغم أن هناك كمّا محترما من تلامذتنا الموهوبين مثل مريم نعوم، عبدالرحيم كمال، محمد رجاء ووائل حمدى وكاملة أبو ذكرى ومجموعة من العباقرة، ولكن المناخ العام متغير فى العالم كله. الكوميديا حتى الكوميديا أصبحت تهريجا واستخفافا وأصبحت عبارة عن اسكتشات، فالتغير الذى حدث فى المجتمع تتبعه تغيير فى الأشكال والأنماط ومحاولات للنجاح، فأصبح هناك استخفاف وأصبحت «بعافية». مهرجان القاهرة السينمائى مهرجان القاهرة قديما كان فى أجواء هادية و«رايقة»، ومهرجان القاهرة عندما أصبح مهرجانا دوليا وحصل على الصفة الدولية كان مُفتتحا بفيلم « ناجى العلى». لم أكن أرغب فى الحضور وقتها ولكن عاطف الطيب جاء وأخذنى من المنزل واصطحبت أبنائى معى هذا اليوم وشاهدنا ناجى العلى لأول مرة فى القاهرة السينمائى كانت الدنيا مستقرة وهادئة والنجوم فى منتهى الرقى والجمال، والكل يعرف بعضه البعض ونحترم بعض وأعتقد الآن أن الأمور مختلفة إلى حد ما. القاهرة السينمائى مهرجان جاذبية ثقافية تحمل ثقل التجربة الثقافية المصرية.. الممثلون والمخرجون والكتاب ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وكل هذا الثقل الثقافى والخلفية الثقافية العميقة التى كانت تؤثر على مهرجان السينما، أما المهرجانات الموجودة الآن فهى مهرجانات حديثة أكثر تعتمد أكثر على قدرتها على تسويق الأفلام وتهتم بالشكل أكثر والاحتفالات. التركيبة النفسية للمصريين التركيبة النفسية للمصريين تغيرت بسبب التغيرات الاجتماعية والسياسية التى تحدثنا عنها وبالتالى اختلفت المواضيع التى تحتاج إلى طرح ومناقشة فعلى سبيل المثال من المواضيع التى يجب الاهتمام بطرحها هذه الفترة «الإرهاب» وهذا لا يعنى الشكل المباشر والمعنى الحرفى التقليدى ولكن «الإرهاب فى التفكير، الإرهاب فى الرؤية، الإرهاب فى كرهه الآخر واضطهاده، التمييز بلا مبرر سواء بين الرجل والمرأة أو فى الديانات أو عدم تقبل واحترام الآخر» رغم أنه قديما كل هذه الفروقات والاختلافات كانت مقبولة فى مجتمعنا لدرجة أننا كنا لا ندرك وجود اختلاف فى الأساس، ففى زمن عبد الناصر فى عصر نهضة القومية العربية لم يكن هنا هذا التعصب المقيت. استراحة محارب • ماذا بعد «الكبار» ولماذا أثر «بشير الديك» الابتعاد؟ المناخ اختلف وحاملو الراية اختلفوا، فهناك جيل كامل فى كل العناصر سواء كتابة أو إخراج وإنتاج لديهم تصور وأحلام وخطط كتلك التى جمعت جيلى مثل داود عبدالسيد وخيرى بشارة وعاطف الطيب ومحمد خان، كما أن التقدم فى العمر يجعل المعادلة تتغير ويزيد من الرغبة فى التأمل والبحث عن الهدوء بعد حالة الفوران فى الشباب، فأنا كنت أسافر مع عاطف الطيب إلى الصعيد الجوانى لنزور قرية حصلت فيها حادثة لنتابعها ونعرف نفاصيلها وإبعادها فى الواقع. وإيقاع الشباب الآن غارق فى الكركبة والسرعة لذلك من الصعب أن يحدث التلاقى الأساس. أفلام الصُحبة وحالة إنسانية مفعمة بالثراء • بعد مرور هذه الأعوام عندما أتذكر مشروع «أفلام الصُحبة» أراها حالة إنسانية بحتة أكثر منها مشروعا فنيا، ما الحاجة الملحة التى دفعتكم إلى تأسيسها وقتها؟ - أسسنا هذه الجماعة لإنتاج أفلام نحبها رغم أنه لم يكن هناك من يمنعنا، لكننا رغبنا فى تأسيس كيان له وجود، محمد خان وعاطف وأنا ونادية شكرى وسعيد شيمى ونتج عنها تجربة واحدة فقط وهى فيلم «الحريف» لأننا اكتشفنا أننا فشلنا فى إدارة الإنتاج، ولكن الفكرة من التجربة والدرس قربنا من بعضنا فكريا ورؤيتنا كفنانين للواقع الذى نعيشه وكان هذا هو مشروعنا السينمائى أن نرى الواقع ونعبر عنه بشكل قوى، وهذا بالطبع يحتاج إلى ثقافة وتواجد مستمر لنا معا وهذا ما حدث. موعد على العشاء عندما كنا نُعد لموعد على العشاء اقترح علىّ محمد خان أن نعرضه على سعاد حسنى ولم نكن نعرفها بشكل شخصى ولكن خان قال لى سنذهب إلى منزلها وركبنا الأوتوبيس من شارع الهرم إلى منزلها فى الزمالك وقابلناها وعرضنا عليها السيناريو وفرحت به كثيرا وفرحت بنا نحن كذلك وأصبحت بيننا علاقة جميلة أثناء جلسات العمل وكانت تطبخ لنا بنفسها باستمرار وكان محمد خان مندهشا من الكوارع والفشة والممبار لأن هذا كان بعد عودته من لندن، هذه الفترة حملت كل المشاعر الجميلة والشبابية والحميمية لجيل أراد أن يترك بصمة وكان يحمل خلفية ثقافية وأراد التعبير عن نفسه والتعبير عن الواقع الذى يعيشه، كل هذا شكل وجداننا ووجدان هذا الجيل وسمى بعد ذلك بسينما التمانينيات و«الواقعية الجديدة» وغيرها من مسميات وكنا نعمل بمنتهى الشغف، فمحمد خان عندما شعر أنه لن يستطيع تقديم «سواق الأوتوبيس» قال لى «أديه لعاطف الطيب» تعجبت جدا منه وقتها وقال لى «هو هيعمله أحسن منى» لأنه بيتكلم عن الواقع المصرى جدا. • بعد كل هذا النجاح والتوافق الفكرى، ما الذى افتقدته برحيل عاطف الطيب المبكر؟ - فقدت «الونس».. حقيقى افتقدته الونس وهو المعنى الذى إذا تواجد فعلا يستطيع الإنسان أن يجتاز كل الصعوبات، فأنا افتقدته إنسانيا وفنيا وحدث هذا أيضا برحيل نادر جلال رحمه الله. •