أكثر ما لفت انتباهى عند زيارتى لمسجد ابن طولون، هو تلك الأشكال المختلفة لمحاريبه الستة. إذا اقتربت من كل محراب لتتأمله، ستكتشف أن وراء كل محراب منها قصة، فكل منها أنشئت فى عصر مختلف، وكل منها أمر ببنائه سلطان أو خليفة، بعد قصة شيقة عاشها، بخلاف أسطورة المحراب الأصلى لصاحب الجامع، حاكم مصر، ابن طولون، الذى افتتحه فى 265 هجرية. وسوف تتعجب أن المحاريب الستة بنيت على مدار ما يقرب من 500 عام، وكأن المسجد يستقبل كل 100 عام محرابًا جديدًا، يشهد على عصر تاريخى يحمل مفرداته المعمارية والزخرفية، وخاماته البنائية، ونوع خط الكتابة التذكارية، وطريقة الاحتفاء بألقاب الخلفاء والسلاطين فى العصور الثلاثة»العباسى، والمملوكى، والفاطمى» التى شهدتها العصور الخمسة. ويبدو أن ظاهرة المحاريب المختلفة داخل الجامع الواحد لا تخص ابن طولون فقط، فهى موجودة فى مساجد تاريخية كثيرة، حتى إن الجامع الأزهر وحده به 13 محرابًا مختلفًا. وراء كل محراب دائما حكاية، بعضها تاريخى وبعضها تحول إلى أساطير تتناقلها الناس، وقد لا يمكن التثبت من حقيقتها. قصة أول محراب المحراب فى اللغة هو المكان البارز أو الواضح أو المرتفع المنزلة، وهو أفضل مجالس الملوك وأعلاها منزلة، وقد جاءت كلمة المحراب فى القرآن الكريم، بمعنى الحجرة أو المكان الذى يتعبد فيه، «فخرج على قومه من المحراب، فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشية».. الآية 11- مريم. وفى الآية 39 من سورة آل عمران «فنادته الملائكة وهو قائم يصلى فى المحراب»، كما جاءت بمعنى المكان المرتفع، فى سورة ص «وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب». وتشرح أستاذة العمارة والآثار بجامعة القاهرة، آمال العمرى، أهمية محراب المسجد، لكونه العنصر المعمارى الذى يحدد اتجاه القبلة للمصلين، نحو مكةالمكرمة، وتطور شكل المحراب من كونه علامة فى الجدار، أو قطعة حجر بسيطة يتجه نحوها المصلون، على غرار التى وضعت فى المسجد النبوى، حيث بدأت بعلامة فى جدار المسجد، فى السنة الثانية للهجرة، ثم تطور إلى بناء بارز أو تجويف فى الحائط، مزخرف ومكسى بالرخام أو الفسيفساء أو البلاطات الخزفية. وتنقل أستاذة العمارة بجامعة القاهرة، سعاد ماهر، عن المقريزى فى كتابها «مساجد مصر وأولياؤها الصالحون» قصة المحراب الأصلى، لجامع ابن طولون المحفور فى جدار القبلة، «إنه لما انتهى ابن طولون من بناء المسجد أمر حاشيته باستطلاع رأى الناس فيه، فجأت الأقوال بأن محرابه صغير، وليست له ميضأة ولا فيه أعمدة. فرد ابن طولون على صغر المحراب، بأنه قد رأى النبى صلى الله عليه وسلم فى منامه، يخط له مكان المحراب، فأصبح فرأى النمل قد صنعت دائرة فى المكان الذى خطه الرسول، فكان المحراب على نفس هذه الدائرة». كما شيد ابن طولون محرابا ثانيًا بجانب دكة المبلغ، على إحدى دعامات ظلة القبلة، من الجص وعليه ختم ملكه. محراب لاجين المجوف والخمسة محاريب المسطحة ويحكى المقريزى فى خططه، أن السلطان المملوكى «لاجين» اهتم بتجديد الجامع، لنذر أخذه على نفسه، أن يجدد بناء مسجد ابن طولون، إن نجاه الله من القتل على يد أمراء السلطان الأشرف خليل بن المنصور قلاوون، بعد أن كشفت المؤامرة التى شارك لاجين فيها على قتله، وفر إلى الجامع وعاش فيه. وعندما وصل لاجين للحكم سنة 696، جدد المسجد، وجوف محرابه الأصلى، الذى أنشأه ابن طولون، وزخرفه بزخارف من الفسيفساء الذهبية والزجاجية متعددة الألوان، وكتب عليه بخط النسخ «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وزخرف طاقية المحراب الخشبية بزخارف زيتية. وعلى يسار هذا المحراب يوجد محراب جصى جميل بجدار القبلة، ملىء بالزخارف الجصية، وكتابات بخط النسخ، وأرجعه علماء الآثار إلى القرن السابع الهجرى، ونص الكتابة التى عليه: «قد نرى تقلب وجهك فى السماء ..» إلى آخر الآية، وكتب على عقده: «فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين». وعلى دعامتى المسجد بالبائكة الثانية، التى تلى الصحن، يوجد محرابان، الأيمن مكتوب عليه بالخط الكوفى المزهر والزخارف النباتية «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذا المحراب خليفة فتى مولانا وسيدنا الإمام المستنصر بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأئمة المنتظرين، السيد الأجل الأفضل سيف الإمام جلال الإسلام شرف الأنام ناصر الدين خليل أمير المؤمنين» ويؤرخ لإنشاء هذا المحراب بعام 487 هجرية. وعلى الدعامة اليسرى محراب رابع، مقلد من المحراب الأيمن، طمست أجزاؤه السفلية الآن، وأنشأه المنصور لاجين، وكتب عليه بالخط الكوفى المزهر، ما نصه: «بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بإنشاء هذا المحراب المبارك، مولانا السلطان الملك المنصور، حسام الدنيا والدين، لاجين ، سلطان الإسلام والمسلمين». وفى البائكة الرابعة للمسجد، وعلى جانبى دكة المبلغ، يوجد محرابان آخران من الجص، الأيمن منهما- الخامس- يرجع للعصر الطولونى، أنشأه أحمد بن طولون، عليه خاتم الملك «الرنك، أو إشارة الملك»، ومزخرف بزخارف من طراز سامراء، ومكتوب عليه «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، والمحراب الآخر-السادس- مكتوب عليه بالخط الكوفى «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وأرجع العلماء إنشاءه إلى العصر الفاطمى، مزين بزخارف من الجص، على شكل «مروحة نخلية». •