حين خرجت من غرفة العمليات الصغيرة بمستشفى الصفا بالمهندسين، وفور استقرار الوعى والقدرة على التركيز جاء وجه العارف بالله سيد علم التشخيص عبر المناظير د. مازن نجا ليطمئن على إفاقتى؛ وتلقى منى سؤالاً مباشرًا: «هل كان المنظار الذى اكتشف قروح المعدة وبعضًا من نتوءات المرىء؛ فضلا عن التمزق الجزئى فى الحجاب الحاجز هو نفس المنظار الذى كان يدخل فم عبدالحليم حافظ ليحقن دوالى المرىء»؟ وكانت ملامح الوجه ذات هالة الضوء؛ تستقبل كلماتى بنوع من التصوف الذى تعودت لقاءه على وجوه تجيد التقاط المجهول لتجعله معلوما. فالأطباء الكبار لهم قدرة التواصل مع خريطة البناء الكونى لتنزل به إلى الأرض . قال مازن نجا: «هناك قرابة الأربعين عامًا تفصلنا عن لحظة خروج روح عبدالحليم من جسده لتصعد إلى السماء.. لا أنسى أنا كاتب هذه السطور ما شرحه لى أكثر من مرة د. هشام عيسى عن إحساسه بأن عبدالحليم كان لا يملك ثقة فى الطبيب الإنجليزى الذى استخدم طريقة لإيقاف النزيف كان قد تم استبعادها لخطورتها؛ وهى إدخال بالونتين تضغطان على دوالى المرىء، فإن توقف النزيف كان بها؛ وإن استمر فلا نجاة للمريض المنظار إلى مريئه، قلت لنفسى لعل خطأ عبدالحليم أنه لم يأخذ معه فى رحلته الأخيرة ذلك الطبيب الذى تشرّب بدراسة حالته وهو هشام عيسى»، وأيقنت أن الطبيب الإنجليزى لم يكن متمكنًا من عمله كالأطباء الألمان الذين برعوا فى مثل تلك العمليات؛ كما أن انجلترا لم تملك تطوير صناعة المنظار مثلما كان - ومازال - الألمان يفعلون. ومن المهم أن نعلم أن ألمانيا امتلكت القدرة على تطوير المنظار اعتمادًا على خبرة طبيب صينى هاجر إليها وأضاف للمنظار العديد من الوظائف. •• قلت لنفسى: »لم أكن أعلم أن أسلوب الحياة المنطلق بين تيه التمرد والصراع وعدم الثقة فى إمكانات الواقع، فضلا عن تجارب الفشل العاطفى؛ وتحمل مسئولية النمو وصولا إلى مبدأ يرقى إلى مستوى العقيدة؛ مبدأ وضع أسسه الأجلاء بغير حد ثلاثة من الأساتذة الكبار فى مجلة صباح الخير: الروائى فتحى غانم والشاعر صلاح عبدالصبور وصاغه فى عبارة واضحة المذهول بجمال الملكوت د.مصطفى محمود؛ مبدأ يقول «من المهم أن تحيا بشرف؛ وهذا يعنى أن تضيف حياتك إلى مجتمعك درجة من الرقى حين يحين الوقت لمغادرتك الحياة نفسها؛ فيبقى أثرك باقيًا يضيف إلى شرفاء آخرين من بعدك». وفى العبارة التى صاغها مصطفى محمود ما يمكن أن نعتبره منظارًا نكتشف به حياة جيل فى الغناء يتوسطه عبدالحليم وعلى يمينه محمد الموجى وعلى يساره كمال الطويل وبجانبه بليغ حمدى وحولهم صلاح جاهين بالكلمات وبرفقته عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وأحمد شفيق كامل؛ فأى منهم جاء إلى سماء المجتمع ليبرق كضوء بدا خافتًا ليعلو فيما أتاحته ثورة يوليو من ثقة وقدرة على الحلم. وأضحك لنفسى حين أتذكر ملامح صديقى الأثير محمد زغلول كامل أصغر الضباط الأحرار وهو يحكى لى عن سابق معرفته بمجدى العمروسى أثناء دراسته الحقوق بجانب عمله فى القوات المسلحة؛ وكيف كان عام 1951 قاسيًا على عبدالحليم؛ فلم يكن قد غير اسمه إلى عبدالحليم حافظ، بل كان اسمه الموجود على لافتات الدعاية لمسرح اللونابارك السكندرى هو «عبدالحليم شبانة»، وعندما أطل على الجمهور السكندرى ليغنى »صافينى مرة« فلم يتقبلها الجمهور. ونزل عبدالحليم من المسرح رافضا الانصياع لغناء أغنيات محمد عبدالوهاب وليمشى بعدها من موقع مسرح اللونابارك وبجانبه مجدى العمروسى ليصلا إلى فيللا محمد عبدالوهاب فى حى جليم، والتى تقع فى مواجهة الكورنيش؛ ليدقا الباب طلبًا من عبدالوهاب أن يستمع لصوت عبدالحليم؛ ولم يكن عبدالحليم مجهولاً بالنسبة لعبدالوهاب فهو من سبق أن كان عضو اللجنة التى أجازته مطربًا بالإذاعة؛ وسبق أن رآه عازفًا على (الأبوا) فى فرقة موسيقى الإذاعة. وظن عبدالوهاب أن عبدالحليم يطلب مساعدة مالية فأخرج ورقة نقدية ليضعها فى جيب قميص عبدالحليم الذى أخرج الورقة المالية ليعدها إلى يد عبدالوهاب قائلا: إنه يبحث عن حكمه على غنائه لا مساعدة مالية . وعاد عبدالحليم إلى الشقة التى استأجرتها تحية كاريوكا لإقامة عديد من الممثلين والموسيقيين والراقصات؛ وكانت تحية كاريوكا هى المتولية للقيادة؛ وتلقى عبدالحليم فى تلك الشقة خبر تخييره بين الغناء لمحمد عبدالوهاب أو إنهاء تعاقده مع المعلم صديق المتعهد، وبعناد لا يعرف عبدالحليم سببًا له؛ رفض عبدالحليم الانصياع لجبروت المتعهد؛ وشاركته التمرد تحية كاريوكا؛ وأقرضت عبدالحليم مبلغًا من المال كان قد حصل عليه كعربون من المعلم صديق. ورجاها عبدالحليم ألا تترك المسرح لأنها إن أنهت تعاقدها مع المعلم صديق ستتسبب فى بطالة الفرقة الموسيقية والراقصات اللاتى يشاركن خلفها بالرقص. وكان ذلك الرجاء هو بوابة قصة الحب الأولى فى حياة عبدالحليم، حيث ركزت عليه راقصة من فرقة تحية كاريوكا هى «ميمى فؤاد» التى توهمت أن عبدالحليم وهى يستطيعان تكوين ثنائى كفريد الأطرش وسامية جمال، أو مثل عبدالعزيز محمود وأى راقصة تقبل الرقص أثناء غنائه. كان زغلول كامل صديقى الأثير يحكى لى عن احترامه العميق لما استقر عنادًا فى سلوك عبدالحليم بألا يقلد أحدًا. ويصل عبدالحليم إلى اليوم الذى كون فيه مع أحمد فؤاد حسن الفرقة الماسية من ستين عازفًا ليخرج إلى الجمهور فى أول احتفال بعيد ثورة يوليو على مسرح جرى إعداده بحديقة الأندلس؛ ليقدمه الفنان يوسف وهبى باسمه الجديد «عبدالحليم حافظ»، وقد اختار ذلك امتنانًا لما قدمه له الإذاعى الكبير حافظ عبدالوهاب، ولينطلق عبدالحليم من بعد ذلك متربعًا على عرش قلوب أجيال متعددة. وطبعًا لم يكن لينسى كيف لاحظ قطرات من الدم تعلق بفمه؛ فظن أنه مرض الصدر الشهير «السل»؛ لكن كان الأمر هو دوالى المرىء. وكان ذلك مصاحبًا لرفض عبدالحليم تكرار الغناء لأغنيات محمد عبدالوهاب؛ وكان فى أذنه دائمًا صيحة الجمهور اللاهى على صيحات «إنزل .. إنزل»، وبين ميلاد النجم من جديد بعد أن قدمه يوسف بك وهبى فى أول احتفال بأول عيد لثورة 23 يوليو عام 1953؛ كانت هى الأغنية التى التهبت أيدى الجمهور تصفيقًا لها وهى أغنية «صافينى مرة وجافينى مرة». كان الفارق بين جمهور غناء نفس الكلمات هو الفارق بين جمهور يرغب فى السخرية من نفسه ومن كل الأحوال؛ ففضل السماع لمطرب مهرج أدمن سبابه والدخول معه فى قافية هو حمامة العطار الذى يدخل فى قافية ويتبادل كلمات السباب مع الجمهور؛ وانتهت فقرته ليقدم المعلم صديق المطرب الشاب عبدالحليم شبانة الذى لم يكن قد غير اسمه بعد؛ وكانت الأغنية هى «صافينى مرة». أما جمهور حفل الميلاد بحديقة الأندلس فكان جمهورًا مرحبًا بأمل ميلاد مصر أخرى عبر ثورة يوليو؛ تلك التى خفق قلب عبدالحليم عشقًا لها وأعطاها من غنائه فوهبته قمة المجد، وعندما انكسرت فى هزيمة يونيو كان المبشر بانتصارها من جديد. •• قصة عبدالحليم هى قصة مصرية قادرة على أن توجز كيف يتسلل الوهن فى شرايين الأمل فيطغى يأس النهاية مع الحلم بالبداية من جديد؛ ولعل ذلك ما جعلنى أنهى كتابتى لمذكرات عبدالحليم حافظ بقولى: «إنه يولد مع كل قصة حب ولا يغادر القلب فى نهايتها توقعًا لما نحتاجه من حلم فى قصة حب أخرى». وعلى صفحات صباح الخير كانت الرحلة التى قفزت بتوزيعها من اثنين وأربعين ألف نسخة إلى ما يربو على المائة وخمسة وثمانين ألف نسخة برعاية المعلمين الكبار حسن فؤاد والجليل لويس جريس وحسن رفقة المحترم بغير حد رءوف توفيق. ومازال عبدالحليم يولد من جديد فى كل آهة حلم وإشراقة ثقة. •