على أصوات الديوك وزقزقة العصافير، ورائحة الشاى بالحليب المغلى، ووقع أقدام طلاب المدارس فى الشارع، وصوت الجرنال وهو يرتطم بباب البلكونة، يقذفه بائع الجرائد بمهارة كل يوم.. يستيقظ الناس فى شبرا.. فلاحون قادمون من الدلتا، حملتهم أوتوبيسات لموقف عرف «بمطار المنوفية» يحملون أقفاصا تنبعث منها رائحة الفطير والجبن القريش والطيور، يضعون أحمالهم أمام أول محل عصير قصب، ليشربوا المانجو!! ذكريات وحكايات يحملها الكثيرون ممن عاشوا فى حى شبرا العريق والعتيق، حى الباشوات والجاليات الأجنبية، وهو فى نفس الوقت حى القادمين من الدلتا والصعيد،الذين كونوا فيما بعد مجتمعا متفردا بصفاته وتقاليده وطباعه. شبرا الحى الشعبى، المتعدد الأعراق، الذى يعطى أهمية كبيرة للتعليم، المتفتح ثقافيا، يسميه الدكتور محمد عفيفى أستاذ التاريخ بجامعة القاهرة فى كتابه «شبرا.. إسكندرية صغيرة فى القاهرة»، مجتمع كوزمبيليت، يشبه مجتمع مدينة الإسكندرية فى عصرها الزاهر. سانت تريزا يحكى د. عفيفى زيارة قريبة لأهله فى شبرا، خلال عطلة عيد الميلاد المجيد، ليمر من أمام الكَّتاب الذى تلقى فيه مبادئ القراءة والكتابة، والقرآن الكريم، وكانت صاحبة الكَّتاب أبلة نادية، قبطية تعلم الأطفال مبادئ الحساب، بينما يعلمهم الشيخ عبدالعزيز القرآن الكريم. وكان يتردد مع أهله كأغلب سكان شبرا على كنيسة سانت تريزا، طلبا للطمأنينة والبركة، لكن د.عفيفى يتوقف عند كثير من التغيرات التى طرأت على الحى وأفكار أهله، مثلما حدث فى كل مصر. شارع شبرا تعود كلمة شبرا كما أوضح الجغرافى محمد فوزى فى قاموسه، إلى اللغة المصرية القديمة، وانتقلت منها إلى اللغة القبطية وكانت تسمى «جبرو» ثم «شبرو» أى التل أوالكوم. كما يرجع المقريزى أصل منطقة شبرا، إلى أنها كانت جزيرة تعرف بجزيرة الفيل عند الفتح الإسلامى، وتتسع مساحتها وتتميز بأرضها الخصبة، ليطلق عليها فى العصر العثمانى، جزيرة بدران، نسبة لضريح أحد الشيوخ. ومع تولى محمد على للحكم ورغبته فى إنشاء دولة حديثة معماريا وعمرانيا، أنشأ قصرا بقرية شبرا الخيمة، بالقليوبية، ولكى يصل إلى هذا القصر كان لا بد أن يربطه بالقاهرة، فأمر بإنشاء شارع شبرا عام 1847، أعرض شوارع مصر فى هذا العهد، وأكثرها استقامة. جزيرة بدران يبدأ شارع شبرا من جزيرة بدران وينتهى فى المظلات على حدود ترعة الإسماعيلية، زرع جانبيه بأشجار اللبخ والجميز، ومن هنا بدأ الأمراء والباشوات والأعيان فى تشييد قصورهم الريفية وحدائقهم ومقاهيهم فى شبرا، لتتحول إلى مايشبه المنتجع، ولتحمل شوارعها أسماء بعضهم، مثل قصر انجة هانم زوجة الخديو سعيد باشا، وقصره الذى سماه بقصر النزهة، الذى تحول إلى مدرسة التوفيقية فيما بعد، وهدم منذ سنوات، وقصر الأمير طوسون ابن الخديو سعيد الذى بناه عام 1869 وتحول إلى مدرسة شبرا الثانوية بنين ومازال باقيا إلى الآن. بدأ الحى بسكنى الباشوات والأعيان والجاليات الأجنبية كاليونانيين والإيطاليين، الذين يعملون فى مجالات البقالة وفتح المقاهى أومعلمين فى مدارس الإرساليات وفى الكنائس. ومع بداية القرن العشرين وتحديدا مع الحرب العالمية الأولى، وانخفاض متوسط الدخل الزراعى للفرد، هاجرت أعداد كبيرة من الريف إلى المدن ومنها مدينة القاهرة، كما يوضح د عفيفى، ليستقر عدد منها فى شبرا. لتتغير تركيبة شبرا السكانية مرة أخرى، وتشهد كما شهدت الإسكندرية خروج أعداد كبيرة من الأجانب وعودتهم إلى بلادهم فى الخمسينيات، ثم تأتى موجة أخرى لترييف شبرا من ناحية العادات والتقاليد، بعد هزيمة 67وهجرة أعداد هائلة من الريف والصعيد إليها، لتبقى الطبقة المتوسطة، تقاوم الترييف والتطرف. روض الفرج موقع شبرا الممتاز بالقرب من الدلتا والنيل، جعلها مكانا لتجارة الغلال، فأنشأت مصلحة التجارة سوقا كبيرا لتنظيم هذه التجارة فى روض الفرج على ساحل النيل، لنقل البضائع منذعام 1932ومازال قائما إلى الآن.. وعرفت شبرا بسوق روض الفرج لتجارة الخضار والفاكهة، الذى ظهر فى العديد من الأفلام السينمائية، ونقل فى التسعينيات إلى مدينة العبور وحل مكانه قصر ثقافة روض الفرج. إبراهيم ناجى لا يمل سكان شبرا أو أصحاب محالها من الحديث عن جيرانهم من الفنانين، والأدباء، الذين لاتزال عائلاتهم تسكن بيوتهم حتى الآن. منها فيلا مارى منيب، ومنزل على الكسار وحسين رياض وبليغ حمدى وصلاح جاهين، ورياض القصبجى وسميحة أيوب ونبيلة عبيد، ويوسف السباعى ومدحت صالح، أحمد عبدالعزيز، أحمدماهر، سيمون، نشوى مصطفى، والمخرج هنرى بركات، والشاعر إبراهيم ناجى وغيرهم الكثير. الدوران ألفت عن الحى الكثير من الأعمال الفنية والغنائية، عن الحياة الاجتماعية وعلاقة الجيران مع بعضهم البعض والتقاليد، وأخلاق أولاد البلد وكيف تجسدت الوحدة الوطنية بين سكانه، وحياة الجاليات الأجنبية وحياة سكانه الآن والتغيير الذى حدث لهم، منها فيلم هندى، يوم حلو يوم مر، ومسلسل بنت من شبرا، دوران شبرا، أغنية بحبك ياشبرا لمحرم فؤاد. اشتهر الحى بسينماته الصيفية والشتوية، وكانت أول سينما به هى «جران سينماتوغراف» على يد أحد الأجانب فى جزيرة بدران، وسينما «شانتكلير» كما أنشأ أبو السينما المصرية محمد بيومى، استديو بيومى فى شبرا فى العشرينيات. كما كانت شبرا مادة خصبة تناولها كتاب ومؤرخون مثل كتاب أحياء القاهرة المحروسة لعباس الطرابيلى، وشبرا مصر لمدحت العدل، ورواية «شبرا» لنعيم صبرى، و«بنت من شبرا» لفتحى غانم. التوفيقية وفى شبرا كانت أشهر المدارس وأقدمها، فى مقدمتها مدارس الإرساليات التبشيرية، وأيضا الراعى الصالح، التى بدأت الدراسة بها عام 1869.. ومدرسة التوفيقية، التى كانت قصرا للخديو سعيد، ومعروف بقصر النزهة، لتتحول إلى مدرسة فى عهد الخديوى توفيق، 1888، وتصبح أهم وأكبر مدرسة ثانوية للبنين حتى الآن. وشهدت التوفيقية خروج العديد من مظاهرات الطلاب ضد الاستعمار، وضد دستور 1923، ومن أشهر خريجيها ويصا واصف، رئيس مجلس الشيوخ والزعيم الوطنى فى ثورة 1919، والناقد السينمائى أحمد كامل مرسى، وأستاذ الأدب د.رشاد رشدى، والطبيب نجيب محفوظ، والمؤرخ عزيز سريال، وأحمد حمروش مؤرخ ثورة 23 يوليو، ود.صبحى عبد الحكيم عميد آداب القاهرة، ورئيس مجلس الشورى، والفقيه القانونى محمد نور فرحات، والأديب نعيم صبرى، صاحب رواية شبرا، وغيرهم. هذا جزء بسيط عن الحى العريق، المملوء بالحكايات، مستشفى كتشنر، شارع مسرة، شيكولانى، طوسون، وجامع الخازندار، الترعة البولاقية، أحمد حلمى، عبد الحميد الديب، فيكتوريا، يلبغا، دون بوسكو، كوبرى الليمون، أغاخان، جاربديان، دولتيان، وغيرها الذى قد يأتى وقته. •