على بُعد أمتار قليلة من جامع عمرو بن العاص، بمصر القديمة، وبجوار قصر المانسترلى باشا، بأقصى الطرف الجنوبى لجزيرة المنيل، يقع أهم وأشهر مقاييس نهر النيل.. يلفت انتباهك من بعيد تلك القمة المخروطية الفريدة الشكل، وسط بقايا قصر المانسترلى، أو متحف أم كلثوم، سيفتح لك المسئول بابا، لتقف منبهرا أمام عمارة مقياس النيل. رغم أنه لم يعد يصله الماء، منذ بناء السد العالى، ليبقى أثرا شاهدا على طريقة قياس منسوب النيل فى القرن الثالث الهجرى.
أمر ببنائه الخليفة العباسى المتوكل على الله، سنة 247 هجرية 861 ميلادية، أى منذ ما يقرب من 1156 سنة، كما أكد المؤرخ ابن خلكان، صممه وأنشأ عمارته أحمد بن محمد الحاسب الفرغانى، القادم من أوزباكستان. وكان الهدف من بنائه هو تسهيل تقدير إيرادات الدولة، التى كانت تعتمد على الزراعة بشكل شبه كامل.. فالمقياس يتكون بالأساس من عمود رخامى مدرج طوله 19 ذراعا (أكثر من 5 أمتار)، وقراءته تعنى لمصر الكثير.. فإذا وصل الفيضان إلى مستوى 16 ذراعا، فهذا يعنى أن المحاصيل ستكون فى أفضل أحوالها، وبالتالى يمكن للدولة أن تفرض ضرائب على الفلاحين، كما تطمئن الدولة أن الغذاء سيكون متوفرا وبأسعار فى متناول أغلب السكان.. أما إذا تجاوز هذا الحد، فهذا فيضان كبير يمكن أن يغرق غالبية أرض مصر، وهو ما يعنى أن المحاصيل ستكون ضعيفة وأسعارها مرتفعة، ما ينبئ باضطرابات تزعزع الحكم. وبالمثل إذا انخفض الفيضان عن 14 فهو يعنى قحطا شديدا، من الممكن أن يدفع الفلاحين للهرب من الزراعة ما يعرض الدولة كلها للخطر. • أول خط كوفى هذا المقياس، هو أول مبنى بالحجر فى العصر الإسلامى، وثانى أقدم مبنى بعد جامع عمرو، كما لايزال المقياس يحتفظ بعناصره المعمارية منذ إنشائه حتى الآن، ويرجع هذا إلى عبقرية المهندس الذى بناه بفكر متطور، قاوم اندفاع المياه وحركة الزلازل.. والزمن. مقياس النيل يؤرخ لظهور أول كتابة بالخط الكوفى على جدرانه والخط الكوفى المزهر على عمود القياس ومنها الآية رقم 32 من سورة إبراهيم، «الله الذى خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجرى فى البحر بأمره وسخر لكم الأنهار»، كما أنه يؤرخ لظهور ما يعرف بالأعمدة المدمجة والعقد المدبب، الذى يعلو الشبابيك الموجودة على جدرانه. • موقع ذكى عرفت مصر الفرعونية ومن بعدها الرومانية، طريقة قياس منسوب النهر، عن طريق المقاييس المختلفة الشكل، تتراوح من البسيط كالحجارة المدرجة التى توضع على أحد شواطئ النهر، أو حتى المعقد على شكل مربع أو على هيئة هرم ذى فتحات تصاعدية يقاس ارتفاع المياه من خلالها. «اختار الفرغانى موقع وتوقيت المقياس بذكاء» بحسب دكتورة آمال العمرى أستاذ العمارة والفنون بكلية الآثار جامعة القاهرة. «فالموقع تقل فيه التيارات المائية، وتم بناء المقياس فيما يعرف بوقت التحاريق (قبل الفيضان)، حيث استغرق الإنشاء ستة أشهر»، تقول العمرى. وتضيف: إن الفرغانى استخدم مادة عازلة للحفاظ على الحجر من تأثير الماء الذى يمكن أن يفككه. • حكاية القبة ويعلو جسم المقياس قبة مخروطية، تشبه من الخارج قمم المآذن العثمانية، ومزخرفة من الداخل برسومات الورود والأزهار والأوراق النباتية الملونة والمذهبة، وهى ما يعرف بفن الركوكو، وهو فن أوروبى ساد فى تركيا فى القرن التاسع عشر. أما نوافذ القبة فمصنوعة من الخشب الخرط، وكان الظاهر بيبرس قد شيد سقفا للمقياس، أزيل فيما بعد، وأنشئت القبة بدلا عنه فى عهد الخديو عباس حلمى الثانى، وهو ما يفسر وجود فن الركوكو. ومن الداخل يتكون المقياس من عمود رخامى مثمن الأضلاع يزن 20 طنا، حفرت عليه علامات القياس، وبه كتابات بالخط الكوفى المزهر، وينتهى العمود من أعلى بتاج رومانى يعلوه وتر خشبى بعرض المقياس، ويتوسط هذا العمود بئر بعمق 12.5 متر، تتكون من ثلاثة مستويات، يزيد سمك الحجر كلما نزلنا، الجزء الأسفل منه يأخذ شكلا دائريا، وفيه يرتكز العمود على قاعدة من خشب الجميز الذى لا يتأثر بالمياه. واختار الفرغانى الشكل الدائرى لأن به خاصية امتصاص قوة اندفاع المياه فلا تكسر العمود كما توضح د.آمال. أما المستويان العلويان فيأخذان شكل المربع، الأعلى منه أكبر من الأسفل، لتقليل ضغط المياه على جسم المقياس. ويجرى على جدران البئر من الداخل درج يصل إلى القاع، ويتصل المقياس بالنيل بثلاثة فتحات (أنفاق) فى الجانب الشرقى فى كل من مستوياته الثلاث، تدخل منها المياه للبئر، هذا الجانب الشرقى تقل، بل تنعدم فيه التيارات المائية، لأن مياه نهر النيل تسير من الجنوب إلى الشمال، مما يعمل على الحفاظ على ثبات مستوى المياه داخل البئر وبالتالى يسهل قياسها بدقة. •