أول ما قد يتبادر للذهن عند قراءة العنوان السابق هو: كيف ترتبط المسلسلات بالمحيط، ولم قد لا يكون المحيط أزرق؟ تبدأ إجابة هذه الأسئلة بتساؤل أيضاً: ألم يعد تكدس المسلسلات الرمضانية عائقاً يمنع المشاهدين من الاستمتاع بها ويضيق المجال على صناعة الدراما التليفزيونية كى تنمو رغم كم هذا الإنتاج؟ لنبدأ باستراتيجية المحيط الأزرق (Blue Ocean Strategy)وهى مفهوم جديد فى عالم الإدارة الاستراتيجية والتسويقية ظهر لأول مرة عام 2005 فى كتاب بذات العنوان لاثنين من أساتذة علوم الإدارة البارزين؛ حيث ناقشا فيه ملاحظاتهما أن التوجهات التسويقية المعتادة تعتمد على الصراع المباشر بين الشركات للسيطرة على حصص أكبر من نفس الأسواق التى تزداد ضيقاً وازدحاماً حتى يتحول هذا التنافس إلى صراع دموى يصبغ محيط التنافس باللون القرمزي، والذى أطلقا عليه المحيط الأحمر (Red Ocean) ، وكان الحل الذى استنبطاه من دراسة العشرات من التحركات الاستراتيجية للشركات؛ أن النجاح المحقق فى ظل تلك الأسواق إنما يأتى من خلال التحرك نحو أو خلق أسواق جديدة كلياً تتمتع بالرحابة وفرص النمو الواسعة، والتى أطلقا عليها «Blue Ocean». من هنا يمكن أن يتضح جلياً كيف أن خروج مسلسلات رمضان إلى المحيط الأزرق يمكن أن يعد تحركاً استراتيجياً فعّالاً يسمح بفتح مجالات مشاهدة أوسع ونموذجاً اقتصادياً أكثر ربحاً لتلك الأعمال والقنوات التى تعرضها. ورغم أن استراتيجية المحيط الأزرق تعتمد على العديد من آليات الإبداع لخلق الأسواق الجديدة؛ فإننا فى حالة مسلسلات رمضان يمكن أن نبدأ أولاً بالخروج من الحيز الخانق (الذى يفرضه العرض الأول لجميع المسلسلات خلال شهر واحد) إلى أفق أوسع يسمح حينها بالإبداع والتطوير. ولكى نستطيع أن نبدأ هذه المناقشة يجب أن نتوقف لحظات لنفهم كيف تكوّن الوضع الحالي، فأحد الأسباب التى درج الحديث عنها أن عادات المشاهدة التليفزيونية الرمضانية طالما فتحت مجالاً لا شك فيه لنسب مشاهدة أوسع عما اعتدناه فى أى من مواسم وأنماط المشاهدة الأخري؛ خصوصًا عندما توافق شهر رمضان مع موسم الإجازات الصيفية منذ العديد من السنوات، وبالطبع كان قراراً سهلاً على القنوات التليفزيونية (الأقل عددا فى حينها) أن تضاعف معدل شرائها للأعمال الدرامية آملةً أن تحصل على حصة أكبر من سوق الإعلانات التى تغذى جميع منصات الإعلام المجاني. وعاماً بعد عام بدأ الإنتاج الدرامى يتركز حول هذه الظاهرة بكثافة مطَّردة حتى أصبح شهر رمضان بلا منازع سوق العرض الأول التى تحصل فيها كل الأعمال الدرامية على فرصتها التنافسية ومن ثم يتحدد (وفقاً لمدى نجاحها) فرصها فى العرض الثانى من عدمه. هذا النموذج الحالى يحمل فى طياته العديد من العيوب التى تزداد ظهوراً كلما زاد عدد الأعمال والقنوات المتصارعة، منها أن القيمة التجارية (المبنية على الإعلانات) للعرض الأول تم استهلاكها بالفعل وأحداث معظم تلك الأعمال تم كشفها حتى لمن لم يشاهدوها مفقداً إياها الجاذبية عند العرض الثانى لقطاع عريض من مشاهديها المحتملين. أيضاً العديد من المسلسلات التى لم تنج من الصراع تفقد فرصها فى العرض الثانى الجيد متحولة بذلك مباشرة إلى المشاهدة عبر الإنترنت، التى قد تكون بدورها غير مربحة لمسلسل سبق عرضه بلا نجاح مسبقاً. أما بالنسبة للقنوات التى لم تنجح فى اجتذاب الكم الكافى من الإعلانات فى غضون هذه الفترة القصيرة فإنها تتكبد خسائر مزعجة تستلزم الكثير لتعويضها؛ خصوصًا أنها أنفقت بالفعل أجزاءً لا يستهان بها من ميزانياتها السنوية لشراء حقوق العرض الأول الحصرى أو المشترك لتلك البرامج والأعمال. وهنا يأتى السؤال المنطقى الذى يطرح نفسه: ألا تحظى شاشة التليفزيون بنسب مشاهدة جيدة إلا فى رمضان؟ لسنا- حتي- بحاجة إلى أرقام رسمية معلنة لنعلم أن هذا غير صحيح وأن مشاهدة التليفزيون لاتزال جزءًا لا يتجزّأ من عادات الغالبية من المنازل فى مصر التى ترتبط بشكل رئيس بأنماط الحياة اليومية، مثل العمل والاستذكار وأعمال المنزل لكل من فئات المشاهدين على حدة. ولذا نرى القنوات المختلفة تقبل بشدة على شراء حقوق العرض للمسلسلات المدبلجة المختلفة، بالإضافة لترخيص العرض الثانى لمسلسلات رمضان لباقى شهور السنة، وبحيث تعرض كل منها فى الأوقات التى تناسب فئة مشاهديها، ومن ثم نجد تلك المسلسلات بدورها محملة بالكثير من الإعلانات التى تؤكد نجاح تلك المنظومة العام. ولكن يجب التوقف لحظات عند المسلسلات المدبلجة، فمميزاتها لدى القنوات لا تتوقف عند رواجها بين المشاهدين وإنما تمتد إلى كثرة عدد حلقاتها (التى تصل أحياناً إلى المئات)، الأمر الذى يمنح تلك القنوات استقراراً فى جدول عرضها على المدى الطويل مما يسمح لها بالدخول فى عقود إعلانية طويلة المدى مرسخة بذلك استقرارها الاقتصادي. وإذا قارنا ذلك بنموذج المسلسلات المصرية ذات الثلاثين حلقة التى تعرض يومياً وتنتهى سريعاً؛ يمكن بسهولة استنتاج الميزة الإضافية التى تحققها تلك المسلسلات المدبلجة خارج نطاق عرض رمضان الأول. إذاً؛ ماذا قد يحدث إذا خرج أحد المسلسلات من السباق الرمضانى وعرض لأول مرة خارج هذا الموسم؟ حدث هذا بالفعل سابقاً مع إحدى القنوات الفضائية الواسعة الانتشار منذ عامين؛ حيث لم ينته تصوير أحد مسلسلاتهم فى موعد العرض الرمضانى وتم عرضه بعد انتهاء موسم الإجازات الصيفية.. لَم ينجح هذا المسلسل جماهيرياً وإعلامياً فحسب بل إن كثافة فقراته الإعلانية أكدت نجاحه الاقتصادى كذلك؛ حيث بلغت مدة الفقرات الإعلانية التى تخللت أحد أيام العرض إلى سبع وأربعين دقيقة من الإعلانات مقابل نحو خمس وثلاثين دقيقة لأحداث المسلسل، ولم يكن هذا يوماً استثنائياً فقد ظل هذا هو متوسط الكثافة الإعلانية طوال فترة عرض التاسعة مساء يومياً حين استطاعت إعادة عرض الواحدة صباحاً اجتذاب ما يفوق العشرين دقيقة من الإعلانات الإضافية. ولكى يكون هذا الخروج عن موسم رمضان المألوف مدروساً؛ يمكن تفحص ماذا يفعل منتجو وعارضو الأعمال الدرامية حول العالم؟ فإذا أخذنا نموذج الولاياتالمتحدةالأمريكية، وهى من أغزر أسواق الإنتاج التليفزيوني، نجد أن المسلسلات الدرامية تعتمد عموماً على نموذج الإنتاج ذى الميزانية المرتفعة ثم عرض الحلقات أسبوعياً وليس يومياً وبالتالى يتحقق للمحطات التليفزيونية الاستقرار الاقتصادى - حيث يمتد عرض الموسم الواحد لشهور- يمكنها خلالها توقيع عقود إعلانية طويلة المدي، وهو ما يحدث بالفعل كل عام قبل بدء موسم عرض المسلسلات السنوى فيما يشبه المؤتمر لبيع الفقرات الإعلانية طوال الموسم لكبار المعلنين (يمكننا الحديث تفصيلاً عن صناعة وتوزيع المسلسلات الأمريكية المعقدة فى مقال لاحق). أما المسلسلات المدبلجة التى ذكرناها سابقاً فهى تعتمد على أنماط مختلفة مثل التيلينوفيلا (Telenovela) والسوب-أوبرا (Soap Opera) والتى تتميز عادة بالإنتاج منخفض التكلفة ذى العدد الكبير والممتد من الحلقات الذى يناسب العديد من أنماط وفئات المشاهدة. ولأن اقتصاديات إنتاج وعرض البرامج التليفزيونية عالم متشابك ويمكن الاندماج فيه طويلا؛ يمكننا أن نتوقف هنا كى نعيد تساؤلنا مرة أخري: ألم يئن الأوان أن تخرج العديد من أعمال الدراما الرمضانية إلى المحيط الأزرق؟