المسألة دخلت فى الجد.. تؤكد التحليلات التى نزلت زى المطر فى الساحة البريطانية بعد الحادث الإرهابى الذى شهده «جسر ويستمنيستر» وسور مجلس العموم القريب منه بعد ظهر الأربعاء 22 مارس الماضى، أن شرطة لندن على يقين أنها لو استطاعت كشف لغز الرسالة المشفرة التى أرسلها مرتكب الحادث عن طريق «الواتساب»، قبل البدء فى تنفيذ عمله الإجرامى! لكانت قد تمكنت من كشف الجانب الغامض من مسيرته الإجرامية! وربما معرفة من كان على اتصال بهم فى آخر دقيقتين قبل أن يقدم على جريمته التى راح ضحيتها أربعة أبرياء. لجأت قيادة الشرطة اللندنية إلى التفاهم الودى مع الشركة التى تنظم تداول برامج الواتساب لكى تمكنها «بشكل أخوى» من كشف الغطاء، لكنها قوبلت باعتذار رقيق مبطن «بعدم قانونية المطلب» الذى كان يسعدها أن تستجيب له، لولا صيغة التعاقد بينها وبين عملائها التى لو لم تحترمها «لجرجروها إلى المحاكم التى ستغرمها ملايين الجنيهات» الأمر الذى لا ترضاه له الأجهزة الأمنية. محاولة تفاهم لم تفتح الباب لتوافق، دفعت كلا الطرفين إلى شحذ أسلحته المعنوية لكى يدافع عن متانة موقفه حيال الحقوق المجتمعية للمواطن إذا ما حانت لحظة التصادم بالأسلحة القانونية شديدة الفتك.. شرطة لندن لا تملك الحق القانونى لإلزام خدمة الواتساب أن تكشف نص الرسالة.. ونظام تعاقدات الواتس آب القائم على السرية يمنح الملايين من المتعاقدين معها الحق القانونى أن يقاضوها ويخربوا بيتها وهم ضامنون لما سيحكم لهم به من تعويضات هائلة. الصدام الذى يتوقعه البعض، ليس بجديد.. لأنه أصبح يمثل ساحة للأخذ والرد والضرب تحت الحزام هنا وهناك، بعد أن تحولت وسائل التواصل الاجتماعى إلى ساحة للمعارك بين الأجهزة الأمنية والجماعات الإرهابية التى جعلت من تقنيات الشركات العاملة فى هذا الميدان، ذراعها النشطة على مستوى التجنيد والدعاية من ناحية ونشر الأخبار وترويج القدرات وادعاء الاختراق والنفاد من ناحية ثانية وتسريب التعليمات والخطط للقيام بعمليات إرهابية من ناحية ثالثة .. المنظمات الإرهابية تفننت إلى حد كبير فى استخدام إمكانيات الفيس بوك وأخواته للترويج لأفكارها وتسويق فلسفتها وتزيين دعواتها وتسهيل انضمام المُغرر بهم إلى صفوفها، ولنشر المعلومات عن نشاطاتها .. هذا التفنن زاد وانتشر واتسع لأن الآلاف ممن يتلقون مثل هذه الرسائل يعيدون بثها وتوزيعها دون روية أو تفكير بين المشتركين معهم فى نفس الوسيلة، حتى ولو لم يكونوا مؤيدين لهذه الأنظمة أو متعاطفين مع توجهاتها. وكانت النتيجة أن صدق السذج الأفكار والدعايات والانتصارات الوهمية، وزجوا بأنفسهم دون تبصر فى قلب هذه المنظمات الإرهابية وعلى هامشها دون تدبر لحقيقة ما يعرض عليهم أو بحث فى مدى مصداقية ما يقال لهم. الأجهزة الأمنية الغربية أدارت ظهرها لعدة سنوات لمثل هذه التداعيات التى كانت تتوسع فى الشرق الأوسط لأن نيرانها لم تكن قد اقتربت من ذيلها.. وعندما أصابتها شرارتها فى مقتل، انتبهت .. بعد فوات أوان الفعل الإيجابى السريع، لأن قرارها الفورى بإزالة حوالى نصف مليون منشور «متطرف» من فوق صفحات الشبكة العنكبوتية، لم يوفر لمجتمعاته السلامة ولا الاستقرار بدليل ما جرى فى فرنسا وبلجيكا وهولندا.. وبريطانيا. المصير كل ده كوم والصدام بين المصالح المجتمعية والخصوصية، كوم تانى.. هل سيكون مصيره نفس المصير الذى بلغته معركة شركة آبل مع مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكى - اشتهرت باسم Apple VS. FBI - الذى طالبها بتقديم العون التقنى لضباطه لكشف شفرة هاتف آى فون استخدمه أحد منفذى اعتداء «سان برناردينو» الإرهابى الذى وقع فى ولاية كاليفورنيا منتصف ديسمبر 2015 وراح ضحيته 14 بريئًا، لكى يتمكنوا من التعرف على محتوياته التى «ربما تقود لمعرفة المزيد من المعلومات عنه».. ولكن القضاء «رفض الدعوى» التى أقامتها وزارة العدل الأمريكية وأيد القول السائد «إن هذا الطلب يعد تجاوزاً من جانب السلطات التنفيذية لحريات المواطنين، حتى لو كان بهدف الحصول على بيانات ومعلومات خاصة تخدم الأمن العام» أم تنجح الأجهزة البريطانية المختصة على المستويين التشريعى والأمنى فيما فشلت فيه نظيراتها الأمريكية! وتتمكن ولو بعد جهد من استصدار قوانين ملزمة لشركات التواصل الاجتماعى تفرض عليها ضرورات التجاوب مع احتياجات الأمن المجتمعى ومصالحه العليا فى حدود ما يمنع وقوع جريمة أو يقود إلى فك طلاسمها وكشف شفرتها السرية. هناك أمران يجب أخذهما فى الاعتبار.. الأول.. أن رؤساء مجالس إدارات جوجل وواتس آب وفيس بوك وتويتر، وقفوا فى صف آبل فى دعوتها، استجابة للشعار الذى يؤكد أن تعاقداتهم مع المستخدمين لخدماتهم «تنص على حماية خصوصياتهم». فى اللحظة الراهنة، علينا أن نعترف .. أن القضاء البريطانى يبدو متمسكاً إلى حد كبير بضرورة احترام خصوصية المواطنين وبحق مستخدمى وسائل التواصل الاجتماعى فى عدم الكشف عن بياناتهم بلا سند قانونى يتعامل مع كل حالة على حدة. وأن الأمن المجتمعى على مستوى المملكة المتحدة وفى العديد من الدول الأوروبية أصبح يُشكل هاجساً ومصدراً للمخاوف التى تفرض على جميع الأطراف المسئولة عن استتبابه أن تقلل من حجم مخاوف أبنائه، لكى تشيع الطمأنينة بين المواطنين وتتراجع أسباب التوتر وعدم الاستقرار. إن رفع شعار الوقاية أقل تكلفة من العلاج، جذب الكثير من قطاعات المجتمع إلى دائرة الضغط على شركات التواصل الاجتماعى لكى تستجيب لمطالب الأجهزة الأمنية فيما يتعلق بكشف أسرار أصحاب السجلات الإجرامية وذوى النزعات الإرهابية ومعتنقى الأفكار المتطرفة، بهدف استباق عملياتهم الدموية التى ربما يكونون فى طور التخطيط لها لوقفها أو للحد من نتائجها التى تحصد أرواح الأبرياء على أقل تقدير.. إن مسألة الخصوصية عندما توضع فى كفة فى مقابل المصالح المجتمعية، بالتأكيد سترجح كفة المجتمع وسلامته بكل المقاييس. • أما هؤلاء.. الذين يتحدثون ليل نهار عما حققته التقنيات المستحدثة من إيجابيات انعكست بكثافة على حياة ملايين البشر فى كل مكان، عليهم أن يعترفوا أنها أيضاً جلبت على المجتمعات البشرية شلالات من المصائب. وعليهم عندما يدافعون عن الخصوصيات أن يخجلوا من أنفسهم بعدما كشفت صحيفة الواشنطن بوست مؤخراً أن أجهزة التليفزيون الذكية تقوم بعمليات تنصت على أصحاب المكان حتى وهى مغلقة! حق المواطن فى الدفاع عن خصوصياته يصونه القانون، لكن إذا تعارضت هذه الخصوصية مع مصالح المجتمع! لا بد للمشرع أن يجد وسيلة تمنح الأجهزة المختصة القوة القانونية التى تساعدها على اقتحام جدارها بشكل فردى فى ضوء معلومات تفيد بأن صاحبها ربما يُشكل مصدر إرهاب وترويع للمجتمع. • من جانبى.. أتوقع أن تشهد دوائر المجتمع البريطانى السياسية والأمنية حالة من الشد والجذب بين المتمسكين بضرورة احترام خصوصية الأفراد وبين المدافعين عن أمن المجتمع واستقراره، وأزعم أن الطرفين سيتوصلان إلى تقنين صيغة توافقية تجمع بين الاحتياجين.. عدم التفريط فى خصوصية الفرد وحقه فى عدم الكشف عن مكنون أسراره وحياته الخاصة، وحق المجتمع فى محاربة من يسيئون استخدام هذه الخصوصية ويستترون بها لتنفيذ مخططات إرهابية! عن طريق منح الأجهزة الأمنية الحق فى الكشف عن أفكارهم الإرهابية ومخططاتهم الدموية لحماية المجتمع والمواطنين من نتائجها الكارثية. •