بدون مقدمات.. ها أنا ذا فى برودواى مرة أخرى برودواى.. وما أدراك ما برودواى!! إنه أهم شارع للمسارح فى العالم كله.. أيقنت أنه واحد من أهم الأماكن الفنية التى يشد إليها الرجال.. فشديته!!.. لو لم تملك أمريكا إلا هذا الشارع لكفاها إذا كانت باريس هى مدينة النور فى هذا العالم والأقصر هى أيقونة الآثار وألمانيا هى موطن الآلات.. وموسكو هى جنة النحاتين.. فإن شارع برودواى هو عاصمة المسرح والاستعراض فى العالم.. ويكفى أن أذكر هنا أن أكثر من أربعين عرضا يتم تقديمهم يوميا على مسارح برودواى.. بعض هذه العروض مستمر من عشرات السنين وبعضها يضطر أصحابها نظراً لشدة الإقبال لتقديمها لمرتين فى اليوم!! ويكفى أن أذكر أن آخر إحصاء حول عدد مرتادى مسارح برودواى يقول إنهم أكثر من 12 مليون مشاهد فى العام الواحد.. يدفعون أكثر من مليار دولار ثمنا للتذاكر!! العدد الأقل من هؤلاء هم من أبناء مدينة نيويورك.. أما العدد الأكبر فهو يأتى من السائحين من خارج أمريكا وكذلك من باقى الولاياتالأمريكية. الجدير بالذكر هنا أنك تستطيع (بدون وجود بيانات رسمية) أن تضيف إلى المليار دولار ثمن دخول هذه المسرحيات.. مليار دولار أخرى تقريبا ثمن ما يباع داخل هذه المسارح وفى بعض المحلات المتخصصة فى المنطقة المحيطة بشارع برودواى.. أما هذه المبيعات فهى عبارة عن سيديهات أغان لهذه العروض.. كتب معلومات وصور.. تيشرتات.. قبعات.. كروت.. وكل ما يمكن أن تتخيله أو لا تتخيله من هدايا تستخدم صورا من العرض أو شعار العرض. برودواى ماذا يريد المخرج المسرحى..؟! قطيع من البقر يجرى على المسرح..؟! ممثل يسقط من أعلى المسرح فى مشهد موته.. دون أن يصيبه أذى..؟! مشهد لسطوع قرص الشمس أو مشهد لاختفائه..؟! ظهور بشر أو كتل ديكورية على المسرح فجأة أو اختفاؤها فجأة..؟! شلال ماء..؟! تماسيح تنتظر من يسقط مع شلال الماء..؟! خروج جبل من أرض المسرح.. ودخوله مرة أخرى بعد أن ينتهى دوره..؟! أناس يطيرون فوق رؤوس الجمهور..؟! ممثل يسير على جدران المسرح أو يسير على سقف المسرح ورأسه إلى أسفل؟؟ لا مشكلة.. كل هذا ممكن جميع مسارح برودواى مجهزة لهذا ولما هو أكثر منه!! الحلول بسيطة وعلمية وفنية ومبتكرة وممتعة وتجعل كل هذا يحدث أمامك بلا خطأ واحد. الانضباط فى العرض لا يحتمل أن يضيف أحد الممثلين جزءا من الثانية إلى دوره .. ولا كلمة إلى كلامه.. ولا (إيفيه) جاء له عفو الخاطر. ••• لا تحدثنى هنا عن حرية الممثل فى الإبداع والإضافة والتعبير وكل هذا الهراء الذى يملأ مسرحنا فيجعله مسرحا عشوائيا.. أو يخرج أغلب ما نراه فى مصر على خشبة المسرح.. من فن المسرح.. وينسبه إلى المولد الذى غاب صاحبه. ••• أعظم مشهد يعبر بشكل مكثف عن هذا الانضباط رأيته فى مسرحية «سكول أوف ذَا روك».. بطل وبطلة المسرحية يجلسان فى حانة يتبادلان حديثا منفعلا وفى خلفية حوارهما تشدو أغنية مسجلة.. وهى أغنية ذات رتم سريع.. تأتى فى أثناء الحوار جملة ينطق بها الممثل أو الممثلة.. وتكون فى نفس الوقت وبنفس النص هى جملة داخل الأغنية.. يحدث هذا بحيث يغنى الممثل جملته مع جملة الأغنية. تكمل الأغنية انطلاقتها.. ويكمل الحوار مساره.. حتى يلتقيان فى جملة أخرى.. دون خطأ ولو فى نفس واحد. ••• أما قمة التكنولوجيا بالنسبة لى فقد شاهدته فى مسرحية «مارى بوبنز» التى تملك مظلة تطير بها.. أعلى خشبة المسرح.. من الطبيعى أن تحدث مثل هذه الخدع فى السينما ولكن نقل هذه الخدع إلى خشبة المسرح يشبه الإعجاز.. وحتى يكتمل الإعجاز فإن مخرج العمل يقرر أن تطير مارى بوبنز بمظلتها من المسرح إلى جمهور الدور الثانى ثم تعود إلى المسرح مرة أخرى!!! ••• أرجو ألا يعتقد أحد أن المسألة تكنولوجيا فى تكنولوجيا.. فقدرات الممثلين أكثر من مذهلة تمثيل وغناء ورقص استعراضى وتحكم فى النفس والصوت وسيطرة كاملة على كل عضلة فى الجسد.. والعزف إذا تطلب الأمر كما فى حالة الثلاثة عشر طفلا وطفلة الذين قاموا ببطولة عرض سكول أوف ذَا روك والذين لا يتخطى عمر أحدهم الحادية عشرة ••• هذا عمن نراهم أمامنا.. ولكنك وأنت فى طريقك إلى خارج المسرح.. تجد أن شعورا بالحب والامتنان يملؤك تجاه هؤلاء الفنانين والمساعدين والفنيين والحرفيين الذين لم ترهم ولكنهم كانوا أصحاب مجهود خرافى وحركة دائبة فى الكواليس تصب نتيجتها على المسرح - بلا خطأ واحد - فى عروض تستمر يوميا لعدة سنوات.. وتعرض فى بعض الأيام مرتين مرة فى الثانية ظهرا واُخرى فى السابعة مساء. أذهلنى من هؤلاء مخرج عرض شيكاجو.. الذى أقدم على تحد لم أره على المسرح فى حياتى. هذا المخرج يتحداك كمشاهد أنك لن تغفل لك عين ولن يشرد لك ذهن ولن يضيع منك كادر واحد مما يحدث فى مقدمة المسرح. • شيكاجو هى واحدة من أهم مسرحيات برودواى شاهدتها مرتين على مسرح أمباسادور وعندى استعداد أن أراها ولو عشر مرات أخرى!! أحداث هذه المسرحية.. تحولت إلى فيلم سينمائى قام ببطولته (ريتشارد جير).. عام 2002 وحصل الفيلم على عدة جوائز أوسكار. المسرحية كتبتها فى عشرينيات القرن الماضى مارلين دالاس ووتكن.. وهى تعرض على مسارح برودواى منذ عشرات السنين. العرض من إخراج وولتر بوبى الذى قدم - من وجهة نظرى هو ومصمم الديكور جون لى بيتى - معجزة مسرحية بكل المقاييس. لقد ترك المخرج ما لا يزيد على ثلاثة أو أربعة أمتار فى مقدمة المسرح لحركة الممثلين. ثم «بنى» الديكور على شكل يقترب من شكل «المدرج» يستحوذ على ثلثى مساحة المسرح أفقيا ورأسيا. يجلس فى هذا «البناء» حوالى أربعة عشر عازفا موسيقيا وأمامهم تقف قائدة الأوركسترا ليزى ستايفلمان. هناك «بابان» فى هذا المدرج يفتحان على خلفية المسرح.. استخدمهما المخرج لدخول وخروج الممثلين بالإضافة للطريقة التقليدية للدخول والخروج من جانبى المسرح.. هذا هو أقوى تحد شاهدته على المسرح فى حياتى. المخرج يضع الأوركسترا فى مساحة تشغل ثلثى الفراغ المسرحى أفقيا ورأسيا.. ويقول لك بالفم المليان.. إن وجود هؤلاء بهذا الشكل لن يعيقك كمتفرج عن متابعة الدراما الموسيقية العظمى التى يقدمها «الممثلون» الواقفون على مقدمة المسرح يفصلون بين الجمهور وبين الأوركسترا!! الإضاءة والملابس صنعا عنصرا حاسما فى تغييب إحساس الجمهور بهذا.. «الحضور المكانى» للأوركسترا.. الذى اعتدنا فى كل ما رأينا من عروض مسرحية أن يكون مختفيا.. فى أسفل خشبة المسرح أو موجود فى مكان جانبى من الصفوف الأولى. التحدى الآخر فى هذا العرض كان هو أنه (أبيض وأسود)!! نعم جميع قطع الديكور وجميع ملابس الممثلين والمطربين والراقصين والعازفين (أبيض وأسود) باستثناء استعراض واحد.. • شيكاجو تلمس المسرحية موضوعا مهما يطرح نفسه بقوة فى المجتمعات الحديثة.. حيث التأثير الرهيب للإعلام على مجمل الحياة.. وعلى الحقائق.. وعلى العدالة. الحقائق فى المجتمع أصبحت ما يقوله الإعلام.. وليس ما تقوله الوقائع. العدالة فى المجتمع هى ما يوحى به الإعلام.. وليس ما يقوله القانون، من يصل إلى الإعلام.. يصل إلى الشهرة.. ومن يصل إلى الشهرة يستطيع أن يخلق قانونا جديدا تتحكم فيه المشاعر.. وليس له علاقة بالقانون الذى تحكم به المحاكم. ••• فى الفيلم الأمريكى «ذئب وول ستريت» يقول البطل «أية دعاية هى دعاية جيدة»!! لا يعترف هذا المنطق بأن هناك دعاية سيئة. شهرة الإنسان بأية طريقة تفتح له أبواب المجد!! وفى فيلم «تليفزيون إد».. يقول أحد الأبطال «الشهرة فضيلة أخلاقية فى هذا البلد»!! ويستطرد «فى الماضى كان الناس مشهورين لأنهم متميزون.. والآن أصبحوا متميزين لأنهم مشهورون»!!! لقد اكتشفت مارلين دالاس مؤلفة مسرحية «شيكاجو» هذه القوانين التى فعلت فعلها فى طريقة تطور المجتمع الأمريكى.. وصاغتها فى مسرحية تحكى قصة المحامى «فريد كاسلى». الذى يحيا فى مدينة شيكاجو فى العشرينيات من القرن الماضى.. لقد اكتشف هذا المحامى «قانون الشهرة» وكيف يمكن من خلاله أن يتلاعب بقوانين المحاكم.. ليحول الجناة إلى ضحايا أمام الرأى العام.. مما يؤدى فى النهاية إلى حصولهم على البراءة. تحكى المسرحية عن «روكسى هارت» التى تخون زوجها مع عشيقها.. وفى نوبة انفعال تقتل هذا العشيق.. وداخل السجن يأتيها المحامى فريد كاسلى الذى يحصل على توكيل بالدفاع عنها.. طبقا لطريقته فى اجتذاب «الإعلام» إلى المتهمة ليحولها إلى ضحية وهنا تتحول «روكسى هارت» إلى فتاة غلاف.. وبالتالى إلى ملكة متوجة داخل السجن!! ولكن.. هذا التطور يسحب البساط من تحت أقدام «فيلما كيلى»، «زبونة» المحامى الأخرى داخل نفس السجن والمتهمة بقتل زوجها واختها بعد اكتشافها لعلاقتهما الآثمة!! والتى كانت أهم شخصية لدى الإعلام قبل أن ترتكب روكسى هارت جريمتها. ينشأ الصراع بين «القاتلتين» النجمتين على من تستطيع ان تجتذب «وسائل الإعلام» أكثر.. حتى يظل الاهتمام بها متوهجا.. (بها وليس بقضيتها).. لقد اكتشفت القاتلتان «قانون الإعلام» الذى أقر أن «الشهرة» أصبحت «فضيلة أخلاقية» فى هذا المجتمع. حتى تأتى النهاية العجيبة التى تقر بسطوة الإعلام.. وتشير إلى أفضلية شهوة الشهرة على كل ما عداها. تحصل «روكسى هارت» على البراءة.. ولكنها تكون فى قمة الحزن حينما تتجه كاميرات الصحافة والتليفزيون إلى قاتلة جديدة ستكون هى حديث الساعة! براءة روكسى هارت ونجاتها من حبل المشنقة لم يكن مبرراً للفرح.. ولكن انحسار الأضواء عنها كان مبرراً للحزن!! • شيكاجو الجانب الآخر - فى الدراما المسرحية - لكل هذا الصخب والضجيج .. كان يمثله شخصية «آموس هارت» زوج «روكسى هارت» وقد جسد الممثل العبقرى رايموند بخور RAyMoND BokHouR هذه الشخصية ببساطة مدهشة.. تركت علامة كبيرة برغم مساحة ظهوره البسيطة فى هذا العرض المبهر.. لقد كانت هذه الشخصية بمثابة المعادل الموضوعى لكل ما تمثله الشهرة من بريق يخطف الأبصار فيعميها عن كل ما له جوهر حقيقى غير مصطنع فى مجتمعاتنا الحديثة. هذا الزوج المحب لزوجته.. يقتنع بضرورة وقوفه بجانبها عندما قتلت عشيقها ليمثل هنا قيمة الحب وقيمة النُبل!! ولكن.. ماذا تفيد هذه القيم؟! وهل يمكن أن تلفت نظر الإعلام؟! الإجابة.. لا. الإعلام والمجتمع الذى يتغذى على الفضائح وعلى الإثارة يطغى على مثل هذه القيم.. ولا ينظر - مجرد نظرة - إلى من يجسدها.. حتى يتحول من يجسدون هذا القيم إلى كائنات غير مرئية!! وهو ما عبرت عنه أغنية (مستر سوليفان ) التى غناها (آموس هارت) الذى تحول إلى كائن لا يراه أحد بالضبط مثل ورق السوليفان الشفاف. تقول كلمات الأغنية: إذا وقف أحدهم فى حشد ورفع صوته صائحا ولوّح بذراعه وحرّك ساقه ستلاحظه إذا صاح أحدهم وهو فى عرض سينمائى لقد شبت النار فى الصف الثانى هذا المكان كله برميل بارود ستلاحظه الكل يمكن ملاحظته بين وقت وآخر إلا اذا كان هذا الشخص غير مرئى.. وغير محسوس مثلى السيلوفان كان يجب أن يكون اسمى السيد سيلوفان يمكنك النظر من خلالى أو السير بجانبى دون أن تعلم أننى هناك •• فى بداية الاغنية يأتى «راموس هارت» من «باب» فى المدرج الذى يجلس فيه العازفون.. فيكون فى مواجهة المايسترو الفنانة ليزلى ستايفلمان.. يحييها فلا تلتفت إليه.. يضع يده أمام وجهها فتستمر فى توجيه الأوركسترا دون أى إيحاء بأنها تراه.. وفى نهاية الأغنية.. يقول: أرجو ألا اكون أخذت الكثير من وقتكم !! يعتذر السيد سيلوفان عن الوقت الذى اضطررنا فيه إلى الاستماع إليه.. يقولها وهو خارج من المسرح.. وبعد أن أصبح ظهره للجمهور.. بالنسبة لى فإن هذه الأغنية هى إحدى أهم محطات العمل.. بالرغم من أهمية كل تفصيلة فى المسرحية.. وبالرغم من شيوع بعض أغنياتها حتى أصبحت من كلاسيكيات الغناء العالمى.. مثل أغنية (كل هذا الجاز). وعلى الرغم من الحضور المذهل تمثيلا ورقصا وغناءً من جميع عناصر العمل وفى مقدمتهم شارلوت دامبواز التى قامت بدور روكسى هارت.. وبجوارها أمرا فاى رايت التى قامت بدور فيلما كيلى. • شيكاجو عندما تنتهى هذا المسرحية العبقرية وتشحنك بكل هذه المشاعر الممتعة تجاه ما يقدم من فن خالص.. تعود إلى العالم الواقعى دون أن تنسى الكلمات التى قيلت فى أول المسرحية. (سيداتى سادتى.. أهلا بكم.. ستشاهدون عرضا عن القتل والطمع والفساد والعنف والاستغلال والزنى والخيانة.. وكلها أشياء نحبها ونضعها بالقرب من قلوبنا!!). إنها مسرحية تعرى الواقع البشع بأجمل الوسائل! •