لوعدنا للتاريخ فسنذكر أن «هنا لندن» كانت كلمة السرّعلى مدى عقود طويلة من الزمن لكل من يبحث عن الأخبار الصادقة والأسرار والحقائق التى كانت تخفى على الناس قبل أن تكشف عنها «B.B.C» الإذاعة البريطانية الناطقة باللغة العربية والموجهة إلى كل من يعرف هذه اللغة. كانت قناعة عامة الناس وأيضا القيادات السياسية والحكام العرب هى أن «B.B.C» لا تنطق عن الهوى.. وأنها رمز للحياد والموضوعية والتوازن والصدق المهنى.. وكانوا ينسبون ذلك لعدد من الأسباب أولها أن هيئة الإذاعة البريطانية مستقلة عن الدولة والحكومة والأحزاب البريطانية، فهى مؤسسة أهلية تعتمد فى مواردها على حصيلة الاشتراكات السنوية التى يسددها ملايين المستمعين والمشاهدين وتصل الآن إلى 145جنيها إسترلينيا يدفعها كل بيت كل سنة والمجموع هو عدة مليارات . وتضع «B.B.C» سياساتها التحريرية بعيدا عن تدخل الحكومة والبرلمان وأجهزة الدولة الأخرى والأحزاب ونقابات العمال واتحادات رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى وجماعات الضغط «اللوبيات» وغيرها من القوى المؤثرة فى الحياة البريطانية. ولها مجلس أمناء من الشخصيات العامة والإعلاميين ورجال السياسة والقانون والعلوم والفنون والأكاديميين وطبعا قيادات من العاملين فى الهيئة، يعتمد تشكيله البرلمان ويصدق على تعيينه رئيس الحكومة كإجراء شكلى، حيث ليس لرئيس الحكومة أى نفوذ على الهيئة، وفى أحيان كثيرة يحدث تصادم وخلاف وصراع بين «B.B.C» وبين رئيس الحكومة ونراه يلجأ أحيانا إلى الصحافة أو البرلمان للشكوى من مواقفها المستقلة وانتقاداتها لسياساته ومن توجهاتها التى لاتتطابق بالضرورة مع سياسات الحكومة سواء كانت بزعامة حزب العمال أو المحافظين. وكان تشرشل مثلا لايهتم بالتليفزيون الذى كان ظهوره حديثا فى زمن حكومته، لكنه بكى فى عيد ميلاده الثمانين عندما شاهد فيلما تسجيليا عن حياته من إنتاج «B.B.C»، ووافق على التحدث إلى التليفزيون وأن يصوره وهو يتابع الفيلم. أما أنتونى إيدن فكانت له معركة ساخنة مع ال«بيب» وهى التسمية المختصرة لهيئة الإذاعة البريطانية وكان ذلك خلال العدوان الثلاثى على مصر 1956 من المعارك الشهيرة أيضا ما خاضته «B.B.C» من معارك ضد مارجريت تاتشر بسبب حربها ضد الأرجنتين.. ومعركة أخرى خاضتها الهيئة ضد تونى بلير لتكذيب ادعاءاته التى برر بها التبعية لإدارة بوش الصغير فى أمريكا لغزو العراق ومعروف أن بعض الزعماء السياسيين يطالبون حتى الآن بمحاكمة تونى بلير كمجرم حرب. • «القوة الناعمة» البريطانية على مدى نحو80 عاما عرف العرب الإذاعة الناطقة بالعربية «هنا لندن» التى انطلقت فى عام 1938 كأقدم وأقوى وأكبر إذاعة عرفها العالم بهذه اللغة وتتمتع بأكبر شبكة من المراسلين والمكاتب تغطى العالم كله.. وكانت أول محطة تنطلق من لندن بلغة غير الإنجليزية. ومع أن إطلاقها كان بهدف واضح هو استخدام القوة الناعمة فى السيطرة على الشعب العربى فى كل مكان، وتصدير الفكر والسياسة والثقافة البريطانية وغسل مخ العرب، لضمان استمرار تبعيتهم وضمان استمرار احتلال بلادهم ونهب خيراتهم.. وكلها أهداف استعمارية واضحة، فقد ولدت ال«B.B.C» العربية عندما كانت بريطانيا امبراطورية عظمى تستعمر أكبر حيز من خريطة العالم.. الامبراطورية التى لا تغرب عنها الشمس. وكانت مصر والعراق وبلدان عربية أخرى تحت الاحتلال البريطانى.. والعرب والوطن العربى مطمع المستعمرين على مدى الزمن وحتى اليوم وغدا.. حضارة وتاريخ ومهد الرسالات السماوية ومخزن الثروات الطبيعية ومحور العالم ومركزه الاستراتيجى وقناة الوصل بين شرقه وغربه، وأيضا أكبر أسواقه التى تروج فيها بضائع ومنتجات الغرب.. وأفكاره. • سؤال منطقى صعب لكن سيسأل سائل: كيف توصف «B.B.C» بالاستقلال والحيادية والموضوعية بينما هى نشأت كأداة استعمارية؟ يبدو السؤال منطقيا.. لكن التدقيق فى الأمر وتحرى التفاصيل يضع أيدينا على الحقيقة.. القصة باختصار هى أن إنشاء محطات إذاعة موجهة باللغات الأجنبية، والعربية أكبرها وأولها وتشمل نحو 36 إذاعة، كان مشروعا تقدمت به وزارة المستعمرات وقتها لتحقيق الأهداف الاستعمارية للإمبراطورية، ولأن الحكومة البريطانية لاتملك إذاعة تابعة لها.. وليست لديها كوادر متخصصة فى هذا المجال، فقد اضطرت إلى أن توكل المهمة لهيئة الإذاعة البريطانية (المستقلة) لتنفيذها، وهى هيئة كانت قد أنشئت قبل ذلك ب 16سنة، أى لديها الخبرة والكوادر. وكان تمويل الإذاعة العربية وما تلاها من إذاعات بلغات أجنبية يأتى من وزارة المستعمرات التى ألغيت فيما بعد لتقوم بالتمويل وزارة الخارجية، وحتى وقت قريب كانت الوزارة تمول وال«B.B.C» تقوم بالعمل. (انقطع هذا النظام لفترة قصيرة وعاد من جديد).. ولعلنا نفهم من هذا أن سياسة «هنا لندن» العربية كانت محكومة بخط سياسة الدولة. بعكس الحرية التى تتمتع بها «B.B.C» الإنجليزية (الأم) بمحطاتها الإذاعية والتليفزيونية العديدة. لكن علينا أن نلاحظ أن سياسة التحرير فى الهيئة الأم كانت تحكم عمل المحطات الموجهة للعرب وغيرهم.. ومن هنا كان الإحساس الشائع بصدق وحيادية ونزاهة«هنا لندن» لكن الشيطان كما نعلم، يكمن فى التفاصيل، فقد كانت هناك مواقف تكشف بوضوح عن الروح الاستعمارية العنصرية البريطانية ضد العرب.. كما أن هناك مواقف تكشف عن استقلالية «B.B.C» (الأم) الناطقة بلغة بلادها، الإنجليزية، وخروجها على خط الحكومة القائمة ومثال ذلك الموقف البارز من العدوان الثلاثى الذى قادته حكومة المحافظين البريطانية برئاسة انتونى إيدن فى عام 1956 بالتحالف مع فرنسا وإسرائيل، بهدف غزو مصر والاستيلاء على قناة السويس ردا على تأميم الزعيم عبدالناصر لها. • الرأى العام البريطانى ضد حكومة «إيدن» كانت بريطانيا منقسمة على نفسها تجاه هذه الحملة العسكرية المحمومة، فالحكومة بزعامة ايدن، تقود العملية العسكرية لكن الرأى العام والشارع البريطانى وقيادات بارزة فى البرلمان وأحزاب المعارضة والصحافة وحتى وزراء فى حكومة المحافطين، عارضوا العدوان على مصر وكانت لندن تشهد مظاهرات تعارض وقوع بريطانيا فى «أزمة السويس» كما كانت تسمى لديهم.. ونجحت «B.B.C» (الأم) فى نقل صورة هذه الحال من الانقسام وقاومت محاولات إيدن للضغط على قرارها واستمالتها لسياسته بدعوى أن الروح الوطنية تتطلب ذلك.لكن الإذاعة العربية«هنا لندن» الممولة من الحكومة مباشرة خضعت لتوجهات الحكومة، ما نتج عنه رفض الإذاعيين المصريين والعرب لموقفها واستقالتهم احتجاجا على العدوان الثلاثى بزعامة بريطانيا. ولعلنا نذكر قصة المخرج والمذيع المصرى الشهير الذى كان يعمل فى «B.B.C» العربية فى ذلك الوقت وقدم استقالته احتجاجا على الغزو وعلى أداء المحطة وهو الفنان الراحل محمود مرسى الذى عاد إلى الوطن وعمل فى إذاعة البرنامج الثانى الثقافية مخرجا وممثلا ومذيعا ثم اتجه بعد ذلك إلى عالم المسرح والسينما والتليفزيون وأصبح من أعلام الفن كما نعلم. ونعرف أن وزير خارجية بريطانيا وقتها «إنتونى ناتنج» قدم أيضا استقالته من حكومة إيدن احتجاجا ورفضا لقيامها بالعدوان على مصر، ونعرف طبعا أن «أزمة السويس» - كما يسميها الإنجليز - هى التى قصمت ظهر الإمبراطورية البريطانية وأجهزت عليها.. وأتاحت تحرر بلدان وإمارات الخليج العربى فيما بعد.. والغريب هو أن ال«B.B.C» البريطانية (الأم) كانت قد دخلت فى صراع مع حكومة إيدن خلال أزمة السويس، فالحكومة ورئيس الوزراء نفسه أنتونى إيدن، يحاول الترويج لقرار العدوان وغزو مصر.. بينما «B.B.C» لها موقف مختلف.. تريد أن تعكس حال الانقسام والرفض فى الشارع البريطانى لغزو مصر.. ولنقرأ ما كتبه «أندرو مار» رئيس القسم السياسى فى تليفزيون «B.B.C» حاليا، عن أزمة «B.B.C» مع حكومة «أنتونى إيدن»: لقد غيرت أزمة السويس كل شىء، كان «إيدن» سياسيا من الثلاثينيات ونحن فى الستينيات، وكان ممن وقفوا ضد هتلر، وهاهو الآن (1956) يقف ضد «ناصر» ويعتبره هتلر جديدا، ومن هنا كان «إيدن» يرى أن على «B.B.C» بوصفها الإذاعة الوطنية لبريطانيا واجباً وطنياً هو مساندة الحكومة، لكن «B.B.C» رأت الأمور بشكل مختلف، وعندما طالب بحقه فى أن يخاطب الأمة عن أزمة السويس، أعطيت له الفرصة مرتين، لكن الهيئة تحققت من أن الأمة منقسمة على نفسها بشدة حول غزو مصر، وشعرت بأن عليها كهيئة إعلامية وطنية أن تعكس هذا الانقسام، وأنها لا يمكن أن تكون ببساطة مجرد بوق للحكومة، ومن هنا أتاحت لرئيس حزب العمال المعارض «جيتسكل» أن يذيع موقف الحزب ردا على «إيدن» ولم يسعد هذا «إيدن».. وزار لندن حليف حكومة المحافظين وهو رئيس وزراء أستراليا «روبرت منزيس» للمشاركة فى مؤتمر عن مستقبل قناة السويس، واتصل مكتب «إيدن» ليبلغ «B.B.C» بوجود «منزيس» لتسجيل لقاء معه، لكن الرد المؤدب من الهيئة كان: لا.. شكرا!.. واتصل مسئول الصحافة لدى الحكومة برئيسة «B.B.C» «جرايس جولدى» مهددا بأن رئيس الوزراء غاضب بشدة لعدم تسجيل حديث مع «منزيس» وقد يتخذ قرارا يؤذى «B.B.C»! وكان هذا تهديدا بتحطيم استقلالية الهيئة. وحدث فعلا أن وجه «إيدن» وزير ماليته بإعداد خطة تستولى بها الحكومة على «B.B.C» بالكامل، وتجعلها خاضعة لإرادتها. وفيما بعد كشف مسئول الصحافة لدى الحكومة أن «إيدن» كان ينوى إلحاق الإذاعات الموجهة باللغات ومنها العربية، لتبعية الحكومة وإجبار الهيئة على إذاعة بيانات للوزراء وقتما أرادوا مع عدم السماح للمعارضة بالرد على بياناتهم. لكن هيئة الإذاعة تمسكت باستقلاليتها بشدة وحزم، وانهزم «إيدن» فى حرب العدوان الثلاثى على مصر.. وانتصرت عليه «B.B.C». وبعد «أزمة السويس» وقعت اتفاقية تؤكد استقلال «B.B.C» عن أى حكومة، وأقرت حكومة تالية ضرورة إذاعة رد المعارضة على أى بيان للحكومة القائمة، حتى لاتتكرر أزمة حكومة «إيدن» مع «B.B.C» مرة أخرى. •