لم يشهد التاريخ أن دخلت مصر معركة سياسية واقتصادية وعسكرية ضد عدد من الدول الكبري، في وقت واحد وخرجت منها منتصرة، إلا معركة واحدة، هي معركة تأميم "الشركة العالمية لقناة السويس البحرية" في 26 يوليو 1956، وبمقاييس إدارة الأزمات كان التفكير في الإقدام علي خوض هذه المعركة شيئًا من الجنون، يسقط أقوي الامبراطوريات، وليست دولة حديثة الاستقلال مثل مصر التي خرج من أراضيها آخر جندي بريطاني في 18 يونيو 1956، ثم تقوم حكومتها بعد أسابيع قليلة بتأميم أهم مرفق بحري عالمي وتجعل إدارته وطنية خالصة، فقد كان التحدي والمخاطرة في أقصي درجاتهما، ويزج بصاحب الفكرة في أظلم مكان علي وجه الأرض وفي أسوأ صفحات التاريخ أيضًا إذا فشل في المعركة. وأثبتت يوميات الأزمة أزمة تأميم القناة أن مصر دائمًا ما تبهر التاريخ وتأتي بحلول للأزمات تجعله يسطر بحروف من نور مظاهر عبقرتها وعبقرية أولادها، الذين لم يخلصوا يومًا لأحد سوي الله ثم وطنهم مصر، فقد كانت كل الحسابات والتقديرات وجميع المعايير تقول إن مصر لن تفشل فقط وإنما سيعاد احتلالها مرة أخري وأن أمامها عشرات السنين إن لم تكن المئات ليعاد بناؤها مرة أخري جراء إقدامها علي تلك المخاطرة وهذا الجنون، وجاءت عبقرية الإنسان المصري لتغير كل المقاييس وكل المعادلات وتوجه ضرية قاصمة لإمبراطوريات كبيرة مثل بريطانياوفرنسا بإدارته الذكية الواعية التي مازالت تدرس في مجال إدارة الصراعات في مراكز البحوث الاستراتيجية الكبري. وقد استخدمت مصر في تحديها للدول الكبري لتمرير عملية تأميم شركة قناة السويس قوتها الدبلوماسية التي أظهرت براعة كبيرة في حشد الدول وتغيير سياستها لتأييد قرار مصر بتأميم القناة، لقد كانت الدبلوماسية المصرية بكل رجالها وهيئاتها داخل مصر وخارجها تعمل علي قدم وساق لتجنيب مصر مخاطر فشل عملية التأميم، وكان رجال الخارجية المصرية يسعون بكل الطرق لتوفير كل المعلومات والبيانات والإحصائيات والتقارير؛ لتكون أمام صانع القرار السياسي في القاهرة ليدير أكبر أزمة واجهتها مصر في تاريخها الحديث، وهو ما خلف لنا ثروة وثائقية كبيرة تؤرخ لحدث جلل أعاد رسم خريطة القوي الكبري في المنطقة والعالم. ويعالج هذا الكتاب يوميات أزمة تأميم شركة قناة السويس منذ مساء يوم 26 يوليو 1956 عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قرار التأميم من ميدان المنشية بالإسكندرية، وحتي الساعات القليلة قبيل العدوان الثلاثي علي مصر عندما بدأت إسرائيل العدوان علي مصر في 29 أكتوبر 1956، وقسمت الوثائق فيه إلي ثلاثة فصول، الأول منذ إعلان قرار التأميم مساء 26 يوليو 1956 بالإسكندرية وحتي عقد مؤتمر لندن الأول في 16 أغسطس 1956، الذي دعت إليه الدول الكبري الثلاث، الولاياتالمتحدة الأمريكية وبريطانياوفرنسا، لإنذار مصر للتراجع عن قرارها، والفصل الثاني منذ بدء المؤتمر وحتي مؤتمر لندن الثاني في 19 سبتمبر 1956 الذي حاولت فيه بريطانيا إنشاء هيئة المنتفعين بالقناة، أما الفصل الثالث فهو يتناول يوميات التأميم من أحداث مؤتمر لندن الثاني ويتوقف حتي قبيل نشوب العدوان الثلاثي علي مصر في 29 أكتوبر 1956 . منذ الدقائق الأولي لإعلان تأميم شركة قناة السويس، وجهت الخارجية المصرية رجالها داخل مصر وخارجها، إلي شرح خطوة تأميم القناة لكل مسئولي الدول الأجنبية التي يعملون بها وكيف أن ذلك حق لمصر، وأنها لن تعتدي علي حقوق المساهمين ولن تتأثر الملاحة في القناة ولن تتغير رسوم المرور، وطلبت الخارجية من ممثليها، التواصل اليومي معها بكل الوسائل الممكنة وإمدادها بكل المعلومات عن المواقف الرسمية والشعبية ومواقف المنظمات الدولية. ورصد رجال الخارجية المصرية مواقف كل الدول المؤيدة والمعارضة والتي اختارت الوقوف علي الحياد من عملية التأميم، وكانت عمليات حساب المكسب والخسارة ونقاط الخطر، تظهر بوضوح في تقارير البعثات الدبلوماسية المصرية بالدول الرافضة للتأميم، علي حين كانت نقاط التفاؤل والأمل تحملها التقارير القادمة من الدول المؤيدة لموقف مصر، وحتي من الدول التي كانت تقف علي الحياد، وكانت صعوبة الأزمة أنه رهان علي قوة تحمل كل طرف والإمساك بأطراف اللعبة، وتوجيه المواقف الدولية لخدمة أهدافه، وكان أكبر سلاح تستخدمه الخارجية المصرية في كسب الأنصار لموقف مصر هو عدالة القضية لدولة ذات تاريخ حضاري عريض لم تعتد علي أحد، ولم تأخذ أرض أحد، ولم تحتل بلاد أحد، وهي علي استعداد لتعويض الجميع، ولن تغلق القناة في وجه أحد طالما لم يعادها، وتلتزم بنصوص اتفاقية 1888 المنظمة لحرية الملاحة في القناة، وجميع المواثيق الدولية، وهي علي استعداد للاستجابة لأية مبادرات طالما أنها لا تتعارض مع سيادتها علي أراضيها. ولم يكن عمل ممثلي مصر بالدول الأجنبية نقل وجهة نظر مصر فيما يتعلق بخطواتها لإدارة قرار التأميم للرسميين فقط، بل ظهر نشاطهم واضحًا في دائرة أقرانهم من ممثلي الدول الأجنبية في العواصم التي يعملون بها، وكان في بؤرة هذا النشاط تحقيق أقصي قدر ممكن من أهداف السياسة المصرية، في ظل انقسام المجتمع الدولي، ما بين مؤيد ومعارض لقرار التأميم أو الوقوف علي الحياد حتي تنتهي الأزمة، ونجح العديد من رجال الخارجية في جذب المزيد من عقول وقلوب أقرانهم لتأييد مصر، الأمر الذي انعكس علي موقف دولهم من الأزمة في مراحلها المختلفة وانتقل البعض من جانب الحياد إلي جانب المؤيد لقرار التأميم، كما انتقل غيرهم من الرافض للتأميم إلي الحياد أو التأييد، ويظهر ذلك جليًّا في الكثير من الوثائق التي تنشر داخل هذا الكتاب، وإن كان لا يخفي أن ضغوط الدول الكبري الرافضة للتأميم قد أثرت علي دول جعلتها تناصر موقفها؛ وقد وفرت اللقاءات المتعددة، التي قام بها الدبلوماسيون المصريون مع أقرانهم، المزيد من المعلومات للقيادة المصرية في القاهرة مما جعلها تمسك بالمزيد من خيوط الأزمة وهي تديرها في محيط عالمي مضطرب. وكان رأي الشعوب محورًا مهمًّا في إدارة أزمة قناة السويس، لذا كان رصد توجهات هذه الشعوب والعوامل التي تؤثر فيها إحدي المهام التي قام بها الدبلوماسيون المصريون الذين حرصوا علي رصد ما ينشر عن اتجاهات الرأي العام داخل الدول نحو أزمة التأميم، وكان كل ما ينشر في الصحف علي اختلاف توجهاتها، بشكل عام، مقياسًا مهمًّا في تحديد توجهات الدول نحو قضية التأميم، لذا رأينا في أوراق الخارجية المصرية أن هناك جزءًا مهمًّا وضروريًّا ومتكررًا في مراسلات البعثات المصرية في الخارج كثيرًا ما كان يأتي تحت عنوان: "تأميم قناة السويس في الصحافة" وبدأت هذه التقارير منذ اليوم التالي لإعلان قرار التأميم. واستطاع رجال الخارجية المصرية رصد ردود الفعل الدولية بعد إعلان تأميم القناة ساعة بساعة بل دقيقة بدقيقة، وانهالت البرقيات والخطابات والتقارير علي القاهرة، وكانت تصل يوميا بالعشرات في وقت لم تكن أدوات الطباعة متقدمة - مثل وقتنا الحالي - ورغم ذلك فقد كانت معظم إن لم تكن كل التقارير والمذكرات والأوراق التي ترسلها البعثات الدبلوماسية المصرية في الخارج مطبوعة علي الآلة الكاتبة، رغم أنها أحيانًا كانت تأتي من دول مثل إثيوبيا، وبورما وحتي مكتب مصر في الصومال، كانت معظم أوراقه تأتي مطبوعة وليس بخط اليد، وكان يصل عدد المذكرات والأوراق أحيانًا إلي أكثر من ثلاثين ورقة مثل الذي أرسلته السفارة المصرية بالأرجنتين بتاريخ 5 أغسطس 1956 . عندما بدأت بريطانياوفرنسا التحرك ضد قرار التأميم شكلت الخارجية المصرية لجنة لدراسة الإجراءات المضادة للرد علي هذا التحرك، وكانت اللجنة مكونة من سفير مصر بتركيا رئيسًا وعضوية مدير إدارة غرب أوروبا وعضو من الإدارة الاقتصادية، ومدير مكتب نائب وزير الخارجية، وقد قدمت اللجنة ثلاث عشرة توصية تمحورت حول المعاملة بالمثل في التضييق علي السفارات والقنصليات البريطانية والفرنسية بعد ما قامت به بلدهما تجاه البعثات الدبلوماسية المصرية في بريطانياوفرنسا، وفرض الرقابة علي الحسابات المصرفية للأفراد والشركات البريطانية والفرنسية، وعدم استخدام الجنيه الاسترليني في تسديد رسوم القناة أو في تحويل الأموال وإيقاف الاستيراد من الدولتين، والاعتماد علي الأسواق الشرقية، والاكتفاء مبدئيًّا بسحب السفير المصري من باريس، إذا رأت القيادة السياسية ذلك. واقترحت إدارة غرب أوروبا علي صانعي القرار السياسي النظر في إغلاق القنصليات البريطانية والفرنسية في بورسعيد والإسماعيلية والسويس أو الاستعداد لغلقها ردًا علي أية إجراءات مضادة قد تتخذها الدولتان، فقد كانت تلك القنصليات تستخدم في تحريض الأجانب علي الحكومة المصرية وتقوم بدور مشبوه في منطقة القناة، كما كانت مصدرًا لبريطانياوفرنسا للحصول علي المعلومات والأخبار عن سير العمل في قناة السويس، وأوضحت إدارة غرب أوروبا بالخارجية المصرية أن الحد الأدني لفت نظر الحكومتين البريطانية والفرنسية إلي ما يقوم به القناصل من نشاط مريب، وأن ذلك سيؤدي إلي قيام الحكومة المصرية بإغلاقها وإبعاد القناصل عن منطقة القناة. ووضح من خلال أوراق الخارجية المصرية، أن الشعوب العربية لم تتخلف عن تأييد مصر ودعمها دعمًا كاملاً، فخرجت إلي الشوارع فرحة بخطوة التأميم، وتدفقت الطوائف الشعبية في العواصم العربية علي السفارات والقنصليات المصرية تعلن تأييدها لقرار مصر واستعدادها للتطوع للدفاع عن مصر في قضيتها العادلة، وخرجت الصحف في العواصم العربية المستقلة فرحة وتحمل العناوين التي تفيض تقديرًا للخطوة وكرهًا للقوي الاستعمارية، وانهالت الاتصالات من قادة بعض الدول علي القيادة المصرية تؤيدها في قرار التأميم، واستعدادها لتقديم يد العون لمصر في هذه القضية. ورغم ذلك فإن بعض الأنظمة العربية - في ذلك الوقت - كان يدور في فلك بريطانيا وأحلافها مثل العراق التي لم تعلن تأييد مصر في قيامها بتأميم القناة، بل حرضت بريطانيا علي مصر، لإعلان الحرب عليها، رغم ادعاء مسؤوليها علنًا الحياد إلا أن شعب العراق أعلن صراحة من خلال المنشورات السرية والبرقيات والمظاهرات التأييد الكامل لمصر في تأميم القناة، وطالب بإسقاط الحكومة العراقية برئاسة نوري السعيد حليف بريطانيا وأحد أركان حلف بغداد. ومن الدول العربية ما أعلن في الظاهر التأييد وأضمر معاونة بريطانيا مثل المملكة الليبية، التي كانت تحتضن قواعد عسكرية بريطانية وأمريكية، وهنا كان دور رجال الدبلوماسية المصرية التي كانت واجباتهم تدور أحيانًا في دائرة الممكن وأحيانًا في دائرة تحقيق المستحيل، وهو ما ظهر واضحًا في موقف المملكة الليبية. وبدا من الأوراق أن أحمد حسن السفير المصري في طرابلس الغرب عاصمة المملكة الليبية، كان مدركًا للتوجهات داخلها، فالشعب الليبي مؤيدًا بكل جوارحه لخطوة مصر، والملك يري إعلان الحياد وقلبه مع بريطانيا وحلفائها، والحكومة الليبية تحاول أن تمسك العصا من المنتصف لتحافظ علي التوازن بين توجهات كل من الملك والشعب، رغم أن العديد من وزراء الحكومة كان مؤيدًا بكل قواه لبريطانيا، وإدراكا من السفير المصري لخطورة موقع ليبيا والقواعد العسكرية الأجنبية بها، قام بدور مهم في تغيير معادلة السياسة الليبية من تأييد مصر في الظاهر والتعاون مع بريطانيا في الخفاء، إلي تأييد مصر علنًا وسرًّا، وقد كان يري أنه إذا لم تتغير هذه المعادلة فإن العمل العسكري المصري ضد ليبيا سيكون واجبًا إذا سمحت بقيام بريطانيا بمهاجمة مصر من الأراضي الليبية، وكان ذلك رسالة واضحة للحكومة الليبية، التي سرعان ما تغيرت سياستها لصالح مصر. وكان لافتًا للنظر أن سفراء الدول العربية في الدول الأجنبية كانوا علي تنسيق كبير مع السفراء المصريين، وكانوا ينقلون لهم ردود الفعل التي يتوصلون إليها من خلال عملهم كما كان بعضهم يتولي نيابة عن مصر الدفاع عن سياستها في معالجة الأزمة، وقد ظهر بوضوح في هذا المشهد السفراء السوريون في عواصم الدول المختلفة وكانوا يعبرون عن سياسة بلادهم المدافعة بكل قوة عن سياسة مصر في ظل قيادة جمال عبد الناصر. كانت أوروبا محورًا مهمًّا وفاعلاً في العلاقات الدولية وفي ردود الفعل التلقائية علي عملية تأميم القناة وكانت سفارات مصر فيها علي مستوي عالٍ من الكفاءة في متابعة كل ما يتعلق بالأزمة، وأظهرت وثائق الخارجية المصرية أن دول أوروبا كانت منقسمة علي نفسها إزاء قرار التأميم فدول أوروبا الشرقية مثل رومانيا والمجر وبولندا ويوجوسلافيا وبلغاريا وغيرها، والتي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي ( سابقًا ) الذي يقود حلف وارسو، كانت مؤيدة للقرار وداعمة لمصر، وأفردت صحافة هذه الدول صفحاتها للدفاع عن قرار التأميم، وعبر المسئولون الرسميون والهيئات الشعبية بهذه الدول للدبلوماسيين المصريين عن تأييدهم الكامل للقيادة المصرية، ولعل الحفاوة والتأييد الكبير من هذه الدول راجع بالدرجة الأولي لعقيدة الأحزاب الاشتراكية التي تحكم هذه الدول، والتي تعادي الدول الرأسمالية التي تعارض التأميم، كما أنه يمكن اعتبار ذلك جزءًا من الحرب الباردة الدائرة بين الكتلتين الشرقية والغربية. كما أيد قرار التأميم من دول أوروبا الأحزاب الاشتراكية بدول أوروبا الغربية، مثل حزب العمال البريطاني المعارض الذي عقد مؤتمرًا كبيرًا مع النقابات العمالية في 27 سبتمبر 1956 وهاجم فيه الحكومة البريطانية التي سلكت مسلكًا عدائيًّا تجاه مصر بعد تأميمها للقناة، وفي دول أوروبا الغربية أيضًا استطاعت الأحزاب الاشتراكية الحاكمة ألا تندفع حكوماتها بقوة نحو معاداة مصر، والتزام الحياد علي أقل تقدير من هذه الأزمة. وليس معني ذلك أن التيار الاشتراكي في أوروبا كان مؤيدًا لمصر علي طول الخط؛ فقد كان هناك فصائل من هذا التيار تري أن تأميم مصر للقناة بمثابة "نزع ملكية بكل معني الكلمة" واستيلاء علي قناة السويس" ومن هؤلاء اشتراكيو بلجيكا وكانوا يتولون الحكم فيها، وقد عبرت عن ذلك بوضوح جريدة LE PEUPLE في عددها الصادر في 30 يوليو 1956 . وفي اليونان ناصر شعبها علي اختلاف توجهاته بحماس قرار التأميم، وأعلنت الحكومة أنها سترفض استخدام القوة أو أي إجراء تعسفي ضد مصر رغم أن اليونان عضو في حلف شمال الأطلنطي. وكانت دولة السويد، من الدول التي كانت تعمل مصر علي كسب ودها فسفنها تمر بكثرة من القناة، وستكون إحدي الدول التي ستحاول بريطانياوفرنسا استقطابها، وكان وزير مصر المفوض في استوكهولم معنيًّا بإمداد الخارجية السويدية وسفراء النرويج والدنمارك وفنلندا بها، بكل ما يساعد علي إيصال فهم حقيقي لطبيعة الأزمة وحق مصر في التأميم، فلم تكن هذه الدول قد كونت رأيًا في الأزمة حتي أوائل أغسطس 1956، فهي في انتظار تقارير سفرائها في القاهرة، وكان أهم ما يقلقهم، حرية الملاحة، وإكراه الموظفين الأجانب علي العمل علي غير رغبتهم، وهو ما عمل علي إزالته وزير مصر المفوض، حيث شرح لهم كيف تدار القناة . وعندما بدا أن هناك منهجًا بريطانيًّا فرنسيًّا لإثارة دول العالم وبخاصة أوروبا والولاياتالمتحدة بخصوص حرية الملاحة في القناة والتأثير علي وصول النفط لأوروبا عن طريقها ورفع رسوم المرور وحقوق حملة الأسهم دعا مدير إدارة غرب أوروبا السفير محمد شفيع إلي إصدار تصريح علي مستوي عالٍ لطمأنة الرأي العام العالمي، وصدر تصريح عن رئيس الجمهورية بخصوص حرية الملاحة العالمية في القناة والعاملين بها ورسوم المرور لتطمين دول العالم، وقام الدبلوماسيون المصريون بنقل هذا التصريح إلي وزارات خارجية الدول التي يعملون بها، كما نجح الكثير منهم في نشر هذا التصريح في صحف هذه الدول. كان وقع قرار التأميم علي فرنسا مؤلمًا، وسرعان ما أعلن وزير خارجيتها مسيو كريستيان بينو عن تنسيق ثلاثي " فرنسي بريطاني أمريكي " لاتخاذ سياسة مشتركة إزاء مصر، ورفض السيد كمال عبد النبي السفير المصري بباريس تسلم مذكرة احتجاح شديدة اللهجة من وزير الخارجية الفرنسية ضد قرار التأميم، علي اعتبار أنه من أخص أعمال السيادة المصرية، وكان ذلك سابقة في تاريخ الدبلوماسية عبرت عن قيم وزارة الخارجية في المحافظة علي الكرامة المصرية. أما بريطانيا فقد تلقي رئيس وزرائها أنتوني إيدين خبر التأميم، وهو في حفل عشاء مع ملك العراق الملك فيصل، وسرعان ما عقد اجتماعًا غير عادي لمجلس الوزراء البريطاني واستدعي قادة القوات البريطانية، وأكد علي أن إجراءات مشتركة ستتخذ بالتنسيق مع فرنساوالولاياتالمتحدة، وخرجت الصحف البريطانية بعناوين تطالب بالقصاص من مصر ما عدا الصحف ذات التوجه الاشتراكي، واتخذت حزم من الإجراءات الاقتصادية لمعاقبة مصر علي قرار التأميم وضغطا عليها للعدول عنه. أما الصحف البريطانية الصادرة منذ اليوم التالي لإعلان قرار التأميم، فكانت أكثر عنصرية وهجومًا علي مصر وشبهت رئيسها بموسوليني وهتلر، وعددت خسائر بريطانيا من التأميم والأغراض التي يهدف لتحقيقها من وراء هذه الخطوة، واستمر زخم الهجوم علي مصر بعناوين مثيرة، واحتلت صور عبد الناصر الصفحات الأولي وشاركت محطات الإذاعة والتليفزيون في هذا الهجوم، ورددت الصحف عبارات مثل: " عبد الناصر يخطف قناة السويس" و"هتلر النيل " و" ماذا نفعل ؟ " و " الفرعون الصغير " و " هتلر الشرق الأوسط " و" سرق الرجل القناة " وحرضت الصحف علي استخدام القوات البريطانية في قبرص ضد مصر، ولقد كان التشاؤم من المستقبل سمة جرائد اليمين والمناصرة لحزب المحافظين، وكانت لغتها عنيفة تنطوي علي التحدي والقدح، والبكاء علي الماضي، وأحاطت القارئ بالفزع والخوف مما ستسفر عنه هذه الأزمة، ومعظم الصحف البريطانية كانت تطالب حكومتها باستعمال القوة دون تردد ضد مصر؛ أما بعض الجرائد اليسارية مثل الديلي وركر فقد رأت في محاربة بريطانيا لمصر " عودة للرجعية الاستعمارية التي باتت خرافة بالية ". وكانت الولاياتالمتحدة أكثر تريثًا من حليفتيها، فقد أعطت فرصة لرجال الإدارة الأمريكية لدراسة آثار القرار من جميع جوانبها، فلم يبد وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس رأيًا في الأزمة في بدايتها، ودار تناول أغلب الصحف الأمريكية للأزمة حول عدم إمكانية مصر شراء أسهم القناة، وأن هذا القرار يجلب علي الشعب المصري الانتقام المبني علي القوة، وانتقدت بعضها سياسة وزير الخارجية الأمريكية الذي رفض تمويل السد العالي، ودفع جمال عبد الناصر لتحقيق أهدافه بتأميم القناة. ويبدو أن الولاياتالمتحدة الأمريكية التي كانت علي أعتاب انتخابات رئاسية جديدة في نوفمبر 1956 وإدراكها لاستعداد الاتحاد السوفييتي لاستغلال الأزمة والدخول بقوة في الشرق الأوسط، جعلها أكثر حكمة ورزانة في معالجة الأمر، فلم تنجرف مع حليفتيها في إجراءاتهما العقابية السريعة ضد مصر، بل وظهر واضحًا أن هناك تدخلاً أمريكيًّا، لوقف تدابير رادعة فورية بريطانية - فرنسية ضد مصر، وكذلك تخفيف وطأة القيود المفروضة عليها، وعندما بدا أن هناك استعدادات عسكرية من بريطانياوفرنسا بعيدًا عنها، أكدت أكثر من مرة علي عدم اشتراكها مطلقًا في عمليات عسكرية، فقد كانت حريصة قبيل الانتخابات علي عدم الظهور بمظهر المدافع عن امتيازات استعمارية، وظهر واضحًا عدم وجود تضامن حقيقي بين البلدان الثلاثة، علي عكس ما كانوا يحاولون إظهاره. ورغم ذلك فقد كانت الدول الغربية الثلاث تشعر أن الحكومة المصرية قد تحدتهم مما خلق لديهم شعورًا بضرورة رد هذا التحدي، ورفض أحمد حسين السفير المصري في واشنطن قبول احتجاج شفوي من نائب وزير الخارجية الأمريكي بالنيابة مستر هوفر علي قرار التأميم. كان رجال الخارجية المصرية مستعدين لمواجهة أية اعتراضات علي قرار مصر بتأميم شركة القناة في أية جهة تتصل بعملهم ففي اجتماع المجلس الاجتماعي والاقتصادي بمقر الأممالمتحدة بجنيف عندما هاجمت كل من بريطانياوفرنسا مصر لتأميم القناة، رد عليهم رئيس وفد مصر السفير حسن كامل بتوضيح أنه رغم عدم اختصاص المجلس بالنظر في مثل هذه الأمور فإن مصر تحترم اتفاقية القسطنطينية 1888 التي تتعلق بحرية الملاحة فقط وهو ما أعلنت مصر التزامها بها عند تأميم الشركة، كما أن مصر كانت ستحل محل الشركة عند انتهاء امتيازها في عام 1968، ولن يكون من حق أحد الاعتراض علي ذلك بحجة حرية الملاحة فلماذا الاعتراض الآن، كما أن هذه الشركة طبقًا لفرمان 1866 شركة مصرية تخضع للقوانين المصرية، وقدم رئيس وفد مصر ردودًا رصينة علي كل ما يتعلق بإجبار العمالة الأجنبية بالشركة علي العمل والاستيلاء علي حقوق المساهمين وطريقة التأميم، وهو ما أظهر عدالة الموقف المصري. أما دول عدم الانحياز، فقد كان علي رأسها الهند، وهي إحدي دول الكومنولث البريطاني وهو ما وضعها في خيارات صعبة بين أصدقائها الجدد ( مصر ) وحلفائها القدامي، واضطر نهرو في بداية الأزمة إلي التريث في إصدار بيان رسمي يوضح موقف الهند وفي الوقت نفسه لم يعضد الإجراءات، التي اتخذتها الحكومة البريطانية ضد مصر، وهاجمت الصحافة الهندية هذه الإجراءات، ولم تطلب بريطانيا رأي الهند في مسألة التأميم، وكانت الدوائر الرسمية في الهند تري أن علي مصر الاتزان والمرونة وعدم المبالغة في اتخاذ إجراءات أخري ضد الغرب. وقد حاولت بريطانيا الإيقاع بين مصر والهند بدعوي أن مصر المسلمة ستتفق مع باكستان المسلمة ويعرقلان تجارة الهند التي يمر منها نحو 80 ٪ من قناة السويس، وكانت أهمية الهند تساوي ثقل الولاياتالمتحدة في حل الأزمة، وهي إحدي الدول الكبري التي دعيت لمؤتمر لندن لحل القضية في 16 أغسطس 1956، وترتبط بالكومنولث البريطاني بعلاقات قوية وتستطيع أن تؤثر علي العديد من دوله بل وبريطانيا نفسها التي تميل لإرضاء الهند للمحافظة علي مصالحها، لها نفوذ علي دول جنوب شرق آسيا التي تحاول الدول المعارضة للتأميم استقطابها، لذلك بذل مصطفي كامل السفير المصري في الهند جهودًا كبيرة وعبر لقاءات متعددة مع كثير من المسئولين الهنود، لشرح خطورة الموقف الدولي وعدالة القضية المصرية، حتي أعلن الزعيم نهرو في البرلمان الهندي مناصرة الموقف المصري. أما إندونيسيا فإنها لم تكن لديها حسابات خاصة مثل الهند فقد أيدت بكل الحماس حكومة وبرلمانًا وشعبًا وأحزابًا قرار التأميم بالإجماع، ولم يشذ عن ذلك أحد داخل إندونيسيا. كانت التحركات البريطانية الفرنسية الأمريكية تسير نحو عقد مؤتمر في لندن لاتخاذ إجراءات لمعالجة قرار مصر بتأميم شركة قناة السويس، ورغم أن هذا التحرك قد يبعد بهذه الدول عن القيام بعمل عسكري سريع ومنفرد ضد مصر، ويقلل أيضًا من احتمالات القيام بهذا العمل العسكري حتي بعد انفضاض المؤتمر، إلا أنه كان أمرا غير مضمون في ظل الحركة النشطة من هذه الدول، كما أن خروج الدول المجتمعة بقرارات قد تترتب عليها عقوبات قد تكون اقتصادية توقع علي مصر يمثل نوعًا من الخطورة، لذا كان التحرك الدبلوماسي المصري قويًّا ومتشعب الاتجاهات، فالدول المؤيدة لمصر وتحضر المؤتمر زاد رجال الخارجية المصرية الاتصال بها لمزيد من التوضيح والتنسيق والاتفاق علي ما سيطرح في المؤتمر وموقف مصر منه، والدول التي لم تدع وكان يجب دعوتها، عمل الدبلوماسيون المصريون علي تحريضهم علي الاحتجاج علي عدم دعوتهم لحضور المؤتمر لإثارة المشكلات في وجه معارضي التأميم ومن تلك الدول المجر وريثة امبراطورية النمسا والمجر إحدي الدول التي وقعت علي اتفاقية القسطنطينية 1888، وكان يجب حضورها وتجاهلتها بريطانيا لتأييدها مصر في قرار التأميم، وهي تدور في فلك الاتحاد السوفييتي، وبذل عبد الحميد نافع زادة وزير مصر المفوض في بودابست جهودًا كبيرة لدي الحكومة المجرية حتي أصدرت بيان احتجاج علي عدم توجيه دعوة لها لحضور مؤتمر لندن في 16 أغسطس. كما أصدر الرئيس جمال عبد الناصر بيانًا إلي الأمة العربية في 12 أغسطس يشرح فيه كل الخطوات والتحركات التي قامت بها مصر والضغوط التي مورست عليها منذ قرار التأميم في 26 يوليو وحتي تاريخ البيان، وأوضح جمال عبدالناصر الأسباب التي دعت مصر لعدم حضور مؤتمر لندن، من خلال مؤتمر صحفي عالمي، وقامت وزارة الخارجية المصرية في نفس اليوم بإصدار كتاب أبيض حول أزمة تأميم قناة السويس أوردت فيه نصوص الوثائق المتعلقة بالأزمة منذ فرمان منح امتياز حفر قناة السويس في 4 نوفمبر 1854 وحتي 12 أغسطس 1956 اليوم الذي أعلنت فيه عدم حضور مؤتمر لندن الأول 16 أغسطس 1956 . وعلي إثر ذلك اتفقت الشعوب العربية من المحيط للخليج علي إقامة المؤتمرات للتنديد بسياسة الغرب تجاه تأميم مصر لشركة قناة السويس، والإضراب في جميع أرجاء العالم العربي يوم الجمعة 16 أغسطس 1956 وهو اليوم الذي يعقد فيه مؤتمر لندن الأول. وكان من الملاحظ أنه من اليوم التالي لبيان الرئيس جمال عبدالناصر إلي الأمة العربية، سارت المظاهرات، وعقدت مؤتمرات التنديد بسياسة الغرب الاستعمارية في جميع بلدن الوطن العربي المستقلة والمحتلة أو المفروض عليه الحماية، وكانت الأعداد غفيرة بالآلاف في بلدان مثل الكويت والبحرين والإمارات، وهي بلدان قليلة الكثافة السكانية، وألقيت الخطب الحماسية المؤيدة لمصر، ووجهوا برقية إلي جمال عبد الناصر تؤيد ما قام به من خطوات، وتحثه علي السير قدمًا من أجل وحدة الأمة العربية وأوقف تصدير النفط من البلدان العربية، كما أوقف شحن السفن في الموانئ العربية، وطافت الأعلام المصرية شوارع العواصم العربية يحملها المتظاهرون، ووزعت منشورات معادية للقوي الاستعمارية، وأذاع صوت العرب ما قامت به الشعوب العربية أيام 14، 16 أغسطس. لقد كان الاتجاه الشعبي العام في العالم العربي علي درجة كبيرة من الوعي بما يدبر لمصر والوطن العربي، وهذا الشعور لم يكن من فراغ، فكان هذا بعض ثمار ما زرعته مصر في هذه الأرض، وأقلقت حركة الشارع العربي القوي الاستعمارية التي تسيطر علي بعض مناطقه، وكلفته الكثير من الأموال والدماء حينما حاولت أن تخمد هذه التحركات، ولم تكن مصر لتصمت علي أفعال بريطانياوفرنسا في مستعمراتها العربية فاحتجت علي حركة القمع التي مارستها ضد الشعوب العربية لمناصرتها مصر، ونقل ذلك رجال الدبلوماسية المصرية للعواصم التي يعملون بها. كان مؤتمر لندن نتيجة لتصريح وزراء الخارجية للدول الثلاث الولاياتالمتحدة الأمريكية وبريطانياوفرنسا، في 3 أغسطس 1956 بدعوة لعقد اجتماع للدول الموقعة علي اتفاقية القسطنطينية 1888 وبعض الدول التي يهمها بشكل خاص استعمال قناة السويس، وكان التصريح فيه الكثير من الوعيد لمصر، وما بين صدور التصريح وانعقاد المؤتمر كانت التصريحات تتوالي علي مصر بالوعيد ، ففي 5 أغسطس صرح وزير خارجية فرنسا مسيو بينو " ليس هناك إلا أمران إما أن يخضع الرئيس جمال عبد الناصر ويعدل عدولاً تامًا عن القرارات التي اتخذها ويكون بذلك قد اعترف بخطئه وإما يرفض الخضوع وفي هذه الحالة يجب اتخاذ كافة الإجراءات الكفيلة بإرغامه علي الخضوع". وقبيل عقد المؤتمر كانت كل من بريطانياوفرنسا تنشر أنباء عن تعبئة قواتها العسكرية، لم يكن مرضيًّا عنها من الولاياتالمتحدة، علي حين كانت تستخدم مصر كل مواردها الدبلوماسية والشعبية لكسب الأنصار وإظهار حقها في التأميم، فأيدتها الكثير من الحكومات والشعوب في قرارها، واستطاعت نقل النزاع من ميدان العنف إلي ميدان الدبلوماسية، وتحول المؤتمر من مؤتمر عندما تم التفكير في عقده لإصدار إنذار لمصر بالتراجع عن قرار التأميم اعتمادًا علي القوة إلي مؤتمر لتقديم اقتراحات لحل المشكلة بالطريق السلمي دون الاعتماد علي القوة، وخرج المؤتمر بتشكيل هيئة مفاوضة مع مصر لحل الأزمة بناء علي اقتراح جون فوستر دلاس وزير خارجية الولاياتالمتحدة، للوصول لحل لإدارة القناة من خلال إدارة دولية وهو مارفضته مصر. واستمرت مصر في استكمال جوانب إدارتها للقناة وساعدت الخارجية المصرية في ذلك فقد كانت تتلقي طلبات المرشدين البحريين التي انهالت علي السفارات المصرية طلبًا للعمل بالقناة، ويصل الحال أن تطلب إدارة القناة بإيقاف تلقي الطلبات لزيادتها عن الحاجة. وتخوض الدبلوماسية المصرية حربًا شرسة للدفاع عن قرار التأميم خصوصًا وأن بريطانيا حاولت إنشاء هيئة دولية لإدارة القناة بشكل مؤقت باسم هيئة المنتفعين وتكون مسئولة عن تنسيق المرور في القناة، وتحصيل رسوم المرور، ودعت لعقد مؤتمر لندن الثاني فيما بين 19 و21 سبتمبر 1956، لوضع القانون الأساسي لتلك الهيئة، وقدمته لمجلس الأمن في 13 أكتوبر 1956، وبذلت الدبلوماسية المصرية جهودًا جبارة فلم يحصل المشروع إلا علي تأييد تسعة أصوات فقط واستخدم الاتحاد السوفييتي حق الفيتو، فلم يمر القرار. وعندما بدا أن مصر خرجت من معركة تأميم القناة بنصر كبير وفشلت كل محاولات كسر الإرادة المصرية، جاء التآمر بالعدوان الثلاثي علي مصر في 29 أكتوبر 1956 .