ريشة - هند عدنان صوت منبه الموبايل بجانب سريرها أيقظها، فتقلبت وأغلقته بسرعة.. فتحت عينيها العسليتين الضيقتين ثم قامت بحركاتها الروتينية.. لبست شبشبها.. نهضت من سريرها.. فتحت الستائر والنافذة، تسللت نسمة هواء لطيفة داعبت خصلات شعرها البنى، المموج الطويل، الذى يصل لخصرها، واقتحمت أشعة النور غرفتها الكلاسيكية بنية الأثاث، بيضاء الحوائط؛ لتنير الصور الأسرية التى تحكى قصتها، فهذه صورة عائلية لأسرتها هى وأختها التوأم مع والديها فى يوم عيد ميلادهما العاشر، ثم صورة تخرجها هى وأختها فى كلية الهندسة مع والديها.. ثم صورة لفرح أختها وهى بجانبها هى وعريسها.. وعلى الحائط المقابل صورة للأب وعليها شريطة سوداء، وأخرى للأم وعليها نفس الشريطة، وعلى الحائط الأخير صورة لها مع أولاد أختها تحملهم على حجرها، وبجانبها صورة لها وهى تحمل شهادة الموظفة المثالية فى مكتبها الأنيق. تقف أمام دولابها طويلة، ممشوقة، خمرية، بها مسحة جمال برىء، تنظر للتاييرات الكلاسيكية المرتبة، فتخرج التايير الكحلى ببلوزته البيضاء الحريرية من وسط أطقم كلاسيكية متراصة بنظام، متشابهة فى التفصيلة، ولكن بألوان أخرى قاتمة.. الكحلى ثم البنى ثم الرصاصى ثم الأسود.. ولا مكان فى دولابها الواسع سوى لهذه الملابس الكلاسيكية فقط؛ فروتينها اليومى يقتصر على مشوار واحد والعودة منه وهو من البيت لشركة البرمجيات التى أصبحت نائبة لرئيس مجلس الإدارة فيها وهى لاتزال فى بداية الثلاثينيات.. وقد اعتادت حياتها التى تشبه ألوان وقصة تاييراتها الكلاسيكية المحافظة. فى 10 دقائق كانت مستعدة للنزول من بيتها بعد أن أخذت علبة غذائها من على السفرة المذهبة كلاسيكية الطراز فى صالة المنزل العتيق، وقبل أن تخرج من باب الشقة، نظرت لنفسها فى المرآة.. لملمت خصلات شعرها القليلة الواقعة من الكحكة التى رفعت بها شعرها فوق رأسها والتى ثبتتها بأعداد كبيرة من البنس كأنها تكتفه، وهمت بالخروج من الباب.. ولكن يرن الموبايل فتخرجه من حقيبتها وترد مبتسمة «أهلا حبيبتى إزيك وإزى جوزك والولاد؟ واحشانى أوى..». - «لا مش هينفع خالص آخد أجازات وأجيلك إيطاليا عندى شغل كتييير والمنصب الجديد بيخلينى مشغولة على طول». - ............... - «طبعا واحشانى دا أنتو اللى ليا فى الدنيا بعد وفاة بابا وماما.. بس غصب عنى حبيبتى». ثم تخرج من باب الشقة وهى تضع الموبايل على أذنها وتكمل حديثها وتغلق باب الشقة مع صوت دقة ساعة الحائط حيث تعلن الثامنة. تخرج من باب عمارتها القديمة الراقية فى أحد شوارع جاردن سيتى الهادئة، لتقف ثانيتين، وتنظر فى ساعة يدها فتأتى سيارة بسائق أمامها فتركب.. وتبتسم ابتسامة بسيطة بوقار وتبدأ حوارا مقتضبا من ناحيتها: - هى: صباح الخير يا عم عبده. -السائق: صباح الفل يا أستاذة ماشاء الله على حضرتك 10 سنين من ساعة ما اشتغلت معاكى مافيش يوم اتأخرتى دقيقة عن ميعادك، لو كل الناس زيك.. كانت البلد بقت حاجة تانية.. عرفت إنهاردا إنهم هيكرموا حضرتك الموظفة المثالية زى كل سنة.. طبعًا هو فيه زيك!! لا عمرك غبتى ولا قصرتى فى شغلك. - الله يبارك فيك.. شكرًا. يتكلم السائق كثيرا ويمدح فيها.. لكن عينيها وفكرها فى الأفق تتابع الشارع ككل يوم بنظرة رتيبة، إلى أن رأت اعلانًا على الكوبرى تلتفت له باهتمام (عبارة عن شابة ممشوقة من ظهرها تركب حصاناً على الشاطئ، تلبس فستانا أحمر نارى طويلا، مفتوحا فتحتين كبيرتين تظهران ساقيها المخمليتين على الحصان وتنظر للبحر الفيروزى). وتظل عيناها معلقتين على صورة الإعلان دون أن تلتفت للغرض من الإعلان أو تقرأ ما كتب تحته.. وصوت ثرثرة السائق التى لا تميز أى حرف فيها مستمر. فجأة يحجب رؤيتها للإعلان نفس الشاب الذى يقابلها كل يوم منذ بداية الأسبوع على الكوبرى، ويرمى فى حجرها ورقة ذهبية، كأنه إعلان أو ما شابه، وهى بحركة تلقائية تكرمشه وتضعه فى حقيبتها دون حتى أن تنظر إليه ككل يوم. فى حجرة مكتبها الأنيقة تجلس لتتابع عملها على اللاب توب على المكتب، وتحتسى فنجان القهوة، يرن تليفون المكتب ترفع السماعة ويبدأ حوار قصير. - الآخر: .................... - هى : أيوه يافندم صباح النور. الآخر:....................... -هى : حاضر يافندم ثوانى وأكون عندك. تقف بجانب مديرها على رأس ترابيزة الاجتماعات وحول الترابيزة زملاؤها يصفقون لها والمدير يعطيها شهادة فى حافظة ذهبية مكتوب عليها «الموظفة المثالية» ثم وبعد يوم عمل طويل تخرج من مبنى الشركة، بحقيبتها السوداء الكبيرة، ويظهر منها طرف الحافظة الذهبية الكبيرة التى وضعت بها شهادة تكريمها، وتنظر فى ساعتها وقد تجاوزت الرابعة بخمس دقائق تنتظرها سيارة الشركة وعم عبده فتركب. - هى: مساء الخير ياعم عبده. - السائق: مساء النور يا فندم.. البيت زى كل يوم ولا حضرتك عايزة تروحى حتة تانية؟ - هى: البيت لو سمحت.. تنظر للطريق تتابع المارة وفجأة تتوقف السيارة فى طابور من السيارات عند مطلع الكوبرى الذى تمر عليه يوميا فى طريقها وتجد شريطاً أصفر كبيرًا مكتوباً عليه «منطقة عمل» ويتغير مسار السيارات لتمشى يمينًا أسفل الكوبرى.. فيظهر عليها التوتر لتغيير الطريق.. فيتحدث السائق: «أه صحيح سمعت إن فيه مشكلة على الكوبرى حصل هبوط إنهارده بعد ما وصلت حضرتك، هيكون فيه تصليحات وشغل على الكوبرى.. معلش يافندم أنا حافظ الطرق، هوديكى من شوارع جانبية، وهنوصل فى الميعاد زى كل يوم.. متقلقيش». بدا عليها الانزعاج والتوتر فهذه أول مرة منذ عشر سنوات تغير طريقها، بل منذ ثلاثين سنة، منذ دخولها المدرسة التى تقع بجانب شركتها الآن، فمنذ أول يوم دراسة كان والدها ووالدتها يوصلانها هى وأختها للمدرسة، ثم يذهبان لعملهما كأستاذيين فى الجامعة.. وعندما دخلتا الجامعة كانا أيضًا يسلكان نفس الطريق ويذهبان معهما للكلية، وبعد أن خرجا على المعاش كانت الأختان قد تخرجتا، تزوجت أختها وسافرت مع زوجها الذى يعمل بإيطاليا، وعملت هى فى الشركة بجانب المدرسة والجامعة وأصبح طريقها اليومى نفسه.. ولم يكسر تلك القاعدة سوى الشريط المكتوب عليه «منطقة عمل» اليوم.. تنظر من نافذة السيارة وتتابع الشوارع التى لم تمر بها يومًا من تحت الكوبرى وتتابع زحمة الناس كأنها لأول مرة ترى بشرا.. فهذه بائعة ورد.. وهذا شحاذ.. وتلك أم تقطع الشارع بأطفالها الثلاثة.. كأن الكوبرى كان وسيلة لتعبر فوق البشر دون أن تراهم للوصول سريعًا للبيت أو العمل.. رمى شاب الورقة الذهبية ككل يوم من نافذتها ولأول مرة تنظر للورقة ولا تكرمشها فى حقيبتها واندهشت عند رؤية صورة لفتاة جميلة ممشوقة ترتدى نفس الفستان الأحمر الذى ترتديه فتاة الإعلان على الكوبرى، ولكن هذه الفتاة ترقص التانجو بشعرها الطويل المشابه لشعرها ولكنه يطير فى الهواء وهى ممسكة بشريكها فى الرقصة ومكتوب تحت الصورة «دعوة مجانية لدخول الكرنفال» قرأت الورقة وعرفت أنه كرنفال فى أحد الشوارع الأثرية القديمة والتى يقصدها السواح.. وفجأة سمعت صوت ضجة وتوقفت السيارة وشاهدت أناسى كثيرة تتزاحم على شارع جانبى أثرى. تنظر للشارع الأثرى عن يمينها فترى صورة راقصة التانجو بالفستان الأحمر، والناس تتزاحم فى طابور طويل للدخول. - السائق: معلشى يا أستاذة الناس موقفين الشارع عشان الحفلة اللى معمولة.. تتابع الأعداد الكبيرة من الشباب والأطفال والكبار والسياح أيضا وهم يدخلون الشارع فتنظر للدعوة فى يديها، وتنظر للفتاة المرسومة على مدخل الشارع بالفستان الأحمر ثم تقول للسائق. - استنانى هنا ياعم عبده شوية وراجعالك.. تنزل من السيارة تتابعها عينا السائق بدهشة.. صوت موسيقى التانجو العالى المتزج بأصوات الناس التى تملأ الشارع لم يجعلها تسمع كلمات الترحيب من الشابين الواقفين عند مدخل الشارع عندما قدمت لهما الدعوة المجانية الذهبية.. وبمجرد أن وطأت الشارع بالكعب الرفيع العالى شعرت كأنها قد دخلت عالمًا جديدا من البهجة والألوان فى كل مكان، وتذكرت شخصية «أليس فى بلاد العجائب».. والرائع أن صوت الموسيقى العالى مع مشهد الأطفال يجرون، والشباب يرقصون، والكبار يجلسون على الرصيف يتحدثون ويضحكون.. أحيا الشارع الأثرى، وتشكل الناس فى مجموعات ودوائر، بعضهم يرسمون على الأرض، ومجموعة منهم التفت حول راقص راب، ومجموعة أخرى حول ساحر يتابعون خفة يده التى أخرجت الجنيه المعدن من أذن الطفل، ومجموعة افترشت الأرض حول شاب يعزف على الجيتار، وشدها مجموعة بعيدة وكبيرة التفت حول شاب وفتاة يرقصان التانجو، والواضح أن الفتاة لا تعرف الرقص والشاب يعلمها.. وفجأة توقف صوت الموسيقى اقتربت أكثر، فوجدت عينيَّ الشاب تراقبان كل الموجودين ثم تستقر عليها، ويمد لها يده فلم تشعر بنفسها إلا وهى تمسك بيده وتدخل منتصف دائرة من المتفرجين، وعلا صوت موسيقى التانجو، فوضع يده على خصرها بقوة، وبدأ يتحكم فى حركاتها.. بدت أول الأمر متشنجة، ولكنها خلعت الجاكت وتركت لنفسها العنان، فوجدت جسدها يتمايل فى نعومة وانسيابية مع الموسيقى، وأصبحت لينة مع الشاب تواكب حركاته السريعة والقوية، رقصت بكل ما فيها من شغفٍ لم تعرفه يومًا بداخلها، رقصت، ورقصت، ورقصت، رأت نفسها بالفستان الأحمر المفتوح عن ساقيها وشعرها البني الطويل وقد تمرد على البنس التى تكتفه فأسقطها، فأصبح غجريًا يطير فى الهواء، والعالم من حولها تلون وبدأ كبحرٍ من فضة متلألئة، وهى تطير فى وسطه وتدور بمفردها بقوة وبحرية.. وفجأة سكتت الموسيقى وظهر صوت تصفيق الناس، وعادت لطبيعتها ابتسمت للشاب وهو يشكرها... وخرجت من منتصف الدائرة، خلعت حذاءها ذا الكعب العالى ونظرت فى حقيبتها فلم تجد سوى الحافظة الذهبية الكبيرة لتكريمها فأخرجتها وجلست عليها على الرصيف، اقترب منها شاب وسيم بلحية وشعر منكوش وفى يده بورتريه رسمه لها وهى ترقص والغريب أنه اختار أن يرسمها ولكن بفستان أحمر!! نظرت للبورتريه بابتسامة كبيرة ودعته للجلوس بجانبها على الحافظة الذهبية وظلا يتحدثان ويتحدثان وصوت موسيقى التانجو يملأ المكان.. وفجأة تنبهت لصوت السائق. - السائق: معلشى يا أستاذة أخيرًا الطريق فتح أول مرة نتأخر كده.. تنبهت أنها بداخل السيارة سارحة فى الخيال.. والغريب أنها ظلت ترى نفسها مع الشاب يتحدثان معًا على الرصيف وترى نفسها ممسكة بالبورتريه.. وظل السائق يتحدث ولكنها لا تسمعه فهى تتابع صورتها من بعيد مع الشاب على الرصيف وزادت سرعة السيارة وصغرت صورتهما على الرصيف وبعدت أكثر فأكثر.•