«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



(القاهرة مدينتى.. وثورتنا) .. الفصل الأخير
نشر في الشروق الجديد يوم 10 - 02 - 2012


بعد صلاة الظهر مباشرة

الأسطى أشرف ينتظر، كما اتفقنا، إلى جوار الجامع القائم على اليمين بعد نفق الهرم مباشرة. كان قد ذكَّرَنى، برفق، أن أمور الحياة لا تتوقف حتى وإن كنا نقوم بثورة:

«ربنا يقويكم. دى بلادنا دى ممكن تبقى جميلة جدا لو الناس اللى قايمين عليها بيخافوا ربنا» ثم: «ما بتفكريش تيجى تشوفى الأرض كدة ساعة؟»

الأرض! الأرض هى جنينة صغيرة جدا بالقرب من أهرامات الجيزة، اشترتها أمى من نحو عشرين سنة. هى أقل من نصف فدان ولكن بما أننا فى مصر، «كيميت»، بلاد التربة السمراء السخية، فهى تغدق علينا بالبلح والمانجو والليمون والكنتالوب والخضراوات فى مواسمها. اشترتها أمى من الحاج كمال، مُعَلِّم وناظر وصاحب مدارس متقاعد، يحب الجنينة فاستمر يعتنى بها ويتابعها. وكانت أمى تذهب إليها تقريبا كل يوم جمعة بعد الظهر فتجد الحاج كمال يشرف على أمورها فيجلسان فى الفراندة الحجرية يتحادثان فى السياسة من منظور يسارى. وكان الحاج كمال يحب أن يحكى فى التاريخ ويُطَعِّم حكاياه بالنوادر والنكت. وحين توفيت أمى، فى ال2007، تزامن هذا مع إصابة الحاج كمال بالجلطة. زرناه فى بيته لنتلقى عزاءه فى أمى، وبعد أشهر عدنا مرة أخرى، أخى علاء وأختى ليلى وأنا، لنقدم العزاء لأرملته وأسرته. وانتقل واجب العناية بال«أرض» إلى أولاد أمى إلينا.

واليوم الدار الصغيرة المبنية فى الأرض تحتاج إلى إصلاحات، والأسطى أشرف يقوم بهذه الإصلاحات، ولذا نجد أنفسنا، أنا وهو، فى السيارة فى شارع الهرم، يوم الجمعة هذا بعد صلاة الظهر. يبدو أننى كبرت، أجدنى أعجب مرة أخرى للتحولات: كيف امتدت المبانى واحتلت هذه المساحات الشاسعة من الأراضى إبان المرور السريع لسنين عمرى؟ أنجح فى ألا أنظر من النافذة وأقول «تصور كان هذا وكان وكان»، لكنها فعلا كانت: كانت حقول خضراء على جانبى الطريق، حقول خضراء تطعم العاصمة.

«مارَحَلش»، يقول الأسطى أشرف.

«لأ. مارَحَلش».

«الناس كانت زعلانة جدا امبارح».

«أكيد».

«طب هو مستنى إيه؟»

وكان هذا هو السؤال الذى نسأله جميعا.

كنا متأكدين أنه سوف يرحل.

أتى الأربعاء، 9، ومعه موجة من الإضرابات: فى كفرالشيخ حاصر الآلاف مبنى المحافظة. عمال بتروتريد، والتعاونية، وثلاث شركات بترول أخرى خرجوا منددين بسامح فهمى وزير البترول والثروة المعدنية. أضرب عمال المياه والصرف الصحى فى القاهرة، وأضرب عمال شركات الزبالة. رجل النظام فى نقابة الصحفيين طُرِد من مكتبه، وأصدر شباب صحفيى جريدة الأهرام الملحق «التحرير» المؤيد للثورة. فى كل مكان كان الناس يتلقفون رياح الحرية.

فى الأيام الماضية تشكلت الكثير من اللجان، وتقدمت شخصيات تتحدث باسم واسم واسم.. وترددت اللجان والشخصيات على المجلس الأعلى للقوات المسلحة لتضع أمامه مقترحات بمجالس رئاسية وبحكومات انتقالية. وأمس الخميس أعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة أنه فى حالة انعقاد مستمر لمراقبة التطورات ولتخطيط كيفية حماية الأمة ومكتسباتها وطموحاتها، وتباطأت الكاميرا وهى تمر على الجنرالات فى غرفة اجتماعاتهم المكسوة جدرانها بالخشب والمزينة بالأعلام والرايات والزهور، وبدت وكأنها تؤكد غياب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حسنى مبارك، لأول مرة من مثل هذا الاجتماع.

وبعد الظهر أمس الخميس بعد الظهر كان الكل يتجه إلى الميدان. كنا متأكدون: هذا يومُنا، هذا يوم الحدث. ومرَّت الساعات.. ثم مرَّت الساعات، ساعة جامعة الدول العربية تقول إنها السابعة، ثم الثامنة، فالثامنة والنصف، والميدان بل الميادين كلها تحبس أنفاسها، تنتظر، على أهبة الاحتفال.

أقف أنا أمام منصة «فنانين الثورة». مثل مئات الآلاف حولى لا أستطيع أن أقف ساكنة، أتقافز قليلا، أُلَوِّح، أرفع يداى فى شارات نصر. على المسرح فرقة «وسط البلد» تغنى. ليس هناك مجال للرقص فالزحام لا يُمَكِّن أحدا من الحركة، لكن الكل يتمايل ويصفق ويغنى. يد السيد عمر مكرم المرفوعة تباركنا جميعا، كما يباركنا ذلك القمر النصفى الذى يرقد فعلا بين أسعاف النخلة التى تعلونا. التحرير يفور، يميد، يزبد. البلد كله ينتظر، العالم كله ربما ينتظر. ننتظر. أهلى فى الميدان مع مليون مواطن آخر. سنتلاقى بعد حين.


التاسعة والنصف ولم يجد جديد

فى اليوم التالى سنعرف أنه بينما كنا، نحن الشعب، ننتظر فى التحرير، كان رئيسنا، الذى سوف يُخلَع قريبا، يتحدث عبر الهاتف مع صديقه وزير الدفاع الإسرائيلى السابق، بنيامين بن إليعازار. ولمدة عشرين دقيقة كان يشكو لصديقه خذلان الولايات المتحدة، وهجرانها له، وكان يتنبأ بأن الاضطرابات والقلاقل المدنية لن تتوقف عند حدود مصر بل سوف تمتد إلى الشرق الأوسط كله، ثم أيضا إلى الخليج ذى النفط.

يد على كتفى: يد أخى. لا أعلم كيف وجدنى، لكننى أُمسك بذراعه ونمشى وسط الزحام لنصل إلى سهير، زوجته، فنجلس أنا وهى على حرف الرصيف نواجه تمثال عمر مكرم. يأتينا أحد الكرام بالشاى فنمسك بالأكواب بامتنان، نُعَرِّض أكفنا للدفئ بقدر ما نستطيع. يقف علاء مع مجموعة من الأصدقاء تناقش الطرح: هل نحن فى الحقيقة نعيش انقلابا عسكريا سوف يُحوِّل ثورتنا إلى عرض هامشى؟ نحن بحاجة إلى شخصية، أو مجموعة، تتقدم لتُمثل هذه الثورة وتعبر عنها، تعلن هذا التمثيل فى التحرير، وبالتحرير من حولها يؤازرها. يبدو أن الفرد الوحيد الذى باستطاعته أن يقوم بهذا الدور الآن هو الدكتور البرادعى، لكنه، حين أتى إلى التحرير لم يبق أكثر من نصف ساعة وغادر. يقولون إنه لا يحب الزحام.

الشباب يحاولون منذ أيام ان يُكَوِّنوا تحالفات، ائتلافات، حكومات. كانوا أحيانا يستشيروننا، نحن ال«عواجيز»، فنجلس فى عرض الشارع فى التحرير المعتصم نشكِّل وزارات وحكومات. لكننا فى مفرق صعب: لا نمتلك آلية تُمَكِّن الميدان من انتقاء من ينوبون عنه للتفاوض باسمه أو بالأحرى، هناك آلية تتشكل لكنها سوف تأخذ وقتا أكثر بكثير من المتاح لنا. ولذا تأخذ اللجان، والشخصيات، والقيادات القديمة على عاتقها أن تقوم بهذه المهمة، فيذهبون إلى مجلس قيادة القوات المسلحة يحادثونه، والمحادثات لا نقول إنها سرية، لكنها ليست علنية، فأوصلنا هذا إلى ان كل من يتصل بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة أو يتحدث معه يفقد مصداقيته اليوم فى الميدان.

نقوم، أنا وسهير، من على الرصيف، نتمشى. تقترب منا ثلاثة شابات، يسألن إن كنت أنا أنا، شاهدونى فى التليفزيون ويروننى «محترمة» ويردن الحديث. إحداهن طبيبة، والشابتان الأخريين فى الثانوية العامة وتنويان العمل بالصحافة. الثلاثة يسكن المعادى ولهن أيام يجمعن المعلومات والملفات حول الشهداء الذين قتلوا هناك يوم 28. يردن الوصول إلى الإعلام ال«نظيف». والطبيبة تريد أن تعرف طريق هيئة أو جمعية تمكنها من خدمة المصابين. يقلن إن عدد الذين قتلوا فى المعادى يصل إلى أكثر من عشرين، وإن الشرطة كانت بالغة القسوة، وإنها أطلقت المسجلين الخطر ضد الناس، وانها استخدمت الرصاص الحى من البداية. ويقلن إن قناصا تمركز بالقرب من البيت الذى يسكنه السفير الأسرائيلى، وان هذا القناص كان يقتل أى شخص يدخل فى مجال رصاصه. دُرْن يجمعن الشهادات والمعلومات من أسر الشهداء والمصابين. يقلن إن المنطقة حول شارع الجمهورية امتلأت بملصقات الشهداء وكأننا فى نابلس أو بنت جبيل. نتبادل أرقام الهواتف بينما تتصاعد أصوات تطالب بالصمت: «بس! بس ياخواننا! سكوت عشان نسمع!»

ولا نكاد نصدق: هو لا يتنحى. لا نكاد نصدق: هو لم يفهم. لكننا نصدق تماما: لم يتمكن من التغيير، لا تغيير الدور، ولا تغيير اللعبة.

نقف بالملايين فى طول البلاد وعرضها نستمع إليه وهو يحدث الشباب من علٍ: «أحدثكم كأب». يؤكد لهم أن دماء «شهدائكم» أى الشباب الذين قتََلَهم، قتلتهم شرطته وبلطجيته ونعتقد أنهم أكثر من ثلاثمائة أن دماءهم لن تذهب هباء. يعدنا انه سيتحرك إلى الأمام كى يحقق الطلبات الشرعية. يبدأ البعض فى إطلاق الهتافات الغاضبة لكن الميدان يسكتهم. نستمع إليه باهتمام بالغ. يطلق تلك الجملة المرهَقة: «لن تملى علينا جهات خارجية » فنحدِّق فى بعضنا غير مصدقين، هذا الرجل كان طوع إشارة أمريكا وإسرائيل لمدة ثلاثين عاما والآن وفجأة لن تملى عليه قرارات من الخارج! حين يعلن إصراره على أن يستمر فى خدمة بلاده ننفجر «ياللى ما بتفهمشى: إرحل يعنى إمشى!» يعدنا بالحوار، كلام كلام، بالتعديلات الدستورية، كلام كلام، يتحدث عن روح الفريق، كلام كلام، وعن حماية الاقتصاد فتصيح الجموع «حرامى! حرامى!» ثم يبدأ فى لازمة «كنت شابا مثلكم» فتضج السماء بآهات ملل عظيمة من شباب مصر كلها، وحين ينتهى بتفويض سلطاته إلى نائبه ينفجر الميدان: «لا مبارك ولا سليمان/ مش عايزين عملا كمان!».

الميدان هو الغضب والثورة والدموع. ماذا علينا أن نفعل لنزيح الرجل؟ أكتب للجريدة: «باختياره لهذا الطريق يتعمد مبارك دفع مصر أكثر وأكثر فى اتجاه الأزمة. هو يدفع بالقوات المسلحة إلى موقف سوف تضطر فيه قريبا أن تواجه إما الشعب أو الرئيس وحرسه الرئاسى. ونتيجة موقفه هذا انه حين تأتى لحظة انتصار الثورة سوف تكون القوات المسلحة فى وضع أقوى بكثير من وضعها فى 25 يناير. لكننا فى الشوارع، وسنظل فى الشوارع، لن نعود إلى البيوت».

ثم بدأ الناس فى التحرك. تحركت جموع نحو ماسبيرو، لكنها فقط تحاصر مبنى الإذاعة والتليفزيون ولا تحاول اقتحامه. وتبدأ جموع أخرى المسيرة الطويلة نحو مقر مبارك فى القاهرة: قصر العروبة.
«هو لسه مش فاهم» أقول للأسطى أشرف.

يجيب: «هو فاهم. بس هو عنيد».

اتصل بليلى واسألها عن الأخبار. تقول إن الناس، ملايين من الناس، ناس لم ينزلوا إلى الشوارع وإلى المظاهرات من قبل يتحركون، يتوجهون نحو الميادين. وأن التحرير مليان عن آخره.

«النظام ده عنده يخرب البلد ولا إنو يمشى»، يقولها الأسطى أشرف ثم ينزل من السيارة ليفتح بوابات الأرض.

حين أكون هنا أشعر أننى بعيدة تماما عن العالم، لبرهة. لكنى أنشغل بأمى. كنت أتهرب من أن أصحبها إلى هذه الحديقة، كانت تطلب منى، وكنت كثيرا ما أتهرب. ليتنى ما فعلت. ماذا أنجزت فى تلك السويعات التى وفرتها بعدم مصاحبتها؟ أتمنى أقول ياريت كنت قمت بهذه الإصلاحات وهى موجودة. لكنها لم تكن لتسمح لى، كانت تعارض تبديد المال فيما هو ليس ضرورى. لكن ربما كانت ستسمح لى. كانت، بعد أن أقوم بالتغيير والتوضيب، يعجبها. ومن الغريب الغريب جدا أننى قمت بإصلاح وتبييض مدفننا قبل أن تذهب عنا بأسابيع قليلة. كان لى سنين أريد ان أقوم بهذا العمل، لكنى أخاف، أخاف إن قمت به أن يكون فألا سيئا، وكأنى أتوقع للمدفن أن يستقبل ضيفا جديدا ضيفا يقيم. ثم جاء وقت دخل فيه والدى المستشفى لفترة وبيضنا البيت وأعدنا تنجيد الأثاث لاستقباله حين يعود. فقلت لنفسى إن هذا العمل فيه من التفاؤل والثقة فى الحياة والتمسك بها قدر يسمح بتمرير تبييض المدفن. دهننا السقف بالأزرق الفرعونى، يفصله عن الحائط بلون سن الفيل خيط رفيع من الذهبى القانى. صقلنا الحجر والطوب والرخام والبلاط ووضعنا سلكا جديدا على المنافذ وأتينا بأصص نبات ومزهريات جديدة. وبعد أسابيع استقبل المدفن أمى.

الأسطى أشرف يمسك بالباب. هو دائما مرتب مهندم أنيق وكأنه خطى للتو خارجا من كتاب المطالعة. يريد منى أن أقرر: علينا أن نصف البلاط، فإلى أى حائط نحاذيه؟ الحوائط والأرضيات والزاوايا كلها غير منتظمة فى هذا البيت، فمهما عملنا لن يكون كل شىء منتظم. أريد أنا أن أضبط البلاط فى مركز الغرفة الكبيرة، فى وسطها، ثم تكون هناك الفروق والفوائض عند الجدران، لكن المبلط يقول إننا لا نستطيع ان نفعل هذا أو لا يجوز أن نفعل هذا فأختار بعشوائية حائطا فى المطبخ وأقول لنَصُّف بمحاذاة هذا إذن.

أتسلق السلم الضعيف وأجلس على السطوح. الأهرامات هناك، وراء هذه الأشجار. فى طفولتى كنا نزورها على الأقل مرة فى كل شهر، نجرى ونرمح على الرمال، نقيس أطوالنا المتغيرة ونقارنها بارتفاع أحجار المصطبة الأولى فى هرم جدنا خوفو، ثم نحاول أن نتسلق مصطبتين أو ثلاثة.. أو أربعة، وأخيرا نتناول الشاى فى استراحة الملك (الملك الملك فاروق كان له استراحات فى الهرم وحلوان والفيوم وكل المناطق الجميلة فى مصر فلما جاءت ثورة يوليو حولتها كلها إلى استراحات للشعب)، ودائما دائما كنا نقف عند حافة الهضبة، ننظر نحو القاهرة، ونعجب للخط الفاصل بين الصحراء والوادى الأخضر، كم هو محدد قاطع لا لبس فيه ذلك الخط الذى تقع عليه هذه الحديقة الصغيرة، الخط الذى أقف عليه أنا الآن.

أنا بحاجة إلى أن أذهب إلى مدفننا. لم أزرهم منذ فترة: أمى وخالتى عواطف وخالى، جدى وجدتى، كلهم هناك.

حين أَخرج ابنى، عُمَر، فيلمه القصير الأول، «ما يدوم»، صَوَّر لقطة منه فى المدفن: علَّقوا ملايات بيضاء لتعكس الضوء على المشهد، صعد الشباب إلى السطح وثبتوا أطراف الملايات على حرفه بقوالب الطوب، وأثناء التصوير انزلقت طوبة فهوت من السطح لتضرب عمر فى رأسه. والآن وإلى الأبد، فى ضوء الشمس الساطع، معروض كالفيلم على الشاهد الرخامى الذى يعلو مكان أهلى الذين أحبهم ولم أعد أراهم، أرى ابنى، ممسكا بالكاميرا، يتهاوى بطيئا إلى الأرض، عيناه مفتوحتان على اتساعهما، وعلى وجهه الذى تنزل عليه نهيرات الدماء الحمراء تعبير لا ينم عن ألم أو خوف وإنما عن دهشة متناهية.

أنزل من السطوح ونتناقش حول السقف الجديد: سنصنعه من جريد النخل.

عم حامد، الذى يعنى بالجنينة وزراعتها، يدعونى أن أمشى معه إلى الجدار المتآكل الذى يحدد أحد جوانبها. الأولاد يمرون عبر هذا الجدار ويسرقون الفاكهة، وهو يريدنى أن أعيد بناءه. لا أقدر أن أقول له إن الفاكهة التى يرسلها لنا هى من الكثرة بحيث إننا وحتى بعد أن نوزع منها على الأهل والأحباب لا يمنع أن نجد حبة أو حبتين تذويان فى قاع درج الثلاجة، فلماذا لا يأخذ الأولاد بعض الفاكهة؟ أقول «نستنى شوية على الحيطة، كفاية مصاريف تصليح البيت».

نمشى فى الأرض ونلتقط حبات الليمون ويرينى عم حامد نخلة تهاوت، طولها الفارع يرقد الآن على الأرض.

«طب إيه اللى وقعها؟»

«عمرها».

«شوفى فضل ربنا سبحانه وتعالى » يقول الأسطى أشرف، «النخلة، حتى لما تقع، تقع فى مكان فاضى، ما تقعش على حاجة ولا على حد».

ويتفق معه عم حامد: «النخلة ما تإذيش أبدا، حياة وممات».


الرابعة بعد الظهر

«باى!»

«سلام!»

«باى!»

سلسلة من الوداعات. الأبواب تغلَق بدرجات متفاوتة من العنف والرقة. تخرج سهير ثم أخى ثم سالمة ومريم وتشكيلة من الأصدقاء والأقارب الذين كانوا فى البيت. الكل ذاهب إلى التحرير وأنا جالسة إلى مائدة السفرة فى بيت أخى لأعمل على النص الذى علىَّ أن أتِمُّه وأرسله إلى الجريدة فى اللحظة التى ينتهى فيها مبارك من خطابه. هل سيرحل؟

أنا جاهزة للخروج حالما أرسلت المقال. حقيبتى على كرسى إلى جانب الباب والبطاقة والمفاتيح فى جيبى. المحمول لا يكف عن الرنين: لندن، مونتريال، دلهى، دبلن، العالم يريد أن يعرف كيف نشعر ونحن فى التحرير، وأضطر إلى القول والتكرار: لا أعرف لأننى لست فى التحرير. لكن التحرير مليان عن آخره، الملايين فى التحرير.

أكتب وأقوم أخطوا. ذهابا إيابا. أكتب وأناور. هل سيكون نصا يحتفى بحريتنا؟ أم سيكون نصا يصر على المثابرة، الاستمرار؟ جيئة وذهابا وأرد على الهاتف وعينى على شاشة التليفزيون. التحرير هو مركز الكون، وهو على بعد عشرة دقائق وأنا لست هناك. أخرج إلى الشرفة. الشارع مهجور. الخفافيش تلهو مرحة فى أشجار المانجة. أكتب فقرة جديدة. جيئة وذهابا. أراجع أشيائى فى جيوبى وفى حقيبتى.


السادسة مساء

تَمّ. بيان مقتضب يلقيه عمر سليمان وهو يبدو ميتا أكثر حتى من المعتاد، وخلفه فى الكادر رجل ثقيل البنيان مقطب الجبين. حسنى مبارك تنحى والقوات المسلحة هى حاكم البلاد. قلبى يدق يدق يدق ويداى قطعتان من الثلج. المشاعر تتدفق داخلى. أظن أننى سوف أنفجر وأتناثر على السقف والجدران. أجرى إلى المائدة وأقرأ ما كتبت. أكاد لا أستطيع القراءة لكن من الواضح أن هذا النص لن ينفع. أجلس. أغمض عينىَّ وأجبر نفسى على الإبطاء، على أخذ عدد من الأنفاس العميقة. ثم أبدأ من جديد فأكتب:

«فى ميدان التحرير وفى شوارع مصر أصر الشعب على استعادة نفسه وإنسانيته. والآن سوف يستعيد دولته. منذ هذه اللحظة ليس لنا رئيس سارق، ولا نائب رئيس يؤجر بلادنا مقر تعذيب لاستعمال الإدارة الأمريكية، لا وزارة فاسدة ولا برلمان مزيف ولا قانون طوارئ. رحل النظام وبدأنا مرحلة جديدة. على مدى أسبوعين كانت الناس تهتف «الشعب! الجيش! إيد واحدة!» سوف نعمل الآن على أن نجعل هذا الهتاف يعكس حقيقة إيجابية إلى أقصى حد: القوات المسلحة سوف تضمن أمن البلاد وسلامتها بينما نحن نشكل ونبنى المؤسسات المدنية التى ستعمل على بلورة خطتنا خطط الشعب لهذه البلاد.. فى التحرير التقيت سيدتين فى المراحل الأخيرة من الحمل، كانتا بانتظار الولادة بين يوم وآخر وتريدان لمولوديهما أن يأتيا إلى مصر حرة. الآن يمكنهما الوضع.. راقَب العالم هذه المعركة بين من ناحية حكومة فاسدة عنيفة متسلطة متشبثة، تحت يدها كل أدوات الدولة، ومن الناحية الأخرى تكوين عضوى هائل متنوع من المواطنين، أدواتهم هى أجسادهم والكلمات والموسيقى والشرعية والأمل. وصلت إلينا مساندة شعوب العالم صادحة عالية لا تُخطأ، وما حدث هنا عبر الأسبوعين الماضيين سوف يمد المواطنيين والمدنيين فى كل مكان بالصوت وبالقوة.. يبدأ عملنا الآن: أن نعيد بناء بلادنا على شكل مثالى، جميل كجمال الثورة التى قمنا بها لاسترجاع الوطن. أن نتذكر دائما شبابنا الذين استشهدوا فى سبيل أن يحدث ما حدث الليلة، وأن نحملهم معنا إلى مستقبل يليق بهم وبنا، ويليق بأصدقائنا، ويليق بالعالم.. تأملوا شوارع مصر الليلة: هكذا يبدو الأمل».


أدوس على «ارسل»

أنطلق فى شارع الدقى ثم شارع المساحة فأجدنى فى زنقة مرور فى ميدان الجلاء: الكل يحاول الوصول إلى التحرير. أجلس فاتحة النوافذ ليدخل منها صوت الطبل، صوت الفرح. الناس يرقصون، يتقافزون على الجزيرة فى وسط الميدان، يرقصون على السيارات، يضحكون، يوزعون الحلوى. يمر رجل بأكواب من الشربات. الأطفال والشباب يتسلقون أعمدة النور لكى يلوحوا بأعلامهم من أعلى موقع ممكن. أهاتف أختى، أبى، أخى، عمر، إسماعيل، خالتى ليلى. أهاتف الأسطى أشرف: مبروك، مبروك، مبروك. لا نتحرك سوى بضعة سنتيمترات من حين لآخر. ليست مشكلة، المهم أننا خلعناه، وأننا نتحرك.

تكاد لا ترى أسود قصر النيل من تكدس الأطفال فوقهما. مئات الأيادى ترفع الموبايلات عاليا: الكل يريد صورة فى اللحظة، وأنا جزء، خلية، فى موجة الإنسانية الفرحة التى تموج عبر الكوبرى، عبر النهر، نيلنا، حَىّ بالأضواء المتلألئة، بالألعاب النارية، بدقات الطبول.


ثم التحرير

تأخذ نفسا عميقا على عتبة التحرير. الميدان تتصاعد منه طاقة عجيبة، هدير صوت الشعب الفرح، والصواريخ والشماريخ تزهر، وتخبو لتزهر ثانية، وآلاف الأعلام والرايات تلوح، واللافتات المرفوعة تحتفل «خلاص مافيش تعذيب»، «أهلا ببكرة!»، «مبروك للدنيا!» وقرب محطة المترو يلاقينى صوت عبدالحليم: بالأحضان بالأحضان بالأحضان، بالأحضان يا بلادنا يا حلوة بالأحضان.. آخر مرة سمعت هذه الأغنية كانت فى فى 2005 فى المسرح الكبير فى دار الأوبرا وتفاجأنا جميعا فاجأنا أنفسنا، حين أخذنا نحن الجمهور نبكى بحرقة. والآن أرانا هنا نبكى من الفرحة ونضحك ونحضن ونسلم على بعضنا وحين تنتهى بالأحضان وبدون فاصل يتصاعد ذلك النشيد العربى الذى كان مغضوبا عليه سنين طويلة والذى يتضح أن الشباب أيضا يعرفه عن ظهر قلب فيغنى الجميع مُقْسِمين «فى فلسطين وجنوبنا الثائر هنرجعلك حرياتك» ثم، وبصوت أرَقّ، «إحنا وطن يحمى ولا يهدد، إحنا وطن بيصون ما يبدد» وها هم الألتراس يجوبون الميدان، أحبابنا الألتراس، الروح ترتفع حين نراهم، تكاد ترى الطاقة شررا حيا ينبثق عنهم، يطقطق كالنار الملونة، كالشماريخ، على جدران جامعة الدول العربية: «اللى يحب مصر/ ييجى يصَلَّح مصر»، من على جدران المجَمَّع: «هنتجوز/ وهنخَلِّف»، من على المتحف المصرى: «إرفع راسك فووق/ انت مصرى! إرفع راسك فووق/ انت مصرى! إرفع راسك فووق...».

وفى قلب الميدان الصينية، وفى قلب الصينية سكون. صور الشهداء. شبابنا. سالى زهران: ضربات عنيفة إلى الرأس، تلقى إلينا بنظرة جانبية بها شقاوة، وتضحك. محمد عبدالمنعم: طلق حَىّ فى الرأس، شعره مرتب بعناية بالجل. على محسن: طلق نارى، يحمل طفلا صغيرا ضاحكا على خلفية من بحر أزرق واسع. محمد بسيونى: طلق نارى، يستلقى مبتسما حاضنا طفليه. محمد عماد، يفتح ذراعيه واسعة مرحبة ويرتدى تيشيرت مكتوب عليه «لندن». إسلام، يأخذ وضعا تاريخيا أمام النيل. إيهاب محمدى يبتسم لكن عينيه بها شرود.. وآخرون وآخرون، 843 آخرون. فى لحظة الانتصار، هذه اللحظة الفرحة المستبشرة المبهمة، هم القلب الساكن: شبابنا الذين نزلوا إلى الميدان مُصِرّين ومسالمين لينقذوا بلادهم وينقذونا. مستقبلنا دفعوا ثمنه بأرواحهم. لذا فلا تراجع. أبدا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.