إذا كنت تبحث عن الهدوء وراحة البال، بعد أن زادت عليك الهموم والكروب، فعليك وعلى السيدة سكينة، سيدة «الحائرين» كما أخذ الجميع يردد وهو يطوف حول مقامها الكريم..هى السيدة الجليلة الطاهرة الشريفة، التى تعرف فى الأصل باسم «آمنة» ولكن لقبت بسكينة لتميزها بالسكون والهمة والوفاء، وهى بنت الإمام الحسين التى عشقها المصريون سيراً على درب «محبة آل بيت النبى»، التى سكن إليها فى مقامها كل صاحب هم أو كرب، فعند بابها تتلاقى شكاوى من آلمتهم الدنيا وأوجعت قلوبهم. وعلى حوائطها كتب مريدوها «يارب فك كربى». دخلت إلى هناك لأرى قلوبا هائمة حائرة تبحث عن الخلاص، وفى كل مرة يطوفون حولها تتجدد الشكوى وتتساقط الدموع. هنا من شعر بالقهر والحزن، كثير من ساندى الرءوس على حديد المقام الشريف، ممن جاؤوا إليها ليشكوا فى صمت، بعد أن حملت نفسه ما لا تطيق، فأراد أن يفرج عن نفسه لدى مقام صاحبة السكينة وتطييب الخواطر.. قبة من النحاس محلاة بتاج خشبى وداخله رفات السيدة «سكينة» وابنتها السيدة «رباب» وينتصفه عمود حجرى مغطى بقماش أخضر رائع النسيج. فأنت فى مقام السيدة سكينة فى مصحة نفسية روحية، فلست فى حاجة إلى أنت تقف فى طابور طويل مع أمثالك المرضى، وعندما تدخل عبر بابها إلى داخل المقام ستجد هدوءا غير عادى فى الضريح على الرغم من أنه يقع على شارع مزدحم بالمارة والعمال، إلا أن حالة الخصوصية والطمأنينة تضغى على كل ما يقتحم هذا السكون أو يحاول تشويشه. • تطييب الخواطر أثار فضولى مشهد أحد المريدين وقد أسند رأسه على باب مقامها الحديدى وهو يتمتم فى تضرع وبكاء مكتوم. اقتربت قليلا لأجد رجلا يقترب من الستين يبدو عليه العقل والاتزان من هيئته، وقد جلس على ركبتيه وأمسك بحديد المقام كمن يتمسك بقشة فى بحر خشية الغرق، دموع وابتهالات لا تتوقف، حتى سكن قليلا بعد نوبة البكاء التى استمرت لدقائق، ثم وجدته يقول «يرضيكى ياست» أعيش لوحدى فى السن ده؟ بعد ما علمت وربيت وكبرت؟ أعيش غلبان فى الدنيا لا ابن ولا بنت تسأل عليا.. سنتين معرفش عنهم حاجة إلا من الجيران، وهما رافضين أروح لهم البيت، أعمل إيه، مش عارف أنساهم. أنا مش عايز أضايقهم بس عايزهم يسألوا عنى، والنبى ياست يوافقوا ييجوا عندى فى رمضان. ويتجمعوا وأفرح بيهم.. ثم دخل فى نوبة بكاء مرة أخرى.. ابتعدت عنه لأجلس فى أحد جوانب الضريح وقد أصبحت أكثر سوءا من حالته، فقد تأثرت بدموعه وحزنه الذى لم يجد له خلاصا إلا برسالة إلى السيدة سكينة علها تبعث فى نفسه بعض الهدوء وتطييب الخاطر. • بشوف أمى طفل فى العاشرة من عمره أو ربما أقل يحمل بعض الكراسات والورق وقلم رصاص، وجدته يجلس فى أحد أركان المقام وهو يفترش الأرض بأوراقه ويكتب، جلست بعيدا أراقب ماذا يفعل، ولكنه لم يمكث طويلا، فاعتقدت أنه قد يكون متسولا أو شيئاً من هذا القبيل، سريعا ما لملم أشياءه المبعثرة وحمل حقيبته على ظهره ليقترب من المقام ويقول «ممكن تقولى لأمى أنى خلصت مذاكرة، وبذاكر من دلوقتى عشان أطلع الأول السنة الجاية، ثم اقترب أكثر - ولم يكن يفصلنى عنه الكثير - وهو يقول «أمى كده تسبينى لوحدى، شفتى أخويا خالد ضربنى عشان عايز مصروفى، وخالتى مبقتش تيجى تعملنا أكل، بس أختى بسمة عملت لى ساندويتش فول بالطماطم زى اللى كنتى بتعملهولى .. سكت عن الكلام لكن لم تتوقف نظرته الطويلة إلى المقام، ربما كان هناك سر أراد أن يخبر به أمه دون أن يسمعه أحد. • الآنسة نجاح صاحبة الخمسين جئت كما تعودت منذ عشر سنوات.. إنها الآنسة نجاح صاحبة الخمسين عاما، امرأة تحمل من البشاشة والبساطة ما يدفعك للقرب منها رغما عنك. لم تبد اعتراضا على الجلوس معها بعد أن استأذنتها، إنما ردت مبتسمة «اتفضلى يا حبيبتى».. جلست بجانبها وأنا أنظر إلى وجهها البشوش فدائما ما كنت أتشكك بالجلوس قريبة من أى شخص فى مثل هذه الأماكن خوفا من أن يكون أحد المجذوبين التائهين فى ملكوت صاحبة المقام. . ترتدى عباءتها السمراء وطرحة بنفس اللون وتمسك بيدها مصحفا، نظرت لى وهى تقول «شكلك أول مرة تيجى». فقلت لها: أيوه أول مرة فابتسمت وهى تقول: شوفى بقى ياستى أنا باجى هنا من عشر سنين، كان عندى 35 سنة لما جيت أول مرة هنا مع أمى، كانت بتيجى تشكى لها همها وحياتها مع والدى، وكان نفسها أتجوز فكانت بتيجى تدعى إن ربنا يرزقها - كانت بتشتغل فى البيوت - عشان تعرف تجهزنى وأتجوز لأن والدى كان أرزقى وبيصرف فلوسه على السجاير، المهم أمى ماتت وخرجت أنا كمان أشتغل فى محل تأجير فساتين خطوبة وأفراح، واشتغلت لحد ما كونت نفسى وعشان أعرف أتجهز، بس كان وقتها عندى 40 سنة وطبعا فات قطر الجواز، مين هيتجوز واحدة غلبانة وشكلها على أدها وعندها 40 سنة. ومحدش أساسا أتقدم عشان يخطبنى.. حمدت ربنا وجوزت أخواتى وبقيت آجى يوم فى الأسبوع السيدة سكينة عشان هى اللى بتطبطب عليا، لما بحس أنى وحيدة وإن الدنيا مزعلانى، وعمرى ما جيت لها إلا ومشيت مجبورة الخاطر، باجى أحكى وأفضفض لها على كل اللى مزعلنى واللى مضايقنى، وأقولها كل الكلام اللى مقدرش أقوله لحد تانى، وهى بتسمعنى وبحس بيها بتقولى متزعليش وتاخد بإيدى. . هنا القلب الكبير اللى بتحسيه بيحضنك ويخفف عنك، عشان كده بحس أنى وسط أهلى وحنان العيلة والأم أول ما أدخل المقام، وخدام المقام هنا عارفنى وبيسبونى قاعدة لوحدى فى المقام اتكلم وأحكى وعمرهم ما اعترضوا على وجودى. . انتهت من كلامها وكأنها كانت تريد من يشاركها تلك اللقطات المهمة من حياتها دون سؤال أو اعتراض. وهكذا تركتها تتحدث حتى انتهت ثم وجدتها تتوجه نحو المقام وهى تمسك بيدى وتشير إلى هيكل المقام وتقول، هنا هتلاقى اللى يسمعك من غير ما يوجعك. . تركتنى وهى تودعنى بابتسامة داعية لى بالخير وراحة البال، وفجأة وجدتنى وحيدة بالمكان، أمسك بحديد المقام كغيرى ممن كانوا هنا منذ قليل ، هل هذا دورى؟! ماذا أفعل، هل أشكو إليها؟! هل أخبرها بما يحزننى، هل أتحدث فى كلمات شارحة أم أنها تقرأ أفكارى؟! .. تلك الأنوار الخضراء التى تحيط بالمقام تعطيك إحساساً بالهدوء والاسترخاء ورائحة المسك التى تملأ المكان تضفى مزيدا من الجمال على صاحبة المقام، ها هو حديد المقام الشاهد على دموع وآهات كثيرين ممن جاءوا بحثا عن الأمان والسكينة، وأنا الآن أقف أمامه أتلمسه، لدى بالتأكيد ما لدى غيرى من أشياء تزعجنى، أتذكرها جيدا، حقا إنها مؤلمة، أخذت نفسا عميقا وحمدت الله وأنا اقرأ الفاتحة لصاحبة المقام الكريم وجميع أمواتنا. قررت الخروج، ووجدتنى أحمل نفس الابتسامة التى كانت على وجه الآنسة نجاح، فهى عدوى الرضا والطمأنينة، وودعت مقام السيدة سكينة وأنا أقرأ ما كتب على بابها: هدى السكينة بنت مولانا الحسين سبط البنى المصطفى طه الأمين نور النبوة شع من روض لها فيه السكينة فى وقار المخبتين لما أتيت وقلت: ألف تحية منى على بنت الكرام الأكرمين قالت: بنى.. جزاك ربى خير ما يجزى الضيوف المخلصين المكرمين انزل بنى بنا حوائجك التي قد ضيقت صدرا وأبكت منك عين. •