استعاد حزب العمال يوم الخميس 5 مايو الجارى منصب عمدة لندن بعد أن شغله بوريس جونسون عضو حزب المحافظين لفترة ثمانى سنوات باقتدار. انتصرت دعوة الأمل وبرنامجها الانتخابى العمالى الواعد بحل الكثير من المشاكل التى يعانى منها قطاع كبير من الشباب اللندنى، على حملة الإخافة التى وضع المحافظون فى بؤرتها علاقة الدين الإسلامى الذى يعتنقه المنافس بالإرهاب. فاز صديق خان وخسر جولد سميث. كسب المعركة ابن «سواق الأتوبيس» وخسرها سليل الأرستقراطية. لم يُصوت الناخبون لعقيدة المرشح، ولكنهم اقتنعوا برؤيته لحل مشاكلهم وسيحاسبونه عليها قبل أن يحاسبه عليها حزبه السياسى. من هو صديق خان؟ هو الخامس بين ثمانية أشقاء سبعة، صبية وبنت واحدة.. أنجبهم مهاجران باكستانيان قدما إلى بريطانيا منتصف عام 1970.. ولكنه الأول بين إخوته الأربعة الذين ولدوا فوق أرض وطنهم الجديد. فاز أبوه بعد أشهر قليلة من استقرار الأسرة فى لندن بوظيفة سائق لمركبة نقل عام.. وبقى فيها إلى أن أُحيل إلى التقاعد منذ سنوات قليلة.. واشتغلت أمه بأعمال حياكة الملابس فى واحد من المصانع الكثيرة المنتشرة فى أحياء شرق لندن. عاش طفولته حتى سن العشرين فى شقة سكنية حصلت عليها أسرته من مؤسسة الدعم الاجتماعى البريطانية بصفتهم مهاجرين جددًا. جذبته السياسة وهو فى سن الخامسة عشرة.. التقطته أعين حزب العمال.. ودربته على العمل الحزبى وفتحت له دروب السياسة وخدمة الجماهير.. لعب كرة القدم وتدرب على الملاكمة.. وزع وقته بين العمل الحزبى وبين المشاركة فى بعض المباريات على مستوى الأحياء السكنية.. لكن السياسة كانت لها دائماً الأولوية. رتب مستقبله بعد الحصول على شهادة إتمام الدراسة الثانوية لكى يتخرج طبيباً للأسنان، لكن نقاشاته ولجوءه إلى استخدام الحجج والأسانيد لإقناع الطرف الآخر وبراعته فى بناء أفكاره وترتيبها، دفعت أحد أساتذته لأن يقول له يوماً «سيبك من دراسة طب الأسنان! أنت لو درست القانون ستكون محاميًا ناجحًا». وكان رأياً فى محله. نقل صاحبنا مجاله الدراسى إلى ميدان علوم القانون.. التحق بجامعة نورث لندن وهناك وجد نفسه بين مواد القانون وروحه.. وحدد منذ البداية أنه سيتخصص فى قضايا حقوق الإنسان.. وبعد تخرجه عام 1994 انضم للتدرب بواحد من مكاتب المحاماة الشهيرة فى وسط لندن.. ولمع اسمه واشتهر بأنه مدافع قوى عن حقوق الإنسان والعمال والمهمشين بعد أن كسب الكثير من القضايا التى اهتمت بها وسائل الإعلام وعرضتها جماهيرياً بشكل شجعه على أن يؤسس مكتباً مستقلاً مع آخرين ممن أبدوا اهتماماً بنفس القضايا.. فى نفس هذا التوقيت فاز صديق خان بعضوية المجلس المحلى لحى «توتينج السكنى» الذى عاش فيه معظم سنوات عمره. أغرته وزارة الداخلية عام 2004 أن يتعاقد معها لشغل وظيفة مدقق عام لتطبيقات القانون على مستوى العاصمة البريطانية، لكى تتجنب القضايا الكثيرة التى كان المواطنون يقيمونها ضد سياساتها التى يراها البعض متعارضة مع حقوق الإنسان.. ونجح فى هذه الوظيفة بشكل لفت إليه مزيدًا من الأضواء. عضوية مجلس العموم كان عليه أن يفكر فى الترشح للفوز بعضوية المجلس النيابى.. بعد أن ذاعت شهرته فى مجال الخدمة الجماهيرية فى ضوء مجهوداته ضمن نشاطات المجلس المحلى من ناحية وبراعته فى مجال المحاماة دفاعاً عن حقوق الإنسان من ناحية ثانية، بالإضافة لشفافية استشارته القانونية التى كان يقدمها لإدارة شرطة العاصمة.. وتأييده لمطالب الحركة النقابية العمالية القانونية ودفاعه المستميت عن حقوق أعضائها. وجاءه الفوز عام 2005 كعضو لحزب العمال عن دائرة توتينج الانتخابية.. وتعرض لأول امتحان له فى نفس العام على خلفية حوادث الإرهاب التى تعرض لها سكان لندن فى 7 يوليه من نفس العام، حيث رفع صوته مسانداً لسكان لندن من كل الأعراق وجميع المعتقدات داعياً إلى «الوقوف صفًا واحدًا ضد كل ما يهدد الإنسان أيًا كان لونه أو عرقه أو معتقده».. عضويته بمجلس العموم لم تمنعه من قيادة جبهة برلمانية معارضة لسياسات رئيس الوزراء العمالى تونى بلير الرامية إلى استصدار بطاقات هوية جديدة، لأنه رأى فيها نوعًا من التمييز «بين الإقليات».. وكذا لمشروع القانون الذى كان ينص على السماح باعتقال «المشتبه فى قيامهم بأعمال إرهابية» لمدة قد تصل إلى 90 يومًا دون توجيه أى تهمة لهم. مناصب ومسئوليات .. مستويات التعامل مع المسئوليات التشريعية والرقابية التى لفتت الأنظار إلى صاحبنا دفعت جوردن براون الذى تولى رئاسة الوزارة البريطانية عام 2007 أن يختاره لشغل منصب مستشار الحكومة أمام مجلس العموم.. بعدها تم تصعيده لمنصب وزير دولة لشئون المجتمعات المدنية.. وفى عام 2009 حظى بأول منصب وزارى تنفيذى، حيث اختير لتولى مسئوليات وزارة النقل. هذه الخلفيات التى تشكلت جميعها حول محورين أساسيين. أولهما دراسة صديق خان للقانون وتعمقه فى تطبيق «روحه ومعانيه ومضامينه» فى مجال حقوق الإنسان والتشريعات النقابية حتى لو كان الأمر يتعلق بتطبيقات الحكومة البريطانية المخطئة أحياناً فى هذا المجال. وثانيهما إنجازاته الجماهيرية المتواصلة لاثنى عشر عامًا كعضو منتخب بالمجلس المحلى لمكان إقامته، ومثلها كعضو بمجلس العموم وتحمله مسئولية شئون المجتمعات ثم وزارة النقل.. هى التى دفعته لأن يترشح عن حزب العمال للمنافسة على منصب عمدة لندن.. وهى فى الحقيقة مسئوليات ضخمة ومتعددة، تتوزع بين: - سياسات الأمن التى تتبعها شرطة العاصمة وأجهزة الأمن التابعة لها. - تنظيم خطوط النقل العام ومسارات المرور للسيارت الخاصة والخدمية. - وضع استراتيجية لحل مشاكل الإسكان. - تصميم برامج للتخطيط تساعد مستشارى مجلس العاصمة فى الاحتفاظ بمستويات النظافة والتجميل والنقاء البيئى التى تتمتع بها لندن. برنامج صديق خان الانتخابى تضمن بالإضافة إلى رؤيته الواضحة لكيفية إدارة هذه المسئوليات مع مجلس العمدة المنتخب، وعود بتجميد أسعار وسائل النقل العام لمدة أربع سنوات ( 2016 - 2020) .. وبالعمل على بناء 50 ألف منزل جديد كل سنة - خلال نفس الفترة - تكون أسعار وحداتها فى متناول المحتاجين.. وكذا بمحاربة الإرهاب والعنصرية وتأكيد التعددية. من جانبى أتوقع .. أن يُشكل برنامج حكومة حزب المحافظين لبدء تنفيذ مخطط توسيع «مطار هيثرو» خلال شهر أغسطس القادم، أول صدام بينها وبين عمدة العاصمة العمالى الذى بنى جزءًا من برنامجه الانتخابى على مقاومة هذا المشروع وعلى تجييش الرأى العام اللندنى لتنفيذه «لأنه معادٍ للبيئة بكل مستوياتها». وأن يتتبع الناخبون خطواته الهادفة لتثبيت أسعار تكلفة النقل العام ومشاريع بناء المساكن الجديدة وتوقيتات الانتهاء منها وطرحها للبيع وتكلفة المتر المربع، وما إذا كان سيأتى مناسباً لمستويات المعيشة التى يعيشون تحت ظروفها أم لا، لكى يحاسبوه على مدى ما حققه من نجاح أو ما لاحظوه عليه من فشل. وأختم بالقول: إن انتخاب صديق خان ليشغل منصب عمدة العاصمة البريطانية أكد شفافية ومصداقية ناخبيها، لأنهم .. برهنوا على أن معيارهم الأول والأخير فى المفاضلة بينه وبين منافسه المليونير المحافظ، هو البرنامج الذى طرحه عليهم والذى سيكون هو المحك الحقيقى لقدرته على مواصلة تحمل المسئولية وليس عقيدته الدينية. ولم يستسلموا للدعايات المغرضة التى أطلقها حزب المحافظين ضده والتى ركزت على علاقته المزعومة بالتيار الإسلامى المتشدد فى بريطانيا.•