نتحدث كثيرا عن مشاهير تاريخ الفن التشكيلى الأوروبى ونقتدى بهم، ويجهل أغلبنا أن فنانى القرن العشرين جعلوا مبادئ فن التصوير المصرى القديم هى المبادئ التى ثاروا بها على الفن الأوروبى التقليدى لما للفن المصرى القديم من تجريد وتبسيط ورمزية لأنه الأقرب إلى الخلق الفنى بمعناه الصحيح، وأنهم جعلوا الأساليب الفنية التى أنتجها أبوهم الفنان المصرى القديم هى نفسها المبادئ التى احتذوا بها وساروا فى فنهم الحديث على نهجها، وذلك لأننا عندما نتحدث عن الفن المصرى القديم نتحدث عنه كفن خالص ونذكر منه «العمارة، التصوير والنحت».. نتذوق جمالياته وندرس خصائصه وأساليبه، ودائما ما نتجاهل دور الفنانين الذين قاموا بعمله، فهو فن لم يصنع لذاته، بل إن الفنان المصرى القديم هو بالتأكيد (جوهر هذا الإنجاز الفنى). يرجع للفنان المصرى القديم الفضل فى معرفتنا لتاريخ الحضارة المصرية القديمة، فهو برع فى فن النقش والتصوير على جدران المقابر والمعابد والنقوش التذكارية وعلى المسلات وأوراق البردى وحتى على أدوات الزينة وأدوات الطعام والحلى والتوابيت والأثاث سواء أكان أثاثا جنائزيا أو أثاثا استخدمه فى حياته اليومية منذ عصر ما قبل الأسرات وحتى نهاية العصور الفرعونية. بمعنى أنه لم يترك شيئا يستخدمه فى حياته أو يستخدم بعد مماته إلا نقش عليه شيئا أو رسم عليه صورة فنجد أنه فى معابده قد نقش كتابات وأناشيد تمجد المعبود أو الآلهة التى يعبدها إلى جانب صور للآلهة المختلفة التى زينت المعبد وأيضا نقوشا بأسماء وأنواع القرابين التى ستقدم للمعبود فى شكل قرابين من الشعب فقد كان الهدف من فنه هو خدمة طقوس الآلهة والملوك والموتى، كما أنه سجل أنشطته اليومية بشكل كامل. أصحاب المكانة الرفيعة والحقيقة أن الفنانين المصريين القدماء كانوا أعضاء مهمين وذوى مكانة رفيعة فى المجتمع، حيث كلفوا من قبل الفراعنة بمهمة جليلة وهى بناء مثوى أبدى فخم للفرعون الحاكم وأن يغطوا حوائطه بوصف للعالم الآخر مثل الفنان «حم إيونو» المهندس المعمارى الشهير صاحب تصميم الهرم الكبير للملك خوفو. كما صوروا وكتبت أسماؤهم بالقرب من رعاتهم المرموقين خاصة أصحاب المقابر من النبلاء. ورغم ذلك لم نعرف الكثير منهم وذلك لأن الإمضاء أو التوقيع كان يمثل حالة نادرة جدا لكنها ليست فريدة، فمبدأ توقيع الفنان على عمله الفنى من أجل الذكرى والخلود على الرغم من شيوعه اليوم فقد كان فى الغالب غريبا على التفكير المصرى قديما. فالتوقيع واللوحة قديما لم تكن بمنطق اللوحة الآن.. فاللوحة الأن ليس لها صلة بالمحيط حولها، أما قديما فالفنون المصرية القديمة مثل النحت والرسم والنقش ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بالهندسة المعمارية ولم يمثل أى منها فناً مستقلاً، وإنما كانت تستخدم من أجل زخرفة المعابد والمقابر. وقد أثر ذلك كثيراً على ملامح تلك الفنون وموضوعاتها وسبل استخدامها. أيضا من أسباب ندرة التوقيع للفنانين أن تدوين أسمائهم داخل المقبرة كان يعتمد على علاقتهم ومدى وقربهم من صاحب المقبرة نفسه، فبعض مناظر جدران المقابر سجلت أحداثا وأشخاصا أراد صاحب المقبرة نفسه أنه يخلدها، ونتيجة لذلك فإن عددًا قليلا من الفنانين المدونين فى مقابر الأفراد لم يسجلوا ليس بسبب قدراتهم الفنية وإنما بسبب علاقتهم الخاصة وقربهم من صاحب المقبرة نفسه، بمعنى أن القرار بمن أو ماذا يسجل فى مناظر المقبرة كان راجعا فى نهاية الأمر لرغبة صاحب المقبرة وحده. ومن هنا عرفنا عددًا من أسماء الفنانين من مصر القديمة. فعلى سبيل المثال ترك لنا من الدولة القديمة الفنان «سنى» من أخميم نصًا لسيرته الذاتية يخبرنا بأنه قام بنقش مقبرة «خنى» ونعرف أيضا أحد الفنانين ويدعى «كاى إن تن إنت» من منطقة مير بمصر الوسطى، وفى الجيزة عثر على أسماء الفنانين «سمر كا، إن كا إف» بمقبرة «نب إم آخت»، ونحن ندين لهؤلاء الرجال بالفضل لإنجازهم مقابر وادى الملوك.. ومن مظاهر التكريم التى منحت لفنانى مصر القديمة أن صور فنان يدعى «إيجى إم سا ببى» ثلاث مرات فى مقصورة «ببى عنخ: حنى كم»، وهو عاكف على تلوين تمثال ومقصورة وإناء وقد ظهر الفنان بحجم أكبر من أى موظف أو حرفى آخر كما أشير إليه باسمه ثم وصف مرتين «بالمبجل»، كما هى الحال مع «كاى إم ثننت» فى مقبرة «ببى عنخ حرى إيب»، حيث كتب اسمه بطريقة جلية بلون أسود واضح ومن هذه الإمضاءات يبدو أن الفن فى مصر القديمة سواء النحت أو الرسم كان مهنة ذكورية تماما. وفى الوقت نفسه استغل الفنانون أوقات فراغهم فى بناء قبور لهم وزينوها أيضا بشكل بسيط، لكن بحب بنائين وفنانين مهرة، ويعد قبر الفنان «سندجم» من الدولة الحديثة الذى شيده لنفسه وعائلته خير مثال على ذلك ودرة عالم طيبة الغنى بالمقابر. الأخطاء الشائعة من الأخطاء الشائعة فى حق الفنان المصرى القديم أن اعتبره بعض الأثريين مجرد حرفى مغمور يأخذ تعليماته من الكاهن، لكنه اعتقاد خاطئ ربما جاء لأن بعض المشاهد الجدارية تصور الفنانين فى شكل جماعات يعملون فى ورش وهم بالقرب من الحرفيين والصناع الآخريين مثل: (عمال المعادن، النجارين، صناع الأوانى الحجرية، إلخ ..) فى محاولة لتجميع أنشطة متعددة فى منظر واحد. كما أن الفن المصرى القديم تميز وحُدِد بخصائص فنية معينة (قواعد وأساليب وتقاليد دقيقة) وملزمة أُرسيت قواعدها من عصر الأسرات المبكر واستمرت طوال العصر الفرعونى التى جعلته بارزا بين الفنون التى أنتجتها الحضارات القديمة والحديثة التزم وقيد بها الفنان ولم يكن فى حل من أمره لكى يغير تلك التقاليد الراسخة التى جعلت فنه يبدو لغير المتخصص أنه فن صارم يكرر نفسه وبه رتابة خاصة مع التقارب فى الأنشطة اليومية المصورة ونمط الحياة أدى إلى تشابه مناظر المقابر من الناحية السطحية، ولكن بدراسة فاحصة نجد كثيرًا من الاختلافات وتظهر القدرات الفنية والإبداع لدى الفنان فى الخروج، خرج أحيانا عن ذاك النظام المتبع حينها وتمكنه من ترك بصمته الشخصية على أعماله. فقد رسم الأشياء من مظاهرها الأكثر تميزا.. رسم ما يعرفه وليس ما يراه، وتميز بمهارته الشديدة فى رسم التفاصيل ويظهر ذلك بوضوح فى مشاهد الرقص المصرى القديم وهى المشاهد الأكثر جاذبية ولفتا للنظر خاصة رقص الأكروباتيك الذى تؤدى فيه الراقصات حركات صعبة ومبهرة، وقد انتشرت مناظر هذا الرقص فى الكثير من أعمال التصوير واسكتشات الرسم وفيها نلمس بوضوح مدى قدرة وكفاءة هؤلاء الفنانين فى الرسم وتصوير أدق الحركات وأكثرها عنفا أو رقة ورشاقة. أما عن مسألة من هو الأهم قديما الرسام أم النحات فقد امتلك الاثنان مهارات متشابهة وعملا معا من أجل إخراج تمثال جميل أو نحت ملون على الجدران.•