ربما لم تمر مصر من قبل بظروف اقتصادية سيئة كالتى تمر بها حاليا، حتى فى أوقات الحروب، كان هناك حد كاف من الأمان الاقتصادى، ولأن المشهد يستدعى تكاتف جميع الخبرات الاقتصادية واستطلاع آرائها، لذلك أجرت «صباح الخير» حوارا مع الدكتورة عالية المهدى عميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة سابقا، أكدت خلاله أن استمرار تراجع الجنيه المصرى أمام العملات الرئيسية، وتحديدا الدولار، يرفع من تكلفة خدمة الدين الخارجى، مشيرة إلى أن الخروج من الأزمة الحالية يتطلب فى المقام الأول استقرارا سياسيا وأمنيا. وتوقعت ارتفاع عجز الموازنة العامة للدولة لأسباب تعود إلى منظومة الدعم التى تحتاج إلى إعادة هيكلة والإنفاق الحكومى الذى يتطلب ترشيده.. وإلى نص الحوار. • ففى البداية هل هناك خلل فى السياسة النقدية التى يقاد بها الاقتصاد المصرى؟ - نحن أمام سياسة نقدية مشوهة غير قادرة على القيام بدورها تؤثر سلبا فى توجه الاقتصاد، لأن السياسة النقدية ليست سياسة بمفردها ولكن هى إحدى أدوات السياسة المالية والاقتصادية وسياسات التجارة والاستثمار، من الصعب السير فى اتجاه واحد لأن ذلك يؤثر على باقى الاتجاهات ولا يجوز أن يسير محافظ البنك المركزى فى واد ووزير المالية والاستثمار والتجارة والصناعة فى واد آخر، مصر ليست شركة يمتلكها فرد واحد فقط مصر وطن كبير له اقتصاده الذى يمثل منافسة كبيرة للغاية أمام الدول الأخرى.. حيث إن البنك المركزى يعمل حاليا فى ظروف صعبة أهمها تراجع الاحتياطى النقدى من العملات الأجنبية، وتراجع تدفقات النقد الأجنبى التى فاقمت أزمة نقص الدولار، وصعوبات جذب المستثمرين الأجانب لضخ سيولة دولارية جديدة فى شرايين الاقتصاد، وهو ما يتطلب إجراءات استثنائية وغير تقليدية تسهم فيها السياسات المالية بنصيب كبير. البنك المركزى يعمل بمعزل بعض الشىء عن السياسات المالية فتمسكه بعدم خفض قيمة الجنيه بسهولة وترك سعر الصرف يتحدد وفقا لآليات العرض يصعب من مهام السياسات المالية المتعلقة بتشجيع التصدير وجذب المستثمرين الجدد بدعوى الحفاظ على قيمة الجنيه فى مواجهة الدولرة. • ما أهم المشاكل التى تعوق السياسة النقدية؟ - أولا السياسة النقدية لها أوجه مختلفة لذلك يجب التمييز بين هذه الأوجه وهى سياسة سعر الصرف، سياسة سعر الفائدة، الإصدار النقدى والتوقيتات والبداية هنا من آخر وجه للسياسة النقدية وهى التوقيت يجب أن يكون لدى المسئولين عن السياسة النقدية إدراك بأهمية الوقت، فلابد من اتخاذ القرارات فى الوقت المناسب حتى لاتتفاقم المشاكل الاقتصادية وهذا ما يحدث الآن، فقد أجلنا قرارات كانت من الممكن أن توفر الوقت والمجهود المهدر فى إسناد الجنيه، ونحن نعلم جيدا أنه ضعيف للغاية ونتيجة لذلك أيضا أنهكنا الدين الخارجى بسبب قرارات مؤجلة فى تحريك سعر الصرف وبدأنا فى الفترة الاخيرة باتخاذ قرار تحريك سعر الصرف لذلك فالتوقيت أداة مهمة جدا فى السياسة النقدية لحل مشاكل الاقتصاد المصرى، ثانيا سعر الصرف وهو من الأدوات التى يجب التعامل معها بقدر من الجمود وعدم المرونة، ولأن كرامة البلد ليست بسعر الصرف ولكن قوتها تكمن فى قدرتها على النمو والاستثمار والإنتاج وليس فى قيمة العملة، فنحن نعانى من سياسة محافظى البنك المركزى فى التمسك بقيمة الجنيه من غير سبب موضوعى ولا نحدد قيمته من خلال العرض والطلب، ففى مصر العرض قليل للغاية والطلب كبير للغاية وأيضا كل من شغل منصب محافظ البنك المركزى له رؤية واحدة فقط وهى أنه يجب أن يكون سعر الصرف فى قبضة يده وهذا فكر سلطوى أكبر منه اقتصاديا فلا يوجد بلد يتحكم فيها محافظ البنك المركزى فى سعر الصرف ولكن يتحدد الكترونيا عن طريق «الانتربنك» يوميا حسب العرض والطلب فى السوق لكن فى مصر المحافظ عليه أن يجتمع باللجنة التنسيقية ويتحكم وهذا خطأ اقتصادى كبير وكلف مصر واقتصادها كثير جدا. • هل سعر الفائدة وطباعة النقود أثر على السياسة النقدية؟ - نعم سعر الفائدة، خاصة أن سعر الفائدة يكون حسب العرض والطلب ليس بالضرورة أن يتحكم فيه أحد، وذلك يتم حسب السوق المصرفية وتدخل محافظ البنك المركزى من الممكن أن يحدث بلبلة، بالإضافة إلى أن طباعة النقود، فهذه الأداة تسير بكميات كبيرة وليست طبقا لمعدلات محسوبة فنحن نطبع النقود بدون غطاء نقدى فقبل 2011 كان هناك معدلات معقولة فى طبع النقود أما الآن فنحن لا نعلم حجم النقود التى تطبع فمن الممكن أن تكون طباعة النقود هى السبب الحقيقى وراء ارتفاع الدولار وبالتالى كلما ارتفعت طباعة النقود مع ثبات الإنتاج ومصادر الدخل لأن العملة أيضا سلعة.. ارتفعت الأسعار بشكل منفلت يصعب السيطرة عليه وهذا ما يحدث. • كيف يؤثر ارتفاع الدولار على تكلفة الدين الخارجى؟ وما توقعاتك لسوق الصرف خلال الأيام المقبلة؟ - حيث إن الدين الخارجى مازال عند مستويات خطيرة، فإننى أخشى من ارتفاع تكلفة الدين الخارجى إذا استمر تدهور سعر الجنيه أمام العملات الأجنبية الرئيسية خلال الفترة المقبلة، لكن أتوقع استمرار ارتفاع الدولار أمام العملة المحلية طويلا، خاصة بعد أن قام البنك المركزى بتطبيق حزمة من الإجراءات والأدوات لضبط سوق الصرف وهى جاءت متأخرة. • هل يعنى ذلك أن الوضع أصبح مستقرا؟ - أعترف بأن هناك أزمة فى سوق الصرف، وحلها يتوقف فى الأساس على الاستقرار السياسى والأمنى ثم الإنتاج، والبنك المركزى لا يمكنه أن يقوم بكل شىء وحده والأوضاع جميعها سيئة من حوله، لذا فإنه يجب ألا يتم تصدير حالة من الذعر للمواطنين والمتعاملين فى سوق الصرف حتى لا تتفاقم حدة الأزمة. • هل هناك إيجابيات من ارتفاع الدولار؟ - ارتفاع الدولار سلاح ذو حدين لأنه يساعد فى انخفاض قيمة الدين المحلى بالإضافة إلى أن ارتفاع قيمة الدولار يعود بالنفع على الصادرات، ولكن نحن نعانى من انخفاض كبير فى قيمة الصادرات بالإضافة إلى أن هذا لم يتم على أرض الواقع لأن سعر الصرف غير موحد فى البنك المركزى والسوق السوداء لذلك إيجابيات ارتفاع قيمة الدولار ضئيلة جدا. • هل الجنيه المصرى أوشك على تعويمه؟ - نعم.. وهو بالفعل تم تعويمه والدليل على ذلك انخفاضه ورفعه بشكل تحكمى من محافظ البنك المركزى فيجب أن نراجع أنفسنا فى القوانين الخطأ التى نسير بها بحجة إنقاذ ما يمكن إنقاذه فعلى سبيل المثال تونس وهى الأقرب من حالتنا السياسية فمنذ قيام الثورة أصبح سعر الصرف وقيمه العملة يتحدد طبقا لآليات الإنتربنك مما حمى الاقتصاد التونسى ولم يخفض العملة التونسية نهائيا لكن مصر ضيعت أكثر من 20 مليار جنيه للدفاع عن أوهام سعر الصرف، نحن فى حاجة لوضع سياسة اقتصادية سليمة وسريعة لأن مصر تمر بما يسمى «اقتصاد الأزمات» وهذا يعنى أنه لابد من الأخذ فى الاعتبار من كل ما يدور حولنا حتى لا يزداد الأمر سوءا. • هل الإجراءات الاقتصادية الأخيرة تمت لإرضاء صندوق النقد؟ - بالطبع.. نحن لسنا ضد أى قروض ولكن بحساب يجب أن أضع مصلحة البلد أولا فى الاعتبار ثم أبنى على ذلك، كيف يتم توظيف هذه القروض ومن المفترض أن الحصول عليه بمثابة شهادة ثقة لمصر ولقدرتها على الالتزام بتعهداتها الخارجية، وهو ما سيجذب معه مساعدات من مؤسسات دولية مختلفة وتوافد الاستثمار الخارجى على السوق المحلية، ما يسهم فى زيادة الاحتياطى النقدى وخفض عجز الموازنة العامة للدولة. • بعد أن تجاوز عجز الموازنة 159 مليار جنيه أين تكمن كبرى مشكلات عجز الموازنة العامة للدولة؟ - إيرادات الدولة تغطى حاليا 60% من الإنفاق بعد أن كانت 75% وهو مؤشر على ارتفاع الإنفاق مقابل تراجع الإيرادات خلال الأعوام السابقة، بسبب عدم وجود ترشيد للاستخدامات والإنفاق الحكومى والعام بخلاف تراجع نمو الإيرادات، خاصة فى ظل حالة عدم الثقة من قبل المستثمر أو المواطن، والحكومة مطالبة بترشيد الإنفاق من النقد، وخفض استيراد السلع الاستهلاكية التى تمثل 18% من واردات الدولة وهى نسبة ليست قليلة ويجب على الدولة أن تضع أولويات لوارداتها خلال تلك الفترة الصعبة، فعجز الموازنة تجاوز الحدود الآمنة بسبب الأجور ومن هنا يجب أن نسأل: لماذا لجأنا لزيادة فئات معينة من الموظفين ماعدا الفقراء من العاملين فى الدولة ونجد أن هذه الفئات هم فى الأساس رواتبهم عالية وهذا لا يصح لأننا بالفعل فى أزمة حقيقة، بالإضافة إلى الدعم وهو بند ثقيل فى الموازنة على الرغم من أن الظروف العالمية مؤهلة تماما لخفض الدعم ولا اسمح لأحد أن يقول هناك دعم للطاقة خاصة أن سعر البرميل انخفض للغاية، فأين الأموال التى توفرت ولماذا لم ينخفض عجز الموازنة، هناك غموض واضح وصريح فى السياسة الاقتصادية للدولة. • ما توقعاتك للعجز خلال الفترة المقبلة؟ - المؤشرات الحالية تشير إلى ارتفاع العجز إلى ما يتجاوز ال 159 مليار جنيه، وهو ما يعزز أهمية تنفيذ برنامج إصلاح اقتصادى قوى وبحرفية شديدة خلال الفترة المقبلة؛ إذ إن 26% من الموازنة العامة أجور، و32% دعم، ونحو 50% من دعم الطاقة الذى يمثل 60% من الموازنة يذهب إلى غير مستحقيه، فمع استمرار الحال على ما هو عليه وعدم ضبط الإنفاق المحلى لجميع مؤسسات الدولة، بما فيها الهيئات الاقتصادية التى تمثل نفقاتها 150% من إيراداتها، سيرتفع عجز الموازنة العامة بما يزيد على 10% سنويا. • ما الحلول المتاحة لتقليص العجز؟ - نحتاج لاستقرار ثم دفع عجلة الإنتاج وجذب الاستثمارات الأجنبية وتنشيط الاستثمار المحلى، والعمل على خلق مناخ مناسب لنشاط السياحة الذى انخفض نموه من 11.5% من الناتج المحلى الإجمالى، وتراجعت إيراداته وذلك بخلاف إعادة هيكلة الدعم بما لا يمس المواطن، وتخفيض الإنفاق الحكومى. • البنوك ساعدت فى تمويل عجز الموازنة العامة؛ حيث وصلت استثماراتها فى أذون الخزانة إلى 24% من إجمالى ودائع العملاء، فما تقييمك لتلك المساهمة؟ - الدولة ليس أمامها بديل إلا ذلك الاعتماد على المؤسسات المحلية خلال الآونة الأخيرة فى ظل تراجع فرص التوظيف أمام البنوك الذى عكس الحالة الاقتصادية العامة للبلاد غير الواضحة، وذلك لأن القطاع المصرفى هو أكبر الجهات التى تمتلك قدرا كبيرا من السيولة ولديها من الملاءة المالية ما يعزز قدرتها على تمويل ذلك العجز خلال تلك الفترة العصيبة، لذلك لا ينبغى الاستمرار على نفس الوتيرة خلال الفترة المقبلة ويجب تنويع مصادر التمويل والاهتمام بالتمويل الأجنبى، خاصة أن مستوى الدين الخارجى وصل الى حدود خطيرة. • بدأت الحكومة بالفعل فى التصالح مع رجال الأعمال وعلى رأسهم حسين سالم.. فما تعليقك على هذه القرارات؟ - فى بداية الأمر أنا من داخلى لست مع التصالح ولكن مصلحة البلد تحتم الوقوف بجانبها فكل ما يحدث له ثمن فما مصلحة مصر من حبس رجال أعمال سابقين ولكن التصالح مع المتهمين بنهب أموال الدولة يعود على خزينة الدولة بنحو 20 مليار دولار، وهذا المبلغ سيدعم الاقتصاد، الذى يعانى الانهيار، لا سيما أن عجز الموازنة يقترب من حدود 200 مليار جنيه، إن التصالح مع هؤلاء يعنى ردهم الأموال أو العقارات أو الأراضى، التى حصلوا عليها بغير وجه حق، ولا يعنى التصالح فى قضايا جنائية، ولكن لابد من وضع شروط لهذا التصالح على سبيل المثال يجب أن يتم بسعر وقت التعاقد بالإضافة إلى حساب فرق السعر من وقت التعاقد حتى الآن والمكاسب التى حققها المستثمر خلال الفترة، مشيرة إلى ضرورة تعويض الحكومة عن الأرباح المحققة بعد تاريخ التعاقد وحتى وقت التصالح، إن الإعلان عن التصالح مع رجال الأعمال يعد مؤشرًا جيدًا من شأنه أن يعكس قوة الدولة فى التعامل مع الموضوعات الاقتصادية.• صفقة الغاز لإسرائيل أهدرت ثروات مصر • بصفتك رئيس لجنة تسعير الغاز لإسرائيل فى قضية حسين سالم.. فكان للتقرير أثر كبير فى سير القضية.. فما تعليقك على ذلك؟ - أولا توضيحا للأمر أنه من خلال فحص الأوراق تبين أن الشركة قدمت خطاباً إلى الهيئة العامة للبترول فى أبريل عام 2000، تطلب تصدير الغاز لإسرائيل على أن يكون السعر منافساً لأسعار روسيا، واقترحت فى خطابها دولاراً ونصف دولار، وحصلت على موافقة وزير البترول والهيئة، لكنها فى سبتمبر من العام نفسه أرسلت خطاباً تطلب فيه أن يكون السعر ما بين 75 سنتاً ودولار وربع دولار للمليون وحدة حرارية، على أن يصل حده الأقصى إلى دولار ونصف دولار لو ارتفع سعر البرميل إلى 35 دولاراً أو أكثر، رغم عدم وجود أى تغيرات فى السعر العالمى، إن المشكلة الأكبر أن مصر بدأت فعلياً تنفيذ العقد خلال عام 2005، وتم تصدير أول شحنة فى 2008، أى بعد 8 سنوات من إجراء التفاوض، وفى تلك الفترة كانت أسعار البترول شهدت طفرات كبيرة، ووصل سعر الخام الروسى الذى كانت ترتضيه الشركة عند التقييم فى خطابها إلى 9 دولارات للمليون وحدة فى المتوسط، ولم تقم الحكومة وقتها بأى إجراءات لتعديل السعر إلا بعد تحريك دعوى جنائية أمام القضاء الإدارى ضد الشركة، وتدخل الرئيس الأسبق مبارك وقتها واتصل برئيس وزراء إسرائيل، وتم رفع السعر إلى 3 دولارات بأثر رجعى منذ تطبيق الاتفاق، لكنه كان أيضاً منخفضاً مقارنة بالأسعار العالمية، وفى النهاية قدمت اللجنة تحليلاً اقتصادياً للمحكمة بشأن التسعير. •