اللى مش عاجبه ينزل.. الله يرحم أيام زمان.. كان اليوم فيه بركة.. النهارده ساعات النهار تكفى بالكاد لأن تقضى مصلحة أو مشواراً، وإذا وفقت.. فهذا إنجاز..جازفت فى ذلك اليوم من أيام شهر أبريل أن أبادر بسداد مصاريف صيانة شقة العجمى بالإسكندرية، قبل بداية الإجازة الصيفية.. حتى لا نتأخر عن تلبية رغبات الأحفاد فى السفر معنا إلى هناك تخفيفاً عن كاهل ابنى وابنتى. قبل خروجى المبكر.. حملت معى ما يلزم من مستندات.. سرت على قدمى إلى حيث مقر الجمعية بشارع الطيران.. المكان غير مزدحم.. تنقلت بين أكثر من موظف.. صعدت ونزلت عدة مرات وأخيراً، أنهيت المعاملات المطلوبة منى.. وحصلت على إيصالات السداد اللازمة.. وبطاقات تجديد العضوية وتصريح يسمح بدخول سيارة.. لزوم البرستيج الذى يحرص عليه الأنجال بلا داع.. عندما عدت إلى الشارع، أدركت أننى على غير العادة لم أقض سوى ساعة واحدة.. حمدت الله.. فى طريق العودة هدانى تفكيرى أن أروح عن نفسى بالذهاب إلى منتزه الحديقة الدولية، ولم أستجب له.. واستحسنت الذهاب إلى مسجد سيدنا الحسين لأداء صلاة الظهر جماعة.. الانتقال من مدينة نصر إلى هناك ليس بالأمر الصعب.. خط أتوبيس النقل العام فى هذا الوقت غير مزدحم.. أما طريق العودة فلابد من الترتيب له. سارعت إلى الاتصال بصديقى وجارى الدكتور عبدالوهاب.. وافق فورا على أن نعود معا. قال لى : إنه سينتهى من محاضراته فى تمام الثانية.. اتفقنا أن نصلى معا فرض العصر بالجامع الحسينى، ثم نعود معا فى سيارته إلى المنزل.. شكرته، وأنا ممتن. اطمأن قلبى، لن أعانى كثيرا فى رحلة العودة. الآن على أن أستعد لمشاق رحلة الذهاب.. وقفت عند محطة النقل العام فى انتظار الفرج.. قبل أن يهل علينا الأوتوبيس بضجيجه.. انضم إلى فى وقفتى تلك رجلان.. يبدو من هيئة أحدهما أنه من أرباب المعاشات مثلى.. والآخر تدل ملامح وجهه على أنه من المرضى المترددين على مستشفى الأزهر الجامعى.. هل علينا الأتوبيس.. صعدنا تباعا.. سدد كل منا قيمة التذكرة لدى المحصل القابع فوق كرسيه.. وجلسنا متفرقين.. سارت بنا السيارة المتهالكة.. فى الطريق نزل البعض وصعد البعض الآخر. دخل بنا السائق فى طريق متعرج يصل ما بين شارع صلاح سلالم وحى الدراسة.. تجاوز بعض المحطات.. وفى واحدة منها.. ركن السيارة بالقرب من مبرد للمياه قائم عند مدخل واحد من المدافن المغلق بابها بسلسلة حديدية.. نزل المحصل.. ملأ زجاجة بلاستيكية لزميله.. واختلى هو بالمبرد.. ومنح نفسه عدة أكواب.. عاد المحصل إلى السيارة التى استأنفت مسيرتها.. مصمص بعضنا بشفتيه.. والتزمت الغالبية الصمت.. فى المحطة التالية توقفت الرحلة تماماً عند مخبز.. نزل المحصل.. بينما السائق يلقى تحياته المفرطة فى السخاء على صاحب المخبز وعماله. حمل له المحصل عشرين رغيفاً فردها فوق أوراق صحيفة أمامه لكى لا تتعجن بسبب السخونة.. ودلف هو من الباب الخلفى يحمل لنفسه حصته من الخبز الطازج.. زادت الهمسات.. ونظر بعضنا لبعض فى غيظ دون أن نتكلم. عند مفترق طرق يؤدى إلى فرع من أفرع محل لبيع ساندوتشات الفول والطعمية بالقرب من دار سك النقود.. اهتزت السيارة بقوة تحت ضغط إصرار السائق على أن يصعد بها فوق الرصيف.. أبطل المحرك.. ونادى بأعلى صوت.. صباح الفل يا شلاطة.. الاصطباحة وحياة والدك وكتر الطرشى.. رد شلاطة.. من عنيا.. جايلك فى السريع.. التفت سائقنا الهمام إلى المحصل.. وغمز له بعينه اليمنى وهو يقول.. سدد الفاتورة يا عمنا.. رد المحصل بغيظ مكتوم.. ماشى. لم يحضر حامل الساندوتشات فى السريع.. ولا فى البطىء.. تململ البعض.. تجرأ أحدنا وقال ما معناه أن هذا لا يصح.. وأن وقتنا لا يجب أن يهدر بهذه الكيفية بين شرب المياه الباردة وشراء الخبز الطازج.. وانتظار حمولة ساندوتشات الفول والطعمية.. قام السائق من فوق كرسيه.. ولوح بيده غضباً فى وجوهنا جميعاً.. وقال بانفعال شديد.. هو أنا مش بنى آدم زيكم.. أنتم اتهببتم وفطرتم فى بيوتكم.. أنا خارج على لحم بطنى من ثلاث ساعات.. حرام عليكم.. فيها إيه لما أركن علشان أجيب لى لقمة أكلها.. الرحمة حلوة. هم بالجلوس فوق كرسيه.. ظننا أنه اكتفى بهذا الخطاب التنويرى.. لكنه استدار وهو أكثر هياجاً.. وقال بصوت يشبه الصراخ: اللى مش عاجبه ينزل ياخد العربية اللى ورانا.. ولم يكن فى ذلك الكفاية من وجهة نظره.. سحب مفتاح تشغيل الموتور، وغطى الأرغفة بورقة صحف أخرى.. ونزل من السيارة.. سار فى اتجاه محل الفول والطعمية وهو يقول.. والله ما أنا شغال.. وأضاف وهو يشوح تجاهنا بيده التى تمسك المفاتيح.. مطرح ما تحطوا راسكم حطوا رجليكم. التفت بعضنا لبعض.. وحالنا يقول.. ماذا نحن فاعلون؟؟.. فى خدمة الركاب.. كنت أعرف مسبقاً وبحكم تجارب كثيرة، أن اجتماع مجلس الإدارة لمناقشة التقرير الختامى لنشاط الهيئة قبل بدء العمل بالميزانية الجديدة، سيكون صاخباً كما هى العادة.. لذا أعددت نفسى لتحمل العبء الأكبر من مسئوليات التوفيق بين مختلف الآراء المؤيدة والمعارضة ونجحت إلى حد ما.. تعهدت بصفتى أمين عام المجلس أن أوافيهم بعد أسبوعين من الآن بخطة عمل الثلاثة أشهر الأولى قبل اجتماعنا القادم. سألنى أحدهم.. كيف سأعود إلى المنزل.. بعد أن لاحظ عدم وجود سيارتى فى مكانها داخل ساحة الانتظار.. أفهمته أن زوجتى ستمر على بعد دقائق.. تركتهم يثرثرون.. وانسحبت بهدوء خشية أن يزداد حجم ما أشعر به من إرهاق. لم أكن فى حاجة لمن يوصلنى إلى المنزل.. لا زوجتى ولا أحد من زملاء المجلس أو العاملين بالهيئة.. كانت الحالة التى أنا فيها تمثل فرصة مناسبة تتيح لى أن أستخدم خط الأوتوبيس الذى يربط بين الحى السكنى الذى أقطنه ومقر الهيئة الأوروبية التى أعمل بها منذ عشر سنوات.. مرات كثيرة فضلت استخدام هذا الخط لأسباب كثيرة منها جلب بعض الهدوء والاسترخاء لفترة ثلاثين دقيقة يقطع فيها السائق المسافة بين المقرين.. السكن والعمل.. فى صباح اليوم، لم تعترض زوجتى على مطلب توصيلى إلى مكتبى وهى فى طريقها إلى عملها ونصحتنى بعدم الانفعال خلال ساعات اجتماع المجلس.. وأبدت استعدادا مبدئيا للمرور على لنعود معا إلى المنزل، فى حال انتهت النقاشات المحتدمة فى حدود توقيت انصرافها. شكرتها وأنا أقبلها ممتناً.. وطلبت منها أن لا تحمل هم عودتى لأننا سنتأخر كعادة كل اجتماع لمجلس الإدارة.. وأكدت لها أننى سأعود بسيارة النقل العام.. حتى أنسى ما قد يصيبنى من عنت قبل أن أعود إلى البيت. أعجبتها الفكرة وشجعتنى.. فهى فى نهاية المطاف التى تجنى ثمار مداعبتى لها بكلمات رقراقة بعد انتهاء يوم العمل، أو تتلقى مصادماتى بسبب انفلات أعصابى إذا ما لحق بى الغم والهم والتوتر لسبب أو لآخر. فى موعده جاء الأتوبيس.. أعطيت السائق قيمة التذكرة.. ونزعتها من الماكينة وتخيرت لى مكاناً يسمح لى بالفرجة على الشوارع التى غسلها المطر على مدار اليوم، ونسيان مجمل الخلافات التى نشبت بين الزملاء، استرجعت بعض وجهات النظر الإيجابية التى عرضت، ألقيت نظرة على الصفحة الأولى للملف الرابض بين يدى الذى أعده لى سكرتيرى.. وجدتها جميعاً مدرجة بلا إهمال.. بحكم العادة شرعت فى قراءتها.. لكن لم أواصل.. شد انتباهى.. انتقال أحد الركاب من الكراسى الخلفية إلى حيث يجلس السائق خلف بابه الزجاجى ويطلعه على أمر ما..عاد الراكب إلى مكانه.. فتح السائق جهاز اتصال اللاسلكى بمركز خدمة الركاب، وأدلى لهم برسالة مقتضبة لم نفهم مغزاها.. فى المحطة التالية.. أبلغنا السائق أن واحداً من ركاب المقاعد الخلفية أصابته حالة إغماء.. وأنه اتصل بجمعية إسعاف الطريق.. وأنهم فى طريقهم إلى حيث نقف الآن.. وطلب منا أن ننزل إلى رصيف المحطة لنستقل سيارة النقل العام القادمة بعد عشر دقائق.. لكى يقوم المسعفون بواجبهم حيال هذا الراكب.. لم ينس أن يشكرنا بعد أن نزل من السيارة آخر راكب منا. بعدها أوقد أربع لمبات فى مؤخرة السيارة ذات اللون الأصفر، بهدف أن يلفت نظر الفريق الطبى إلى مكانه ولتنبيه السيارات الأخرى أنه يقف لسبب طارئ.. اصطففنا على الرصيف.. سرعان ما جاءت سيارة الإسعاف.. ونزل منها ممرضان وطبيب.. مع كل منهم بعض أدواته فتح السائق باب السيارة الخلفى.. وتركه مفتوحاً بناء على طلبهم.. وانضم إلينا. انشغلنا بالاستماع للراكب الذى أبلغ السائق بالحادثة.. مر وقت قصير قبل أن نلمح السيارة التالية وهى تتقدم ناحيتنا ببطء. فتح سائقها الباب.. أشار لنا أن ندخل دون حاجة للتحقق مما معنا من تذاكر.. تمنى لنا السائق أن يختم كل واحد منا رحلته بسلام.. أشار لزميله الآخر مودعاً. اتخذت مكانى فى السيارة.. تخيلت مدى تأثر زوجتى وهى تستمع منى لحكاية الراكب المريض وسيارة الإسعاف.. وقلت فى نفسى هذا أفضل من أن أسرد عليها مشاكل إدارية وفنية اختلف حولها القوم وأنا أعرض عليهم تقرير نهاية العام. •