فى الوقت الذى زاد فيه اعتماد المواطنين على اللحوم السودانية بسبب اشتعال اسعار اللحوم البلدية وعجز أجهزة الحكومة المختلفة عن خفض أسعارها، فاجأ وزير التموين خالد حنفى الجميع برفع أسعار اللحوم السودانية بنسبة 25 % مرة واحدة من 40 جنيها إلى 50 جنيها، والطريف أن الوزير رفع السعر بدعوى توحيد أسعار اللحوم المستوردة التى تباع فى جميع المجمعات الاستهلاكية وشركتى الجملة والسيارات المتنقلة، والأكثر طرافة أن الوزير حنفى أعلن أن ذلك يأتى ضمن خطة الوزارة لخفض الأسعار!! ولمن لا يعرف، فإن مجمعات حكومة الوزير حنفى تبيع نوعين من اللحوم المستوردة المبردة والطازجة، الأول وهى اللحوم السودانية وتباع بسعر 40 جنيها للكيلو، وهى الأكثر جذبا للمستهلك المصرى بسبب جودتها وقرب أو تطابق مذاقها مع اللحوم البلدية، وبالإضافة إلى سعرها المناسب بالطبع، لذلك كنت تجد طوابير المواطنين فى انتظارها بمجرد طرحها فى المجمعات الاستهلاكية، حتى إن المسئولين فى كثير من هذه المجمعات كانوا لا يسمحون ببيع أكثر من 2 كيلو لحوم للمواطن الواحد! أما النوع الآخر من اللحوم الذى تبيعه مجمعات حنفى فهى اللحوم المستوردة من أوروجواى أو أستراليا وتباع بسعر 57 جنيها للكيلو، ولا تجد إقبالا كبيرا من المصريين الذين يفضلون عليها نظيرتها السودانية، رغم أن بعض جزارى المجمعات الاستهلاكية يقولون للمواطنين إنها لحوم بلدية وليست مستوردة، وكانت تتوافر اللحوم الأخيرة طوال الوقت فى المجمعات بسبب ضعف الطلب عليها، بينما كانت تنفد اللحوم السودانية فور طرحها لدرجة أن كثيرًا من المواطنين كانوا ينتظرون وصولها فترات طويلة أمام المجمعات، لذلك فعندما يأتى السيد حنفى ليقول إنه وحّد أسعار اللحوم التى تباع فى المجمعات فهو فعليا قد رفع سعر اللحوم السودانية 10 جنيهات مرة واحدة، ولا يقول لى أحد (مفيش فرق) وإن الوزير حنفي، كما رفع سعر اللحمة السودانية بنسبة 25 % فإنه فى نفس الوقت قد خفض سعر اللحمة الأورجوانى 11 % أى 7 جنيهات، ودى تشيل دى كما يقول المثل المصري، لأن اللحوم التى خفض سعرها من 57 جنيها إلى 50 جنيها لم تكن تجد إقبالا كبيرا من الأصل، ولا يعلم أحد لماذا استمرت هيئات الحكومة فى استيرادها، ولماذا لم يتم الحد من استيرادها والتوسع فى استيراد اللحوم من السودان الأقرب إلينا من حيث الجودة والطعم والأرخص سعرا، وقد سمح السعر المنخفض الذى نستورد به اللحوم من السودان فى أن تقوم الحكومة طوال فترة الأربع سنوات الماضية بتقديم عروض عليها فى مجمعاتها بأسعار تراوحت بين 30 و35 جنيها، مما ساهم فى الحد من غلاء أسعار اللحوم البلدية، التى لم تبدأ أسعارها فى الارتفاع الجنونى إلا عندما بدأت الحكومة فى تخفيض كميات اللحوم السودانية المطروحة فى المجمعات الاستهلاكية وبداية ظهور طوابير اللحوم. وقد ذكرنا رفع خالد حنفى وزير التموين لأسعار اللحوم السودانية التى تباع فى المجمعات من 40 جنيها إلى 50 جنيها، بما فعله يوسف بطرس غالى وزير المالية الشهير فى عهد مبارك عندما ذهب أول وفد رسمى مصرى إلى السودان عام 2004 للتفاوض على استيراد اللحوم فى ظل اشتعال أسعار اللحوم البلدية وقتها، وكان الوفد على وشك الاتفاق على أن يباع كيلو اللحم السودانى ب 10 جنيهات فى مصر، ولكن يوسف بطرس غالى فاجأ الجميع وقال للجانب السودانى كيف توافقون على بيع اللحوم السوادانية بهذا السعر المنخفض رغم أنها تساوى أو ربما تفوق فى جودتها اللحوم البلدية المصرية التى تباع بأضعاف هذا السعر فى أسواق القاهرة بسبب تغذية الماشية السوادنية فى مراعٍ طبيعية وليس على الأعلاف الحيوانية. • حجم الاستهلاك ولغز الاستيراد والمعروف أن استهلاك مصر من اللحوم الحمراء يزيد على 850 ألف طن سنويا وأن الإنتاج المحلى لا يغطى إلا نحو 60% من هذا الاستهلاك، ويوفر الاستيراد سواء لحوم مجمدة من البرازيل والهند وأستراليا أو طازجة من السودان وأوروجواى نسبة ال 40 % الباقية، ورغم التوسع فى استيراد رءوس الماشية الحية فى السنوات الأخيرة فإن أعدادها مازالت قليلة، حيث تفضل الحكومة استيراد اللحوم المجمدة، حيث يتم استيراد حوالى 250 ألف طن لحوما مجمدة، ونحو 50 ألف طن فقط يتم استيرادها رءوسا حية من السودان وأوروجواى وتذبح فى مصر. وهو ما يمثل لغزا آخر، فكيف يتم التوسع فى استيراد اللحوم المجمدة التى لا تتماشى مع ذوق المستهلك المصرى على حساب اللحوم الحية المبردة الأقرب إلى اللحوم البلدية، وهل للأمر علاقة بمصالح كبار المستوردين للحوم المجمدة وكبار المسيطرين على سوق اللحوم البلدية؟! ولماذا لا يتم التوسع فى استيراد اللحوم السودانية الحية رغم أنها - كما قلنا - الأرخص والأكثر جودة مع توافر المجازر القادرة على استيعاب كميات أكبر منها تسد نقص المعروض فى سوق اللحوم وتكبح جماح أسعار اللحوم البلدية بدون مقاطعات وإجراءات استثنائية لا تريد وربما لا تقدر الحكومة الحالية على اتخاذها كما فعل الرئيس السادات فى أواخر السبعينيات، عندما ارتفع سعر كيلو اللحوم البلدية من 68 قرشا إلى 100 قرش، وخرجت مظاهرات المصريين تهتف ضد سيد مرعى رئيس مجلس الشعب وقتها وصهر السادات: «سيد بيه يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه»، حيث قرر منع الذبح لمدة شهر على أن يطبق القرار على جميع أنواع الحيوانات، وفى جميع المحافظات، وتم تنفيذ قرار منع الذبح والمقاطعة بقوة الدولة، وكان مجرد مرور مفتش التموين من أمام محلات الجزارين الخالية من اللحوم يمثل رعبا لهم، وبانتهاء الشهر كانت الأسعار قد عادت إلى طبيعتها. • المؤامرة على مشروع البتلو ويضاف لغز التوسع فى استيراد اللحوم المجمدة على حساب اللحوم السوادنية إلى لغز آخر هو مشروع البتلو الذى كانت تعول عليه الدولة فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من اللحوم البلدية، ولكنه توقف لأسباب مجهولة فى بداية التسعينيات من القرن الماضى بعد نجاحه فى تثبيت أسعار اللحوم لعدة سنوات، وقد جاءت فكرة المشروع فى منتصف الثمانينيات من محافظة المنيا على يد د. حيدر عون مدير الطب البيطرى بالمحافظة فى ذلك الوقت، واعتمدت على عدم ذبح عجول الجاموس وزن أقل من 200 كيلو. وقد نجح المشروع فى تثبيت بل خفض أسعار اللحوم محققا نجاحا مذهلا حتى عام 1993، حيث تم اتخاذ قرار مريب من الحكومة ممثلة فى وزارة التموين بإيقاف المشروع، حيث رفضت الوزارة الاستمرار فى استلام العجول من المربين بزعم أن اللحوم مكدسة بالثلاجات ولا تجد من يشتريها! وبدلا من أن يفكر خالد حنفى وزير التموين ولو مرة واحدة خارج الصندوق ويدرس إعادة إحياء مشروع البتلو أو حتى يقرر التوسع فى استيراد اللحوم السودانية الأفضل جودة وسعرا ويعرض على الجانب السودانى مبادلة اللحوم بسلع مصرية أخرى مفضلة لدى الأشقاء السودانيين إذا كانت الحكومة تواجه أزمة فى الدولار، ولكن للأسف حشر الوزير نفسه فى أضيق حتة فى الصندوق رافعا أسعار اللحوم السودانية 25 %! • إيه رأيك فى النظام؟! وللتعرف على رأى المسئولين فى وزارة التموين ذهبت إلى مقر الوزارة بشارع قصر العيني، وفى البداية طلبوا منى الصعود إلى الدور الثالث لمقابلة السيد مدير عام إدارة اللحوم، لكنه رفض الحديث مؤكدا أننى أحتاج معلومات دقيقة عن اللحوم، لذلك علىَّ الصعود إلى الدور الرابع لمقابلة السيد رئيس قطاع التجارة الداخلية بالوزارة، وبعد معرفة العاملين بمكتب رئيس القطاع لسبب المقابلة طلبوا منى الانتظار لأنه فى اجتماع مهم، وبعد فترة خرج سيادته من مكتبه واعتذر عن الكلام معى عن أسباب رفع أسعار اللحوم السودانية قائلا: اسأل الشركة القابضة، فلما قلت له إن خالد حنفى وزير التموين هو من قرر رفع الأسعار قال: آه الوزير، يبقى كده انت عاوز تصريحات رسمية، انزل تحت للأستاذ محمود دياب المستشار الإعلامى فهو الشخص الوحيد المفوض من الوزير للكلام الرسمي، ولما نزلت أسأل عن مكتب المستشار الإعلامى قال لى أحد أفراد أمن الوزارة بتجهم شديد: الأستاذ محمود دياب مش موجود، ومالوش مواعيد علشان هو أصلا بيشتغل صحفى فى الأهرام، وعندما استفسرت: «هل يوجد مسئول آخر مكانه؟ زاد فرد الأمن من تجهمه وحدة نبرة صوته قائلا: لا يا أستاذ مفيش ده نظام، كل واحد له شغله، هو النظام وحش! وقد ذكرنى تنقلى بين أدوار وزارة التموين للبحث عن مسئول يشرح لى أسباب قرار وزيرها برفع أسعار اللحوم السودانية بتلك النكتة الشهيرة التى انتشرت فى الستينيات عن المواطن الذى دخل مجمعًا استهلاكيًا من مجمعات الحكومة وسأل عن الفراخ فسأله الموظف: عايز فراخ صاحية ولاّ مدبوحة؟ قال مدبوحة، قال له: اطلع الدور الثاني، طلع وسأل عن الفراخ المدبوحة فقال الموظف: عايزها مقطعة ولاّ صحيحة؟ فقال له: مقطعة.. قال له: اطلع الدور الثالث .. وفى هذا الدور قابل موظفا آخر طالبا فراخ مدبوحة ومقطعة فقال له: عايزها متكيسة ولاّ؟ قال له: طبعا متكيسة فقال له: اطلع الدور الرابع.. طلع الدور الرابع وقابل موظفا آخر وقال له: عاوز فراخ مدبوحة ومقطعة ومكيسة: فرد الموظف وقال له: ما فيش فراخ بس إيه رأيك فى النظام! •