الفن العظيم لايولد إلا من زمن عظيم.. ولايستطيع أحد أن ينكر أننا عشنا ومازلنا نعيش زمن فن الستينيات العظيم. سينما ومسرح وأغان وأدب وثقافة.. هذا هو زمن الفن الجميل.. زمن عبدالناصر. ماكان لجمال عبدالناصر أن يكون زعيما عظيما لولا أن عصره كان مهيأ لظهور زعيم عظيم. لم يكن له أن يبرز ويتألق ويلقى الترحيب والحب من زملائه أولا، وشعبه ثانيا، لولا أن المناخ العام كان مهيأ لبروز رجل بمثل هذه المواصفات التى كان عليها.
أهم ظرف فى تصورى كان الوضع السياسى دوليا ومحليا: الإمبراطوريات الاستعمارية تتهاوى عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، والبلاد المحتلة تتمالك شجاعتها وتسعى بإصرار لطرد الاستعمار وامتلاك مصيرها. العالم يتغير، والثورات تندلع فى كل مكان ضد النظام الإقطاعى والملكى القديم، وفى الاتحاد السوفيتى والصين وكوبا وغيرها تنشأ دول جديدة تتغنى بالعدالة والمساواة والاشتراكية.. بينما تصعد الولاياتالمتحدة كقوة رأسمالية عظمى، لكنها حتى ذلك الوقت كانت رأسمالية بلا أنياب لم تتورط بعد فى استعمار الشعوب الصغيرة. • الأحلام ممكنة وتتحقق، والعالم يتغير بشكل جذرى أما مصر التى عانت من ويلات الاحتلال والجهل والتخلف لقرون فقد تفتح فيها وعى جديد شاب، ولكنها كانت تئن أيضا من آثار الحرب العالمية والفقر المنظم فى الوقت الذى يرتع فيه «النبلاء» وأغنياء الحرب فى رفاهية بلا حدود، وقد زاد من شعورها بالخزى هزيمة جيشها فى حرب 1948 أمام «دويلة» صغيرة مزروعة. كل هذه الظروف كانت تدفع بحدوث ثورة ضد الاستعمار البريطانى والملكية الإقطاعية، ولكن الشكل الذى ظهرت به هذه الثورة، والمصير الذى آلت إليه يعودان إلى ظروف وشروط أخرى هى ما يمكن وصفه بالشروط الثقافية، أو الوضع الثقافى فى بلد ما. وعندما نقول الثقافة هنا فإننا نعنى بها مجمل ما يدور فى عقول المصريين من علم ومعتقدات دينية وغير دينية ومن عادات وتقاليد ودرجة تحضرهم وعلاقتهم بالفنون والآداب ووسائل الترفيه التى يستمتعون بها.. إلى آخر تعريفات الثقافة وفقا للمفهوم الحديث فى علوم الاجتماع والنفس والسياسة وبقية العلوم «الإنسانية». وما أقصده من هذه المقدمة الطويلة أن عبدالناصر لم يأت من فراغ، وأن صعوده ونجاحه وشعبيته لم يكن لها أن تتم بعيدا عن هذه الظروف «الثقافية» العامة. • علاقة متناقضة كتب الكثيرون عن علاقة جمال عبدالناصر «الملتبسة» و«المتناقضة» مع المثقفين والفنانين، ومهما كان الخلاف حول توصيف وتحليل هذه العلاقة فإنه يبقى أمران لا يحتملان الجدل الكثير: الأول أن عبدالناصر كان يخشى المثقفين والفنانين، والثانى أنه كان زعيما مثقفا يحب القراءة والفن ويؤمن إيمانا راسخا بدور الثقافة فى نهضة الشعوب. ولعل التناقض جاء من هذا الالتباس فى المشاعر: إذ كيف يحب المرء الثقافة والفنون وتحرير العقول، ويخشى فى الوقت نفسه من أن تتجاوزه وتخرج عليه هذه الثقافة والفنون والحرية؟ كان عبدالناصر يحب الصحافة والصحفيين، وكان أقرب شخص إليه بعد قيام الثورة من خارج مجلس قيادتها هو الصحفى أحمد أبوالفتح رئيس تحرير جريدة «المصرى»، وفيما بعد أصبح الصحفى محمد حسنين هيكل واحدا من المقربين جدا منه حتى آخر أيامه، وكان يستمع إليه ويأخذ بنصائحه ويعتمد عليه فى توصيل أفكاره إلى الناس. يسجل الصحفى الفرنسى جان لاكوتيه فى كتابه «عبدالناصر»، الصادر فى الستينيات، عن عشق عبدالناصر للقراءة وخاصة الصحف والمجلات، ويروى أن وزير الدفاع عبدالحكيم عامر داعب عبدالناصر ذات يوم أثناء زيارة رسمية لبعض المؤسسات الصحفية أبدى فيها عبدالناصر اهتماما كبيرا بكيفية صناعة الصحف، فقال عامر: «كان المفروض تطلع صحفى». كان عبدالناصر يحترم ويبجل كبار مفكرى وأدباء عصره، وعلى وجه الأخص طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ. لقد قام عبدالناصر بتكريم هذه الأسماء وغيرها ومنحهم أعلى الأوسمة، ولكن بعيدا عن هذا التقدير «الرسمى» الذى تمنحه الحكومات عادة، حتى لو كان الرئيس الذى يمنح الوسام لم يقرأ حرفا للشخص المكرم، فإن عبدالناصر كان يحمل تقديرا ومحبة لهؤلاء.. وكان له مواقف تكشف هذه المشاعر الطيبة. • حامى عبدالوهاب ومندوب فريد الأطرش! ربما كان الحديث عن روايات نجيب محفوظ مبالغة، ولكن الثابت أن جمال عبدالناصر كان يهوى مشاهدة الأفلام ولديه قاعة عرض صغيرة فى بيته، وأنه كان يفضل مشاهدة الأفلام مع أسرته. حكايات عبدالناصر مع الأفلام كثيرة، خاصة تلك التى سمح بها بالرغم من اعتراض الرقباء، كما حدث مع «ميرامار» و«شىء من الخوف» مثلا. فى السنوات الأولى من عمر الثورة هناك شواهد كثيرة على الاحترام الذى كان يكنه الضباط الأحرار للسينما ونجومها، وتحفل المجلات الفنية آنذاك بصور لعبد الناصر ورفاقه فى العروض الأولى للأفلام الجديدة.. ليس فقط الأفلام الدرامية الجادة، ولكن أفلام إسماعيل يس أيضا. وكانت لعبدالناصر علاقة صداقة واحترام متبادل مع كثير من الفنانين، على رأسهم بالطبع المطربة أم كلثوم، التى كانت الوحيدة تقريبا التى تم تكريمها مرتين، الأولى بوسام الفنون عام 1965 ثم جائزة الدولة التقديرية عام 1968. ومن الحكايات الشائعة قصة طلب عبدالناصر من عبدالوهاب وأم كلثوم إنهاء قطيعتهما الفنية والعمل معا. وأوثق حكاية منها ما يرويه مدير مكتب عبدالناصر سامى شرف. تبدأ الحكاية بعبدالوهاب يتصل ليشكو للرئيس، عبر مدير مكتبه، من مسئول كبير قام بزيارته وطلب استعارة تسجيلات خاصة وبروفات عمل لأغانى وموسيقى عبد الوهاب، ثم اختفى ولم يردها ثانية.. وكما حدث فى حالات وحكايات أخرى كثيرة تدخل الرئيس بحسم لإنقاذ الفنانين من سوء معاملة واستغلالية رجاله، فاتصل بالشخص المسئول الذى استولى على الشرائط وأجبره على إعادتها عن طريق مكتب الرئيس، وجاء عبدالوهاب ليتسلمها، ودار حوار بينه وسامى شرف، وقام الأخير بتوصيل رسالة للأول تفيد بأن الرئيس ينتظر عملا يشارك فيه كل من عبدالوهاب وأم كلثوم. من الحكايات المتداولة أيضا زيارة جمال عبدالناصر المفاجئة لمنزل عبد الحليم حافظ أثناء واحدة من نوبات مرضه، وكيف أن الرئيس دخل إليه فى غرفة نومه وطلب منه عدم النهوض من الفراش، قبل أن ينهى الزيارة بطلب غريب بعض الشىء وهو قيام عبدالحليم ورفاقه من كبار الشعراء والملحنين بعمل 28 أغنية بعدد حروف الأبجدية، مساهمة منهم فى مشروع محو الأمية. يروى أيضا كيف تدخل الرئيس لإنقاذ عبدالحليم من مضايقات عبدالحكيم عامر، وكيف تدخل الرئيس لإنهاء قطيعة أخرى بين المغنى الشاب وسيدة الغناء أم كلثوم، بعد تطاول الأول عليها فى إحدى الحفلات التى حضرها الزعيم. وبالرغم مما يشاع عن العلاقة القوية التى ربطت عبدالناصر بعبد الحليم، فإن حكايات أخرى تؤكد أن عبدالناصر كان يميل أكثر إلى صوت وأغانى فريد الأطرش، ويحمل له معزة خاصة، ربما كان يقويها إيمانه الشديد بالقومية العربية، ولعل أغرب حكاية تتعلق بفريد الأطرش، هى التى تفيد بأن الأطرش كان قد انتهى من أحد أفلامه عام 1955 ولما كان مريضا ومقيما بالمستشفى ولا يستطيع حضور العرض الخاص لفيلمه، كلف أخاه فؤاد بارسال خطاب للرئيس جمال، بأن ينوب عنه فى حضور الافتتاح، خاصة أنه كان قد أعلن التبرع بإيرادات الحفل الأول للمجهود الحربى. الحكاية كما هى متداولة عصية على التصديق، ولعل عبدالناصر ورجاله كانوا ينوون حضور العرض الأول كعادتهم مع كثير من الفنانين فى تلك الفترة، ولما كان فريد الأطرش لا يستطيع الحضور، فلعله بعث برسالة يعتذر فيها عن عدم قدرته على الحضور. حكايات أخرى لا تتعلق بالفنانين ولكن بالأعمال الفنية التى تلقى كثيرا من الرقابة وسوء المعاملة قبل أن يتدخل الرئيس ليحميها ويسمح بها، ولعل أشهر هذه الحكايات هى التى تتعلق بفيلم «شىء من الخوف» للمخرج حسين كمال عن قصة الأديب الإقطاعى اليمينى ثروت أباظة. الرقباء أبدوا خشيتهم من أن الفيلم يحمل نقدا رمزيا لجمال عبدالناصر فى شخصية البطل «عتريس» الديكتاتور، ولكن يقال أن الرئيس شاهد الفيلم فى قصره، ثم عقب ضاحكا: «لو كنا كذلك بالفعل، فنحن نستحق الحرق مثل عتريس ورجاله»، ثم سمح بعرض الفيلم بدون حذف. بغض النظر عن صحة أو دلالة هذه الحكايات، فإنه يبقى من عبدالناصر إدراكه الشديد لقيمة الفن والفنانين، وجهوده لتطوير هذه الفنون، مع الحرص طبعا على عدم حدوث أى تجاوز أو خروج على مساحات الحرية المحددة لها سلفا. ساهم عبدالناصر كما ذكرت فى إنشاء الكثير من المؤسسات والهيئات، وكان آخر ما فعله قبل رحيله هو افتتاح مبنى «أكاديمة الفنون» فى الهرم، الذى يظل، مهما كانت ملاحظاتنا على مستواه، أكبر اعتراف من الدولة بأهمية وقيمة الفنون.• خطاب من جمال عبد الناصر إلى صديقه «على» فى 2 سبتمبر 1935 «لقد انتقلنا من نور الأمل إلى ظلمة اليأس ونفضنا بشائر الحياة واستقبلنا غبار الموت، فأين من يقلب كل ذلك رأساً على عقب، ويعيد مصر إلى سيرتها الأولى يوم أن كانت مالكة العالم. أين من يخلق خلفاً جديداً لكى يصبح المصرى الخافت الصوت الضعيف الأمل الذى يطرق برأسه ساكناً صابراً على اهتضام حقه ساهياً عن التلاعب بوطنه يقظاً عالى الصوت عظيم الرجاء رافعاً رأسه يجاهد بشجاعة وجرأة فى طلب الاستقلال والحرية حقا.. إن المصرى يجزع من حفيف ثيابه فى راجعة النهار، ولكن يجب أن يقوموا من يقودونهم إلى مواقف الدفاع ومواطن الكفاح، فيكون لهم صوت أعلى من صوت الرعد، تتداعى لقوته أبنية الظلم والاستبداد.. فكل روح سكنت جسما جاء من أبوين مصريين لا ترضى بحالتنا الراهنة، ولا تأبى أن تسيل فناء فى الوطن العزيز، والجامعة الوطنية المقدسة. قال مصطفى كامل: «لو نقل قلبى من اليسار إلى اليمين أو تحرك الأهرام من مكانه المكين أو تغير مجرى «النيل» فلن أتغير عن المبدأ». على.. كل ذلك مقدمة طويلة لعمل أطول وأعظم فقد تكلمنا مرات عدة فى عمل يوقظ الأمة من غفوتها ويضرب على الأوتار الحساسة من القلوب ويستثير ما كمن فى الصدور. ولكن كل ذلك لم يدخل فى حيز العمل إلى الآن، وعلى ذلك فأنا منتظرك فى منزلى يوم 4 سبتمبر 1935 الساعة الرابعة مساء لكى نتباحث فى الموضوع، وأملى أن تحضر فى الموعد المحدد. من عند جمال عبد الناصر الخرنفش حارة خميس العدس /3 الاثنين 2 سبتمبر سنة 1935 من كتاب جمال عبدالناصر.. الأوراق الخاصة