قبل هذا الزمن كنا لا نعرف سوي قمر واحد طبيعي بإطلاله علينا كل شهر بدرجاته المعروفة . وكنا نشاهد احتفالات رأس السنة في بلاد العالم خلال الصحف والمجلات وبعد عدة أيام من بداية عام جديد . كنا نفهم أن العالم كله تعمه الفرحة والابتهاج لاستقبال عام جديد .. أما الآن وبعد امتلاء السماء بالأقمار الصناعية التي تنقل لنا ما يحدث في العالم وقت حدوثه لم نعد نقول إن العالم عمته الفرحة في هذه الليلة.. أصبحنا نشاهد بلادا مظلمة داهمها زلزال أو فيضان، وبلادا داهمها الاحتلال .. نشاهد أناسا ملتاعة، نشاهد دمارا .. وخرابا، كما نشاهد الزينات والأفراح والناس الراقصة في الشوارع في حفلات غناء .. العالم لم يعد كله سعيدا في مثل هذه الليلة كما كان زمان .. أو .. كما كنا نتصوره زمان .. العالم اليوم ملئ بالمشكلات والاضطرابات والحروب الصغيرة والإرهاب.. وقد قررت في ليلة رأس هذه السنة ألا أشاهد الأخبار خلال محطات التليفزيون حتي لا تصيبني أضغاث أحلام وأنا أفضل أن أستقبل عاما جديدا بشيء من التفاؤل والابتهاج .. تابعت احتفالات بلاد العالم خلال محطة تليفزيونية عالمية، وبينما بدأت عدوي الابتهاج تصيبني إذا بخبر عاجل يظهر علي الشاشة أو كما يسمونه (أخبار قاطعة) .. ماذا ؟ مهاجمة كنيسة في إسكندرية مصر لأن اسم الإسكندرية تحمله مدن كثيرة في العالم .. أعدت قراءة الخبر العاجل .. جرحي، قتلي .. إرهاب .. خمدت عدوي الابتهاج بكابوس الاكتئاب .. كنيسة يا ظلمة في ليلة صلوات!!. نعم .. إن الهجوم مدبر في ليلة صلوات لتنقلب الأمنيات الحلوة في استقبال عام جديد .. إلي صريخ وخراب !.. وبدلا من مشاهدتنا لأفراح العالم، شاهدنا مأساة القتلي .. الجرحي .. الدماء بدلا من الزينات، ودخان الحرائق بدلا من الأنوار .. يالبشاعة المنظر.. وطن الحب قبل هذا الزمن تحدثنا عن الحب الذي يجمعنا معا في وطن واحد مسيحيين ومسلمين .. حملنا الهلال والصليب . حملنا الإنجيل والقرآن .. تبادلنا التهاني في الأعياد .. والمصافحة والقبلات .. قبل أن تحدث الفُرقة المدبرة بأقاويل وتصرفات .. من هنا وهناك فعلها صنّاع هذه الفُرقة بذكاء .. وحقيقته غباء .. وقد وجدوا أرضا خصبة لزراعة العداء .. أرضا خصبة لبذور الإرهاب .. قالوا هذا الحادث الفظيع ليس من أرض الوطن .. جاء من الخارج .. كيف نعيد الحب الذي كان .. كيف نعيد الوئام كما كان زمان؟! الحب والعدالة في كتابه الشيق (الإنسان وصحته النفسية) تحدث الدكتور (سيد صبحي) أستاذ الصحة النفسية والعلاج النفسي .. عن الحب وضرورته لصحة الإنسان النفسية لما يحتويه من شحنات وجدانية هي مزيج من الغبطة والسرور.. تحدث عن معان كثيرة في تجربة الحب بين الذكر .. والأنثي، وأن هذه التجربة السامية لا تعرف الأنانية أو إضاعة الوقت .. أو إخضاع الغير ... أو الرغبة في الامتلاك .. الحب الحقيقي يدفع طرفي العلاقة إلي العمل والإنتاج، وكثيرون قدموا أعظم أعمالهم في أي مجال من تخصصهم في مناخ من الحب والوصال الوجداني، فالحب بالنسبة لهم إضافة جديدة دفعتهم للعمل والابتكار.. وعندما نتحدث عن الحب والعدالة نجد كلماته تجتاز العلاقة بين اثنين إلي العلاقة بين أفراد المجتمع ككل : (يمثل الحب والعدالة قيمتين وفضيلتين تمثلان بدورهما موقفين أخلاقيين يتخذهما الإنسان نحو أشباهه من الناس، فإذا كان الحب يسعي إلي تحقيق الوصال بين الإنسان والآخر .. فإن العدالة بدورها تهتم بحقوق الآخر ومطالبه المشروعة.. وهنا يكون اللقاء بين الحب والعدالة.. فالحب الحقيقي لا يعرف الظلم أو القسوة .. ولا يعرف إضاعة الحقوق .. كما تعرف العدالة كل ما يحقق للإنسان سعادته وفق المشروعية والالتزام بالقيم والأعراف والقوانين، فالعدالة تعطي الحقوق .. والحب لا يعرف إلا العدل .. والعدل لا يمكن أن يسود بين الإنسان والآخر إلا في حضرة النفوس الصافية المحبة التي تعبر عن سلوكيات سوية وتصرفات أخلاقية مشبعة بالقيم الرفيعة السامية.. الحب في هذه الحالة يعمل علي تدعيم القيم البشرية، ويقوي الرابطة الوثيقة التي ينبغي أن تكون بين الإنسان وأخيه الإنسان).. عندما أقرأ هذا الكلام للأستاذ الدكتور (سيد صبحي) أقول: الله .. الله .. كما لو كنت أطرب بكلمات أغنية عاطفية بلحنها الهادئ الجميل .. كنت أسمعها زمان .. إننا نشتاق للحب بالعدل بين الجنسين، وبين أفراد مجتمعنا مهما كان الاختلاف في الدين فكلنا نحمل الجنسية المصرية . الحق .. الخير .. والجمال كيف نعيد الحب الذي كان .. كيف نعيد الوئام كما كان زمان ؟ ... قالوا : لنفكر بعيدا عن الخيال .. لكن .. دعونا ندخل قليلا في الخيال، ونقرأ لفيلسوف اليونان العظيم (أفلاطون) عن جمهوريته المثالية ليعيش الناس في سلام وأمان.. (أرجوكم لا تضحكوا .. دعوني أستمر في الكلام) لقد عاش (أفلاطون) في زمن كان المجتمع اليوناني مليئا بالمشكلات والاضطرابات والانقسامات فاقترح حلا مثل الأحلام الجميلة لإصلاح المجتمع، ويعيش ناسه في أمان وهو اتباع المثل العليا الثلاثة .. وهي : (الحق .. الخير .. والجمال) .. فهي أعلي المعاني وأسماها لأنها تحتوي علي كل شيء .. الحق في جانب العلم والمعرفة .. الخير في جانب الأخلاق والسلوك .. والجمال في جانب الفن .. بهذه المعاني صور (أفلاطون) جمهوريته المثالية كما يجب أن تكون.. اضحكوا كما ترغبون فالعالم قديما وحديثا ضحك من جمهورية أفلاطون وقالوا إنها ضرب من الخيال ولا يمكن أن يتحقق في واقع الحياة .. لكن صدقوني .. فالذي يقرأ بإمعان عن الحق والخير ولا ينسي الجمال سيجد أن الناس في العالم يمكن أن تعيش في مجتمعاتها بأمان إذا اتبعت ولو القليل من هذه المثل الثلاثة .. الحق .. الخير والجمال.. قطعة من خُبز الوطنية في كتابه (خبز الأقوياء) كتب الكاتب الكبير (إبراهيم المصري) في تعريف عناصر الوطنية: الشعور بالوطنية هو الشعور بين أبناء الوطن الواحد بالمشاركة في عواطف ثلاث : عاطفة تمجيد . عاطفة ألم وعاطفة رجاء .. العاطفة الأولي بتمجيد الوطن ممثلا في أروع صفحات ماضيه، وما بذله أبناؤه من جهود وتضحيات وما حققوه من مآثر وعظائم .. العاطفة الثانية الشعور العميق بالألم لما لحق بهذا الوطن في الماضي من هزائم، وما استهدف له في حياته الطويلة من مخاطر وعذابات .. أما العاطفة الثالثة فهي الشعور بالرجاء الصادق في وصل المآثر والعظائم التي حققها الوطن في الماضي بقوي الحاضر المتيقظ المتوثب تطلعا إلي مستقبل زاهر يمحو الألم واللوعة وتحاول أن تحققه للوطن عزيمة الأحياء .. هذه هي العناصر التي تنهض بشعب وتؤكد وجوده .