طوابير على باب معهد الكبد. عشرات المرضى يفترشون السلالم فى صراع معتاد يبدأ من السابعة صباحا حتى الخامسة ظهرا بآلام لا تخلو من أمل.. يستقبل معهد الكبد ما يزيد على 300 مريض يوميا من مرضى (فيروس سى)،ومن مختلف المحافظات فى سلسلة محاولات لمكافحة فيروس ينهش فى أجسامهم الهزيلة. 84 حقنة هى كورس العلاج، بمعدل 21 حقنة كل شهر لتحقيق أفضل النتائج. فى حالة زيادة الجرعة، يضطر المريض لتحمل 052 جنيها ثمن الجرعة الزيادة أسبوعيا، لذلك غالبا ما يكون البديل طلب العلاج على نفقة الدولة، حيث تساهم الحكومة بثلث تكلفة العلاج الذى يصل إلى 57 جنيها للمريض الواحد. على باب معهد الكبد من سوء المعاملة وانتهاء بالزحام، وتضارب المواعيد، لكن على الرغم من اختلاف قسمات الوجوه، والفوارق الجغرافية الظاهرة، تظل المعاناة واحدة.. والآلام واحدة.. والآمال هى الأخرى واحدة. وغالبا ما يقابل الروتين الحكومى حالات التفاؤل، ليعصف بها، وفى حالات كثيرة، غالبا ما يقف الروتين نفسه حائلا بين المرضى وفرص الشفاء، رغم ذلك يبقى إصرارهم على الشفاء.. وهنا معاناة المئات، فى قصص من دفتر الألم والأمل. ∎ الغلبان حقه ضايع (دخلت أعمل عملية خراج فى الخصية خرجت بفيروس سى) بهذه الجملة بدأ حمدى صالح ذو الخمسة والأربعين عاما كلامه بعصبية، نجحت فى تهدئته، واكتشفت أن يأسه فى الحصول على علاجه حتى الآن كان سبب انفعاله قال : أحضر كل يوم من الشرقية لاستكمال الأوراق المطلوبة لصرف العلاج.. ولا الأوراق بتخلص ولا العلاج بيتصرف!! (كل يوم يقولوا بكره عشان العلاج خلص.. يرضى مين ده ؟!) على الحال ده أكثر من شهر.. وعشان أنا غلبان ملقتش اللى يجيبلى حقى. مش أنا حقى أتعالج برضه؟ يكمل (كل يوم يمر على من غير الحقنة عمرى بينقص.. والفيروس بيسرح فى جسمى. يتوقف، امتلأت عيناه بالدموع، ويتحامل فى الحديث بصوت خفيض : أنا بموت بالبطىء.. كله بسبب إهمال الدكاترة وقلة الضمير.. حسبى الله ونعم الوكيل.. دمروا حياتى.. بقالى قد إيه ما قعدتش مع ولادى ولا لعبت معاهم علشان ما أعديهمش. خلال حديثنا، لمحت عجوزا على السلم سارحة فى ملكوت الله فى يدها حقيبة سوداء، تحكى عن أوجاعها، وتقول ملامحها كلاما كثيرا بلا كلام. عندها سمعت حكايتها.. تتخللها ابتسامات راضية بقضاء الله.. وغضب من خلق الله. اسمها (روحية) بدأت رحلتها مع المرض كما قالت : (من 6 أشهر فجأة.. رحت لدكتور طلب تحاليل.. بعدها اكتشفت إنى عيانة بفيروس سى.. رحلتى أسبوعيا من الغربية للقاهرة للعلاج. هنا بيعاملونا مش قوى. والروتين بيهينا علشان كده باضطر أنزل أكثر من مرة أحيانا علشان آخد العلاج. إهمالهم بيزود مرضنا.. وبيكسر نفسنا. حصلت الحاجة روحية حتى الآن على 21 حقنة.. بعد استكمال كورس العلاج، ستبقى التحاليل لمعرفة مدى نشاط الفيروس وهل تمت السيطرة عليه من عدمه. وفى حال احتاجت جرعات أخرى من العلاج. فمن جيبها052 جنيها للحقنة الواحدة أسبوعيا. ختمت الحاجة روحية كلامها بالدعاء لله ألا يطلبوا منها جرعات إضافية.. تمنت لو تظهر التحاليل نتائج إيجابية : (نفسى يموت الفيروس بقى.. لأنه لو لسه صاحى مش عارفة هعمل إيه؟). ∎ زماننا وزمن غيرنا هكذا بادرنى سعد حنفى الذى يعالج على نفقة جهة عمله. قال إنه ينفق رغم ذلك من جيبه كثيرا من الأحيان. يدفع كى يتفادى الروتين وتضييع الوقت. قال: كل مرة آجى آخذ الجرعة، يطالبونى ب 59 جنيها بدل حقنة.. لو عارضت يقولولى (العلاج خلص).. الكلام ده أسبوعيا، مع تكاليف العلاج الخارجى اللى بيكتبه لى دكتور المعهد والمواصلات من الفيوم للقاهرة.. كل دى تكاليف.. وأعباء مشاكل عم سعد مع المعهد كما قال : (فى كل الحالات بيستغل المريض.. عدم الالتزام وتضارب المواعيد واحتياجنا الشديد للحقن بيخلينا لقمة طرية فى إيدهم.. ما يعرفوش إنهم بيلعبوا بحياتنا.. التأخير فى مواعيد الحقنة بيزود تدهور حالة الكبد. علشان كده مواعيد الحقن مهمة..واحترام المريض مهم.. أغلب الناس هنا جايين من سفر علشان إبرة.. ماشى يا إبرة. من عم سعد إلى أم سعدية، أول ما تكلمت عنه (الكوسة والمحسوبيات).. قالت: (راضية بقضاء ربنا).. ثم امتلأت عيناها بالدموع. إحساس رهيب بالظلم والقهر. تعمل أم سعدية بالفلاحة، أو حسبما قالت : (كنت بزرع مع جوزى.. مرضى هو اللى خلانى أخرج من بلدنا لشبين الكوم، وهو اللى جابنى مصر (تقصد القاهرة) بزحامها وناسها.. ودوشتها. بعد ال 84 حقنة، طلبوا منى جرعات زيادة. والسعر كان غالى، قالوا لى إنى بتحسن ببطء.. لو فلوسى خلصت هرجع بلدنا.. ما هو هجيب منين ؟ سألتها عن العلاج على نفقة الدولة.. لماذا لم تجرب ؟ قالت : (مش هعرض نفسى للذل.. شوفت حالات كثيرة صحتهم باظت علشان الإهمال والوقت الكتير فى تخليص الأوراق.. الموظفين زى ما يكونوا بيحقدوا على العيانين.. والكوسة والمحسوبية هنا الأول). أضافت : (سبت الأمر فى إيد ربنا هو الشافى المعافى.. كلنا هنمشى.. هنموت يعنى، ولو عشت النهاردة هموت بكرة مافيش حد مخلد) فى كلتا الحالات راضية بقضاء الله. خلال حديثى مع أم سعدية، قاطعنا عم حسين قائلا بصوت عالٍ: مريض فيروس سى شحات.. واللى يقول غير كده حرام عليه. أكمل : كنت على السلم مستنى يوم زى عادتى، وخرجت بره أتهوا شوية.. الدنيا هنا زحمة وكتمة، واحنا مش حمل بهدلة الزحمة.. كنت مستنى يطلع لى قرار على نفقة الدولة اللى بيطلع بطلوع الروح. بعد سنة ونص. وأنا واقف، جه واحد إدانى فى إيدى اللى فيه القسمة.. جيت أكلمه لقيته هرب منى.. جرى.. مش عاوزنى أشكره على الحسنة.. مع إنى ما طلبتش حسنة.. مش بقولك مريض فيروس سى شحات ؟ ∎ خمول و هبوط.. «أم سيد» سيدة كبيرة فى السن، رأيتها تخرج من المعهد مستندة على إحدى الممرضات .. جلست أم سيد على سلم المعهد لتلتقط أنفاسها، ظننت أنها أرهقت من الزحام الشديد وتكدس المرضى داخل المعهد.. ولكنى علمت بعد ذلك أن هذا مفعول العلاج الذى أخذته فتقول: اللحظة التى أتلقى فيها العلاج تعتبر من أصعب اللحظات فى حياتى.. لأن العلاج قوى جدا حيث يجعل جميع أعضاء جسدى فى حالة خمول وهبوط.. ودائما ما يسبب لى ألما قويا فى رأسى، وعندما أخبرت الدكتور بذلك أجاب قائلا: «إن هذا شىء طبيعى بعد تلقى علاج قوى مثل هذا»!.. فهذه الجرعة تجعلنى غير قادرة على القيام بأى شىء .. فاليوم الذى آخذ فيه العلاج لا أتحمل السفر والعودة إلى بيتى فى الفيوم، مما يجعلنى أضطر إلى قضاء هذه الليلة مع ابنتى هنا فى القاهرة وأسافر فى اليوم التالى.. تركت أم سيد حتى لا أرهقها أكثر فى الحديث معى. ∎ وجع ساعة ولا وجع العمر كله.. أذهب إلى «عم يحيى» الذى قال لى: إنه دائما ما يشعر بدوران وغثيان بعد هذا العلاج، حيث يأخذ وقتا طويلا كى يسترد عافيته.. فيشعر بتنميل قوى فى ذراعيه وأسفل قدميه.. كما أنه تسبب فى ضعف نظره حتى طلب منه الدكتور القيام بالكشف على قاع العين كى يطمئن.. فهذه الحقنة ثقيلة جدا.. ولكننا مضطرون إلى أخذها.. فإذا جاء ميعادها ولم نأخذها سينشط الفيروس مرة أخرى ليس فى الكبد فقط، بل فى الجسم كله، ويقوم بتدميره.. ووقتها لن نستطيع السيطرة عليه».. «فوجع ساعة ولا وجع العمر كله».