أربع مخرجات شابات قدمن أفلامهن الطويلة الأولى عام 2013. والأفلام الأربعة لاقت استحسانا كبيرا من قبل النقاد والمتخصصين، وشاركت فى مهرجانات دولية وحصلت على العديد من الجوائز المهمة. المخرجات والأفلام هى: «الخروج للنهار» لهالة لطفى، «هرج ومرج» لنادين خان، «فيللا 96» لآيتن أمين و«عشم» لماجى مرجان، وإذا أضفت إليهم «فرش وغطا» لأحمد عبدالله الذى حصل على الجائزة الكبرى لمهرجان مونبيليه، و«فتاة المصنع» للكبير محمد خان الذى أختتم به العام متوجا بجائزتين فى مهرجان «دبى»، فلا ينبغى أن تتذمر أبدا من مستوى السينما المصرية.
لو كنا فى عام آخر، وزمن آخر، لكان هذا إنجازا هائلا نتفاخر به، ومع ذلك فالكل يشكو من انهيار الصناعة وانحدار المستوى الفنى بسبب النجاح التجارى لأفلام مثل «قلب الأسد» و«القشاش» وكأن السينما المصرية لم تقدم سوى هذين الفيلمين مع أنها قدمت أعمالا كثيرة فى ظل الظروف السيئة التى تمر بها البلد، ولكن الجمهور «العظيم» لم يقبل سوى على هذين الفيلمين، ووسائل الإعلام لم تهتم سوى بهما.
بالرغم من الظروف السياسية العصيبة التى نمر بها، والتى كان يمكن أن تؤدى لتوقف صناعة السينما تماما، إلا أن السينمائيين المصريين يصرون على البقاء والمقاومة، سواء على مستوى الصناعة والتجارة التى تعتمد على جمهور بات من الصعب عليه أن ينزل من بيته أصلا بسبب المظاهرات والاشتباكات وحظر التجول، أو على مستوى الإبداع الفنى الذى يتطلب عادة أوضاعا مستقرة يمكن تأملها وتحليلها وإعادة تقديمها فى رؤية فنية.
الرؤية أصبحت صعبة ومرتبكة عند الجميع، وخاصة عند المثقفين، فكيف يمكن أن ننتظر من الفنانين تقديم أعمال سينمائية جيدة وجادة عن الواقع المصرى، بينما يروغ ويفلت هذا الواقع من أيدينا وأعيننا مثل حفنة من الماء بين أصابع اليد؟!
∎ نساء فى مقدمة الصفوف
لن أخوض فى تفاصيل حول الأوضاع السياسية والسينمائية، ولكن فى كلمتين: منذ 25 يناير والنساء المصريات يشاركن فى الحياة العامة بشكل غير مسبوق فى تاريخنا، وكل محاولات إعادتها للخلف أو منعها من التقدم باءت بالفشل. ويتجلى هذا فى مجال السينما كأفضل ما يكون. لم تتوقف السينمائيات الشابات عن النضال فى ميادين الثورة ضد مبارك والعسكر والإخوان برغم الاعتقالات والعنف وفرق التحرش والاغتصاب الجماعى وكل الحقارات والسفالات التى ووجهن بها على مدار الأعوام الثلاثة الماضية.
كثير من السينمائيات الشابات اللواتى أعرفهن شاركن فى توثيق أحداث الثورة وما بعدها، والأسماء أكثر من أن تحصى واللواتى يرد ذكرهن فى هذا المقال هن مجرد أمثلة لمشاريع مكتملة بينما هناك مشاريع أخرى كثيرة لم تكتمل بعد.
ربما تكون قد سمعت عن الأفلام والمخرجات الأربعة اللواتى بدأت بهن المقال والسبب أنهن صنعن أفلاما روائية طويلة عرضت فى المهرجانات ودور العرض، ولكن هناك مشاريع أخرى كثيرة غير الأفلام الروائية مثل توثيق الأحداث السياسية الذى تقوم به المخرجة سلمى الطرزى مع أخريات وآخرين، أو الذى تقوم به عايدة الكاشف، ابنة الراحل رضوان الكاشف، أو الأفلام القصيرة التى تصنعها نيفين شلبى.. وغيرهن.
وبجانب هذه الأعمال فربما لا تعلم أيضا أن هناك فيلما نصف مصرى ينتظر له أن يصل إلى القائمة القصيرة لأوسكار أفضل فيلم وثائقى هذا العام، ويرجح الكثيرون أن يفوز بالجائزة، وهو بعنوان «الميدان» ومخرجته هى جيهان نجيم الأمريكية من أصل مصرى.
الأكثر أهمية فيما يتعلق بالنساء والأفلام فى كلامنا السابق هو المستوى الفنى والمضمون الغنى والرؤية المختلفة التى يمكن أن نلاحظها فى هذه الأعمال بدرجات متفاوتة.
فى «الخروج للنهار» يمكن أن ترى «الواقعية» كما لم ترها من قبل. انس كل ما يتعلق بكمال سليم وصلاح أبوسيف وعاطف الطيب وغيرهم.. ولا أقصد الجودة الفنية، ولكن أقصد الأسلوب ووجهة النظر والمذاق المختلف للأفلام. الواقعية فى «الخروج للنهار» تتخلى عن أى وهم يتعلق بالرسالة الاجتماعية أو التوجيه المعنوى للجمهور أو الترفيه الميلودرامى واستثارة العواطف الجياشة. الجمال الفنى والمتعة ينبعان هنا من التأمل العقلى فى لوحة فنية تصور البؤس البشرى بعين جفت فيها الدموع.
فى «هرج ومرج» محاولة أخرى ناجحة للخروج من قفص «الواقعية» إلى عالم أرحب من الخيال نرى فيه الأحياء العشوائية الفقيرة كما لم نرها من قبل.. كما لو أن الحى تحول إلى خشبة مسرح يلعب فيه الناس أدوارا محفوظة، وكما لو أنهم ممثلون يؤدون أدوارا فى فيلم. بمعنى آخر: الواقع هنا مجرد لعبة متفق عليها والممثلون مثل البشر هم مجرد قطع شطرنج تتحرك على لوحة فى دور نموذجى معروف وسبق رؤيته كثيرا من قبل. ومع أن الفيلم يعتمد على ممثلين محترفين معروفين إلا أن التمثيل هنا يأتى من منطقة مختلفة تماما عن المتعارف عليه فى «أفلام الحارة» المصرية.
فى «فيللا 69» الطموح أبسط والمزاج أقل تشاؤما بالرغم من أنه يدور أيضا حول الموت.
المعنى هنا أكثر وضوحا وقبولا وهو التواصل بين الأجيال وضرورة التصالح مع الموت وتعاقب الأجيال. البناء الدرامى للفيلم أكثر تقليدية وكذلك بقية عناصره الفنية. يضم الفيلم أيضا نجوما بشهرة خالد أبوالنجا ولبلبة وأروى جودة بجانب ممثلين غير محترفين أو غير مشهورين. التميز يأتى هنا من الحساسية الأنثوية المختلفة التى نرى من خلالها القصة والشخصيات، والتى تترك بصماتها على كل عناصر العمل من سيناريو وتمثيل وتصوير..إلخ.
«عشم» ينتمى لنوعية فيلم «سهر الليالى» لتامر حبيب وهانى خليفة و«واحد صفر» لمريم ناعوم وكاملة أبوذكرى من حيث عرضه لبعض الحكايات المتشابكة لأزواج وأفراد من شرائح طبقية وجنسية ودينية مختلفة، مثل لوحة بانورامية لأوجاع المجتمع عشية ثورة 25 يناير. ∎ المستقلون يتحدون النجوم فى دور العرض
الملحوظة الأخرى الأكثر بروزا فى 2013 تتعلق بالتطور الذى شهده ما نطلق عليه «السينما المستقلة فى مصر»، أى تلك الأفلام التى تصنع بميزانيات منخفضة وكاميرات رقمية صغيرة، والتى كانت تقتصر على الأفلام الوثائقية والروائية القصيرة حتى وقت قصير مضى، ولكنها شهدت فى الفترة الأخيرة العديد من الإنتاجات الروائية الطويلة التى نجحت فى عبور حاجز التوزيع والوصول إلى دور العرض العام، حتى لو كانت فى نسخ محدودة وإقبال جماهيرى متواضع حتى الآن.
وبجانب الأفلام السابق ذكرها يمكن أن نضيف «الشتا اللى فات» لإبراهيم البطوط و«فرش وغطا» لأحمد عبدالله.
«الشتا اللى فات» ينضم إلى الأفلام القليلة التى تناولت أحداث ثورة يناير وما بعدها، وهو مثل أفلام البطوط السابقة يعتمد على التأليف الجماعى والارتجال والممثلين الهواة، بالرغم من مشاركة النجمين عمرو واكد وفرح يوسف فى هذا الفيلم.
«فرش وغطا» سبق أن كتبت عنه هنا، و«فتاة المصنع» لمحمد خان لم أشاهده بعد، وما بقى من إنتاجات السينما المصرية خلال عام 3102 يمكن أن يكون كثيرا من ناحية الكم، حوالى عشرون فيلما، وهو، بحلوه ومره، يدور فى فلك السينما المصرية السائدة، بحلوها ومرها.
يتراوح المستوى فى هذه الأفلام من «الحرامى والعبيط» لمحمد مصطفى و«فبراير الأسود» لمحمد أمين، وكلاهما فيلمان طموحان فنيا متوسطان فى النتيجة التى وصلا إليها، نزولا إلى «قلب الأسد» و«كلبى دليلى» و«بوسى كات» وبقية جنينة الحيوانات السينمائية!
الملحوظة الثالثة هى وجود عدد كبير من المخرجين الجدد منهم محمد العدل، محمد حمدى، علاء الشريف، محمد بكير، كريم السبكى، إسماعيل فاروق، بيتر ميمى وأحمد شاهين، بجانب أسماء المخرجات التى سبق ذكرها أعلاه. ولكن ذلك لا يعنى بالضرورة أن أفلام هؤلاء المخرجين «جديدة» أو «شابة»، فالكثير منها ينتمى لأسوأ أنواع الأفلام المصرية.
الملحوظة الرابعة هى تراجع أفلام «نجوم الشباك» فى مواجهة أفلام نجوم جدد مثل محمد رمضان ومحمد فراج.
من النجوم الذين قدموا أفلاما هذا العام محمد سعد فى «تتح»، أحمد حلمى فى «على جثتى»، أحمد مكى فى «سمير أبو النيل»، أحمد عز فى «الحفلة»، ولكن كلها لم تحقق النجاح الذى كان يمكن أن تحققه منذ سنوات مضت.
النجمات النساء غبن تماما باستثناء علا غانم التى قدمت أول بطولة مطلقة لها فى «البرنسيسة» ولكنه الاستثناء الذى يثبت الغياب. واضح أن السينما المصرية تحتاج لنجمات جدد، وقد تألقت هذا العام حورية فرغلى بثلاثة أفلام، روبى بفيلمين كما لمعت بعض الممثلات الشابات مثل ميريت فى «هاتولى راجل»، وياسمين رئيس فى «فتاة المصنع»، وهو الدور الذى حصلت عنه على جائزة مهرجان دبى منذ أسبوعين.
بجانب الوجوه الجديدة يمكن أن نضيف أيضا «الجسد» الجديد للراقصة صوفينار، التى برقصة واحدة، هزت مصر طولا وعرضا فى فيلم «القشاش»، كما يمكن أن نضيف عددا من مغنيى «المهرجانات» أمثال أوكا وأورتيجا وبوسى الذين طعموا الأفلام التجارية ببعض الأغانى والرقصات «الخالدة».
فى كل الأحوال، هذه هى طبيعة السينما التجارية السائدة: كثير من الهزل وقليل من الفن والجدية رغم أن المستوى الذى يمكن أن يصل إليه الفن أو يهبط إليه الهزل هو المعيار. والمعيار هنا يتحكم فيه جمهور يعيش فى حالة ارتباك وفوضى وظروف اقتصادية واجتماعية صعبة وانفلات أخلاقى وأمنى وعنف بدنى، ولذلك كله لا يصح أن نحكم على مستوى الأفلام من برج عال بعيدا عن هذه الظروف.