سمعناهم كثيرا هذه الأيام يتحدثون عن الديمقراطية.. من قرأ معناها فى الكتب السياسية ومن شاهدها فى بلاد أجنبية ومن قال لابد أن نقيم ديمقراطية مصرية، ومن قال إن الشعب المصرى بعيد عنها تماما، وأمامه سنين طويلة ليفهمها ويعمل بها.. وفى المقابل نجد الذين يقولون إنهم يمارسون الديمقراطية!.. كيف؟! من وجدها فى الخروج عن اللياقة والأدب فى مواجهة الآخر.. ومن وجدها فى تصغير الكبراء.. ومن وجدها فى فعل أى شىء يسره ويضر الآخرين!.. ومن وجدوها فى اختيار علم غير العلم الوطنى!.. ومن وجدها فى ترويع الناس بكل أشكال الترويع التى تحرمها الأديان السماوية وتعاقب عليها القوانين الدولية، فهو لم يفهم تحريم الأديان لهذه الأفعال ولم يجد الردع الحاسم الفورى من قانون العقوبات.. واعتقد أنه حر ديمقراطيا يفعل ما يشاء فى أى وقت يشاء!!.. و«ياوكستك يا ديمقراطية».
∎ الماشى.. ماشى.. والراكب.. راكب
هذا عنوان قصة للكاتب التركى الساخر «عزيز نسين» الذى كان يفهم طبيعة الشعوب العربية وطلبها فى تحقيق الديمقراطية.. وكتب لنا مثلا من الشعب التركى فى هذه القصة.. يحكى الراوى أنه ركب سيارة أجرة من النوع «الميكروباص» مع صديق له وعدد من الركاب، وكان السائق يتصبب عرقا وهو يشير إلى أحد المشاة الذين يمرون أمام السيارة!.. وقال «إلى الآن لم يتعلموا السير فى الطريق».. أيده الراوى وقال إن السير الصحيح فى الطريق هو جوهر المدنية.. والمعنى الحقيقى لها.. بعد قليل نزل شخص من أحد الباصات بدون وعى فأوشك أن يقع تحت السيارة الأجرة، مما أدى إلى ضغط السائق على الفرامل.. وتحركت أجساد الراكبين إلى الأمام بقوة.
قال صديق الراوى مخاطبا الرجل الذى كاد أن يقع تحت السيارة «انظر أمامك» ثم سأل صديقه «ماذا باستطاعتك أن تفعله لهؤلاء الناس الذين لم يتعلموا إلى الآن السير فى الطريق؟».
قال الراوى: «لا خير فى هذا البلد من هؤلاء الناس.. وأراد أن يقول فكرته.. أكمل كلامه.. «قبل كل شىء يجب أن نتعلم السير فى الطريق فأين نحن من الديمقراطية.. مازالت بعيدة عن بلدنا كثيرا».
قال أحد الركاب «فعلا أين نحن من الديمقراطية ولم نتعلم السير فى الطريق»؟!
وقبل أن يكمل كلامه اصطدم الركاب ببعضهم البعض من جراء ضغط السائق على الفرامل كى لا يدهس أحد العابرين للشارع.. قال الراوى: «مددنا رءوسنا من النوافذ وصرخنا.. يا حيوان.. انظر أمامك يا حمار.. انفجرنا بالصريخ على هذا الأحمق الذى لم يتعلم عبور الشارع إلى الآن».
تبادل الركاب الملاحظات والحلول أما الراوى فقد دخل فى الموضوع عن فكرته.
قال: «يا سيدى كيف ستعطى الحرية لرجل إلى الآن لم يتعلم أصول السير فى الطريق.. مَنْ يتكلم صح.. ومَنْ يتكلم خطأ؟!.. إذا كنت تركب سيارة سيكون كلامك صحيحا ويكون عندئذ كلام الذين يسيرون على الأقدام هو الخطأ.. أما إذا كنت تسير على الأقدام فأنت على حق والذين يركبون السيارة على خطأ.
إن الذين يركبون السيارة يمثلون السلطة، والأحزاب المعارضة تسير على الأقدام، وكلاهما على حق.. هم على حق لدرجة أنهم يغضبون من الذين يركبون السيارة عندما يكونون فى المعارضة.. والذين فى السلطة يغضبون من الذين يسيرون على الأقدام.
وهذا هو السبب الكامن وراء الصراخ القائم بين الرجل القادم من السلطة مع المعارضة وعندما يصبح مع المعارضة يبدأ صراعه مع السلطة!! ولنفهم هذا.
أما الشعب فيقول لرجال الأحزاب المعارضة إنهم يتكلمون عكس ما كانوا بالأمس مع السلطة.. كيف لا.. وقد أصبحوا ممن يسيرون على الأقدام!!
ويقول عن رجال السلطة.. إنهم لم يفوا بوعودهم للشعب.. ولكن كيف لهم أن يفوا بوعودهم وقد ركبوا السيارة؟!
وكما فى نظرية الكاتب الساخر «عزيز نسين» لن تكون الديمقراطية فى وطن لا يعرف شعبه كيف يسيرون فى الطريق أو... يغيرون مبادئهم ليس عن دراسة وقناعة بل بفكرة راكب السيارة.. والماشى على الأقدام.
∎ الجرح الذى يبقى
من الأمور المضايقة فى الحياة أن يخلص الإنسان لآخر.. لعمله. لقضية ما. لا يكذب ولا يناور ثم يجد رد فعل رديئا أو صادما.. يداهمه شعور بالضيق ويبقى مهموما لفترة زمن تطول أو تقصر بشعور الذى أخذ من هذا العالم «مقلبا» وإنه خذل كما يخذل الحمقى.. ووجدت الجرح الذى يبقى فى هذه القصة الأفريقية الشعبية، حيث كان قديما الإنسان والحيوان يتبادلان الحديث ويفهم كل منهما الآخر.
كانت امرأة عجوز فى إحدى قرى أفريقيا مهمتها فى أسرتها أن تذهب إلى النهر وتملأ وعاء من الماء.. وذات صباح بينما هى منحنية تملأ الوعاء شعرت بحركة جوارها.. نظرت وجدت أسدا أفريقيا يتأملها.. كانت تعلم أن نظرة الإنسان فى عينى الأسد دون أن يخفض بصره يمكنه الانتصار عليه، وهكذا فعلت. إلى أن شعرت بالاطمئنان والأسد لن يهاجمها.. رفعت وعاء الماء ببطء ووضعته على رأسها وسارت بخطوات واثقة إلى قريتها.
فى اليوم التالى وجدت المرأة الأسد ينتظرها، نظرت فى عينيه.. لم تعد تخافه وابتسمت له.. فى الأيام التالية كانت تجد الأسد ينتظرها.. ثم بدأ يسير وراءها.. ثم بدأ يسير بجوارها إلى أن تخرج من الغابة وتصل إلى قريتها. مع الأيام بدأ كل منهما يألف الآخر.. ويتبادلان الحديث بطريقة ما.. حكت له عن ذكرياتها وهمومها.. وكان الأسد يبدو منصتا باهتمام ثم يقول رأيه، بعد مضى شهور على الصداقة التى نشأت بينهما أراد الأسد أن يعرف رأى المرأة فيه.. ذات ليلة بعد أن أرخى الليل سدوله حتى لم يعد أحد خارج بيته فى القرية.. اقترب الأسد من كوخ المرأة وجد مصباحا مضيئا يعنى أن أهل البيت ساهرون. قرب الأسد أذنه من الباب وأنصت إلى ما يقال وكانت المرأة بالفعل تتحدث عنه.
قالت إنه أحسن صديق فى العالم.. وصفت إنصاته لها وحكمته فى حديثه ونصائحه.. وإنه وديع مثل القطة.. لكنها قالت: غير أن عيبا يكاد يفسد كل ما سبق عيب لا يحتمل ذلك يا أبنائى أن رائحة فمه نتنة.
شعر الأسد بجرح فى قلبه.. ألم تعرف المرأة أنه يأكل اللحوم، ألم تقدر طيبته وأنه لم يأكلها.. وتقلل من هيبته هكذا أمام أبنائها.. وسينقلون كلامها للآخرين إلى أن يصل إلى حيوانات الغابة وكيف يكون ملكهم وقد فقد هيبته؟!.. جرى الأسد إلى الغابة وفى صباح اليوم التالى قبل أن يذهب إلى موعده معها ذهب إلى حطاب فى الغابة وأمره أن يعطيه ساطوره الذى يقطع به الخشب وإلا افترسه.. ترك الحطاب ساطوره وجرى من أمامه.
حمل الأسد الساطور بفمه وذهب إلى موعده مع المرأة التى لاحظت أنه يبدو شرسا.. سألها أن تأخذ الساطور وتضربه على جبهته ضربة قوية.. ارتعدت المرأة من طلبه وقالت إنها لا تريد أن تضربه فهو أحسن صديق.. أمرها أن تنفذ رغبته وإلا افترسها.. ففعلت وانفجر الدم من جبهته وجرى الأسد إلى داخل الغابة.
لم تر المرأة صديقها الأسد لعدة أشهر.. بعدها وجدته قادما نحوها وهى تملأ إناءها من النهر قالت له بفرحة إنها كانت قلقة عليه وكم اشتاقت لصحبته.. قال الأسد: نعم عدت.. انظرى إلى جبتهى الآن.. قالت: لم يعد بها أثر للجرح.. لقد شفيت تماما.. نظر إليها الأسد ولاحظت بريقا فى عينيه مثل دموع راكدة.. وقال: نعم أترين كيف تندمل جروح الجسد.. إنها تشفى دائما لكن جروح القلب لا تشفى.. إنها تبقى أبدا.
انتهت القصة بكلمات الأسد ولنفهم من حكمة القصة الأفريقية أن الكلمة الحلوة مثل البلسم الشافى.. والكلمة الرديئة المؤلمة تجرح ويبقى الجرح فى النفس، فى القلب، لايشفى.